أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2020
3145
التاريخ: 28-8-2020
2644
التاريخ: 31-8-2020
6548
التاريخ: 31-8-2020
4607
|
قال تعالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات : 11 - 26] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {فاستفتهم} أي فاسألهم يا محمد سؤال تقرير {أ هم أشد خلقا} أي أحكم صنعا {أم من خلقنا} قبلهم من الأمم الماضية والقرون السالفة يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالعذاب وقيل أ هم أشد خلقا أم من خلقنا من الملائكة والسماوات والأرض وغلب ما يعقل على ما لا يعقل {إنا خلقناهم من طين لازب} معناه أنهم إن قالوا نحن أشد فأعلمهم أن الله خلقهم من طين فكيف صاروا أشد قوة منهم والمراد أن آدم خلقه الله من طين وأن هؤلاء نسله وذريته فكأنهم منه وقال ابن عباس اللازب الملتصق من الطين الحر الجيد .
{بل عجبت} يا محمد من تكذيبهم إياك {ويسخرون} من تعجبك ومن ضم التاء فالمراد أنه سبحانه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخبر عن نفسه بأنه عجب من هذا القرآن حين أعطيه وسخر منه أهل الضلال وتقديره قل بل عجبت عن المبرد وقيل يسخرون أي يهزءون بدعائك إياهم إلى الله والنظر في دلائله وآياته وروي عن الأعمش عن أبي وائل قال قرأ عبد الله بن مسعود بل عجبت بالضم فقال شريح إن الله لا يعجب إنما يعجب من لا يعلم قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال أن شريحا كان معجبا برأيه إن عبد الله قرأ بل عجبت وعبد الله أعلم من شريح وإضافة العجب إلى الله تعالى ورد الخبر به كقوله : (عجب ربكم من شباب ليس له صبوة وعجب ربكم من الكم وقنوطكم) (2) .
ويكون ذلك على وجهين عجب مما يرضى ومعناه الاستحسان والخبر عن تمام الرضى وعجب مما يكره ومعناه الإنكار له والذم .
{وإذا ذكروا لا يذكرون} أي وإذا خوفوا بالله ووعظوا بالقرآن لا ينتفعون بذلك ولا يتعظون به {وإذا رأوا آية} من آيات الله ومعجزة مثل انشقاق القمر وغيرها {يستخسرون} أي يستهزءؤن ويقولون هذا عمل السحر وسخر واستسخر بمعنى واحد وقيل معناه يستدعي بعضهم بعضا إلى إظهار السخرية وقيل معناه يعتقدونه سخرية كما تقول استقبحه أي اعتقده قبيحا واستحسنه أي اعتقده حسنا .
{وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} أي وقالوا لتلك الآية ما هذا إلا سحر ظاهر وتمويه {أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمبعوثون} بعد ذلك ومحشورون أي كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا {أ وآباؤنا الأولون} الذين تقدمونا بهذه الصفة أي أ ويبعث آباؤنا بعد ما صاروا ترابا يعنون أن هذا لا يكون ومن فتح الواو وجعلها واو العطف دخل عليها همزة الاستفهام كقوله {أ وأمن أهل القرى} .
ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {قل} لهم {نعم} تبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون أشد الصغار ثم ذكر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال {فإنما هي} أي فإنما قصة البعث {زجرة واحدة} أي صيحة واحدة من إسرافيل يعني نفخة البعث والزجرة الصرفة عن الشيء بالمخافة فكأنهم زجروا عن الحال التي هم فيها إلى الحشر {فإذا هم ينظرون} إلى البعث الذي كذبوا به وقيل معناه فإذا هم أحياء ينتظرون ما ينزل بهم من عذاب الله {وقالوا} أي ويقولون معترفين على نفوسهم بالعصيان {يا ويلنا} من العذاب وهو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة ومثله يا حسرتنا ينادون مثل هذه الأشياء على وجه التنبيه على عظم الحال {هذا يوم الدين} أي يوم الحساب عن ابن عباس وقيل يوم الجزاء عن قتادة والمراد أنهم اعترفوا بالحق خاضعين نادمين .
ثم أخبر سبحانه عن حالهم أيضا فقال {هذا يوم الفصل} بين الخلائق والحكم وتمييز الحق من الباطل على وجه يظهر لجميعهم الحال فيه وذلك بأن يدخل المطيع الجنة على وجه الإكرام ويدخل العاصي النار على وجه الإهانة {الذي كنتم} يا معشر الكفار {به تكذبون} وهذا كلام بعضهم لبعض وقيل بل هو كلام الملائكة ثم حكى سبحانه ما يقوله للملائكة بأن قال {احشروا الذين ظلموا} أنفسهم بارتكاب المعاصي أي اجمعوهم من كل جهة وقيل ظلموا أنفسهم بمخالفتهم أمر الله سبحانه وبتكذيبهم الرسل وقيل ظلموا الناس .
{وأزواجهم} أي وأشباههم عن ابن عباس ومجاهد ومثله وكنتم أزواجا ثلاثة أي أشباها وأشكالا ثلاثة فيكون المعنى أن صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا وصاحب الخمر مع أصحاب الخمر إلى غيرهم وقيل وأشياعهم من الكفار عن قتادة وقيل وأزواجهم المشركات كأنه قال احشروا المشركين والمشركات عن الحسن وقيل وأتباعهم على الكفر ونظراؤهم وضرباؤهم .
{وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله فبشرهم بعذاب أليم من حيث أن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم {وقفوهم} أي قفوا هؤلاء الكفار واحبسوهم عن دخول النار {إنهم مسئولون} روى أنس بن مالك مرفوعا إنهم مسئولون عما دعوا إليه من البدع وقيل مسئولون عن أعمالهم وخطاياهم عن الضحاك وقيل عن قول لا إله إلا الله عن ابن عباس وقيل عن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا حدثناه عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد يقال وقفت أنا ووقفت غيري وبعض بني تميم يقول أوقفت الدابة والدار وأنشد الفراء :
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** وإن نحن أومأنا إلى الناس أوقفوا
{ما لكم لا تناصرون} أي : لا تتناصرون وهذا على وجه التوبيخ والتبكيت أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا في دفع العذاب والتقدير ما لكم غير متناصرين ثم بين سبحانه أنهم لا يقدرون على التناصر فقال {بل هم اليوم مستسلمون} أي منقادون خاضعون ومعنى الاستسلام أن يلقي بيده غير منازع فيما يراد منه .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص299-301 .
2- قال ابن الاثير الصبوة : الميل الى الهوى وقال في (ألل) في الحديث : ((عجب ربكم من الكم وقنوطكم)) اللال : شدة القنوط . ويجوز ان يكون من رفع الصوت بالبكاء . وقال أبو عبيدة : المحدثون يروونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عند أهل اللغة الفتح ، وهو أشبه بالمصادر .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} . اسأل يا محمد الذين أنكروا البعث : أخلق السماوات والأرض من لا شيء أصعب أم إعادة الإنسان بعد موته إلى الحياة ، وقد خلقه اللَّه من طين رخولزج يلزم ما يجاوره ويلتصق به ؟ ان الذي قدر على إيجاد الكون من لا شيء يهون عليه أن يعيد أجزاء الإنسان ، ويجمعها بعد تفرقها . وفي الآية 57 من سورة غافر :
{لَخَلْقُ السَّماواتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
وتسأل : قال تعالى في سورة الكهف الآية 22 : {ولا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} وقال هنا : {فاستفتهم} فما هو وجه التوفيق بين الآيتين ؟
الجواب : ان موضوع آية الكهف خاص بأهل الكهف وحدهم ، حيث نهى سبحانه نبيه الكريم أن يسأل أحدا عنهم بعد أن أخبره اللَّه عن أحوالهم ، أما السؤال هنا فإنه موجه إلى المشركين فقط ، والقصد منه توبيخهم وإلقاء الحجة عليهم .
{بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ} . انك تعجب يا محمد من المشركين حيث جعلوا للَّه شركاء مع أن دلائل التوحيد بينة واضحة . . وهم أيضا يعجبون منك بل ويسخرون لأن دلائل الشرك هي البينة الواضحة في مفهومهم . . لا دلائل التوحيد .
ويدل على أن هذا المعنى هو المراد - ما حكاه سبحانه عن المشركين في الآية 5 من سورة ص : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ } . وإذا قال قائل مع المعري :
كل يعزز دينه * يا ليت شعري ما الصحيح
قلنا في جوابه : هناك مبادئ واضحة وحقائق لا يختلف عليها اثنان حيث يشترك في معرفتها الجاهل والعالم ، مثل العلم خير من الجهل ، والغنى خير من الفقر ، وما إلى ذلك ، فإذا تنازع اثنان في مسألة نظرية ، فمن انتهى قوله إلى المبادئ الواضحة فهو المحق والا فهو مبطل .
{وإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} . لأن من استسلم لأهوائه وتقاليد آبائه عمي عن الحق (ومن زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة ، وسكر سكر الضلالة) كما قال الإمام علي (عليه السلام) . {وقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . تكرر منهم هذا القول في العديد من الآيات ، منها الآية 7 من سورة الأنعام ج 3 ص 163 {أَإِذا مِتْنا وكُنَّا تُراباً وعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَو آباؤُنَا الأَوَّلُونَ} . المعنى واضح وتكرر مرات . أنظر الآية 5 من سورة الرعد و49 و98 من سورة الإسراء و82 من سورة المؤمنون و68 من سورة النمل .
{قُلْ نَعَمْ وأَنْتُمْ داخِرُونَ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ} . قل يا محمد لمنكري البعث جوابا عن سؤالهم : أئنا لمبعوثون ؟ قل لهم : أجل ، انكم تبعثون من قبوركم بكلمة واحدة من اللَّه ، وتحشرون إليه أذلاء صاغرين ، وترون بالعين العذاب الذي كنتم به تكذبون .
( وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين - أي الجزاء - هذا يوم الفصل - أي بين الحق والباطل - الذي كنتم به تكذبون ) . إذا جاءهم الحق ، وسنحت الفرصة للعمل قالوا : هذا كذب وسحر لا يصدق به إلا جاهل مخدوع . وإذا فات أوان العمل وجاء وقت الجزاء وذاقوا وبال أمرهم قالوا : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين . . وتتكرر هذه الصورة في كل حين . . يسعى الجاهل فيما يضره ، فينهاه العاقل الناصح ، ويحذره من العواقب ، ولكنه يسخر ويركب رأسه حتى إذا وقعت الواقعة ، وجاءه البلاء الذي لا مفر له منه ، وأدرك أنه أخيب الناس سعيا عض يد الندامة وقال : يا ليتني لم أك شياً .
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأَزْواجَهُمْ وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . المراد بالأزواج هنا الأشكال والأشباه ، وتومئ الآية إلى تصنيف المجرمين ، وان المشرك يحشر مع المشركين في مكان واحد من جهنم ومعهم الأصنام التي كانوا يعبدون ، وكذلك السارق مع السارقين ، وهكذا كل شكل إلى شكله قرين تماما كما كانوا في الحياة الدنيا {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} . بعد أن يتم حساب المجرمين يقال للملائكة : عجلوا بهم إلى سواء الجحيم .
{وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} . قبل أن تذهب الملائكة بالمجرمين إلى جهنم يحبسون إلى السؤال عما كانوا يعملون . وفي بعض الروايات : يسأل المرء يومذاك عن عمره فيم أبلاه ، وعن ماله مم كسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ما ذا عمل به ، أما التوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ ولا جَانٌّ} [الرحمن - 39] أما هذا التوفيق فقد أشرنا إليه أكثر من مرة ، ويتلخص بأن لليوم الآخر مواقف يسأل المرء في بعضها دون بعض . انظر تفسير الآية 65 من سورة يس .
{ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ} ؟ الخطاب للمجرمين ، والمعنى يقال لهم غدا : لما ذا لا يدفع بعضكم العذاب عن بعض في هذا اليوم ، وقد كنتم في الحياة الدنيا متكافلين متضامنين ضد الحق وأهله . والغرض من هذا السؤال التقريع والتوبيخ {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} . انقادوا لأمر اللَّه لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .
______________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص332-334 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب} اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره ، وقال في مجمع البيان ، : اللازب واللازم بمعنى .
انتهى .
والمراد بقوله : {من خلقنا} إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة وهم حفظة الوحي ورماة الشهب ، وإما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات والأرض والملائكة ، والتعبير بلفظ أولي العقل للتغليب .
والمعنى : فإذا كان الله هورب السماوات والأرض وما بينهما والملائكة فاسألهم أن يفتوا أ هم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا .
وقوله تعالى : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات : 12 - 26] .
حكاية استهزائهم بآيات الله وبعض أقاويلهم المبنية على الكفر وإنكار المعاد والرد عليهم بتقرير أمر البعث وما يجري عليهم فيه من الشدة وألوان العذاب وما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة والكرامة .
وفيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة ، وذكر محادثة بين أهل الجنة وأخرى بين بعضهم وبعض أهل النار .
قوله تعالى : {بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون} أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق ، وهم يسخرون ويهزءون من تعجبك منهم أومن دعائك إياهم إلى الحق ، وإذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد ودين الحق لا يذكرون ولا يتنبهون .
قوله تعالى : {وإذا رأوا آية يستسخرون} في مجمع البيان ، : سخر واستسخر بمعنى واحد .
انتهى .
والمعنى : وإذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن وشق القمر يستهزءون بها .
قوله تعالى : {وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شيء ما من غير زيادة وهومن أقوى الإهانة والاستسخار .
قوله تعالى : {أ إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمبعوثون أ وآباؤنا الأولون} إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه ويعود ترابا وعظاما ثم يعود إلى صورته الأولى .
ومن الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم وقد انمحت رسومهم ولم يبق منهم إلا أحاديث أشد وأقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم .
ولوكان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم وفي آبائهم على نهج واحد ولم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم .
قوله تعالى : {قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون .
وقوله : {وأنتم داخرون} أي صاغرون مهانون أذلاء ، وهذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة ونفوذ الإرادة من غير مهلة ، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولذا عقبه بقوله : {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} وقد قال تعالى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [النحل : 77] .
وقوله : {فإنما هي زجرة واحدة} إلخ الفاء لإفادة التعليل والجملة تعليل لقوله : {وأنتم داخرون} وفي التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم .
قوله تعالى : {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} معطوف على قوله : {ينظرون} المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين والجزاء وهم يحذرون منه بما كفروا وكذبوا ولذا قالوا : يوم الدين ، ولم يقولوا يوم البعث ، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع .
وقوله : {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل : كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم ، ويؤيده الآية التالية ، والفصل هو التمييز بين الشيئين وسمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق والباطل بقضائه وحكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين والمتقين قال تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس : 59] .
قوله تعالى : {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} من كلامه تعالى للملائكة والمعنى وقلنا للملائكة : احشروهم وقيل : هومن كلام الملائكة بعضهم لبعض .
والحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها .
والمراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون ولا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ } [الأعراف : 44 ، 45] ، والتعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما ولو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل : ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم ، فالفعل يفيد فائدة الوصف ، وفي كلامه تعالى من ذلك شيء كثير كقوله تعالى : {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [الزمر : 73] {وقوله وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا : } [الزمر- 71] وقوله : {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة : } [يونس - 26] .
وقوله : {وأزواجهم} الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى : {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهوله قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين : } [الزخرف - 38] .
وقيل : المراد بالأزواج الأشباه والنظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وهكذا .
وفيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية واللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه .
وقيل : المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات وهو ضعيف كسابقه .
وقوله : {وما كانوا يعبدون من دون الله} الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة {ما} فالآية نظيرة قوله : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98] .
ويمكن أن يكون المراد بلفظة {ما} ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة ، وأما الملائكة المعبودون والمسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء : 101] .
وقوله : {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} الجحيم من أسماء جهنم في القرآن وهومن الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب .
والمراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه وإيقاعهم فيه بالسوق ، وقيل : تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء ، وقال في مجمع البيان ، إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله : {فبشرهم بعذاب أليم} من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم . انتهى .
قوله تعالى : {وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} قال في المجمع ، يقال : وقفت أنا ووقفت غيري - أي يعدى ولا يعدى - وبعض بني تميم يقول : أوقفت الدابة والدار . انتهى .
فقوله : {وقفوهم إنهم مسئولون} أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم .
والسياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم .
واختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل : يسألون عن قول لا إله إلا الله ، وقيل : عن شرب الماء البارد استهزاء بهم ، وقيل : عن ولاية علي (عليه السلام) .
وهذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه والسياق يشهد أن السؤال هوما يشتمل عليه قوله : {ما لكم لا تناصرون} أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم ومقاصدكم ، وما يتلوه من قوله : {بل هم اليوم مستسلمون} أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله : {ما لكم لا تناصرون} السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا .
فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص105-110 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
الذين لا يقبلون الحقّ أبداً :
هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث ، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباري عزّوجلّ خالق السموات والأرض ، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول : اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض : {فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً أم من خلقنا} .
نعم ، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة ، من طين لزج : {إنّا خلقناهم من طين لازب} .
فالمشركون الذين ينكرون المعاد ، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة . إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات والأرض والملائكة . إلاّ أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول : إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم ، يعدّ لا شيء ، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج .
«إستفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة .
وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة ، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل .
«لازب» يقول البعض : إنّ أصلها كان (لازم) ، حيث إستبدلت (الميم) (باءً) وحالياً تستعمل بهذه الصورة ، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض ، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء ، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة ، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد) .
ثمّ يضيف القرآن الكريم : {بل عجبت ويسخرون} .
نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد ، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّاً ، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها .
وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة ، بل إنّها اللجاجة والعناد ، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون (وإذا ذكروا لا يذكرون) .
والأنكى من ذلك ، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك ، لا يكتفون بالإستهزاء ، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً {وإذا رأوا آية يستسخرون} .
{وقالوا إنّ هذا إلاّ سحر مبين} .
قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها ، وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة ، ولا يمكن نكرانها . ومن جهة اُخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للإستسلام لتلك المعاجز ، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية ، وتوضّح في نفس الوقت إعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقوله تعالى : {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 16 - 23]
هل نبعث من جديد ؟
الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد ، وتواصل الردّ عليها ، فالآية الاُولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه ، بهذا النصّ (أَإِذَا متنا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون) (2) (3) .
وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً ؟ (أو آباؤنا الأوّلون) . فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقيّة من الإنسان ؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها ؟
فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل ، ومن التراب خلقوا ، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله ، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته ، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب ، فقد أثبت ذلك من قبل ، وعلاوةً على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباري عزّوجلّ المطلقة .
ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة (أإنّا لمبعوثون) هي جملة اسمية إستخدمت فيها (إن) و(لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم .
وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية :
أوّلا : إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاماً في بداية الأمر ، ثمّ يتحوّل إلى تراب ، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئاً عجيباً ، لهذا قدّمت كلمة التراب .
ثانياً : عند إندثار أبدان الأموات ، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام ، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد .
ثالثاً : التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين ، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب .
ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة ، عندما يقول للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : قل لهم : نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلاّء ، (قل نعم وأنتم داخرون) (4) .
فهل تتصوّرون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة ، أوهي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلاّ ، فانّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور ، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون {فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} .
(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقاً ، فإنّها تعني الطرد ، وأحياناً تأتي بمعنى الصرخة ، وهنا تفيد المعنى الثاني ، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل ، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر .
عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون ، أو النظر بعنوان إنتظار العذاب ، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة ، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة .
وتعبير (زجرة واحدة) مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين ، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة ، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري عزّوجلّ ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاُولى .
وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم ، ويقولون : الويل لنا فهذا يوم الدين {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين} .
نعم ، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها ، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون ، ويعترفون بحقيقة البعث ، الإعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب ، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم .
وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباري عزّوجلّ أومن ملائكته : نعم ، اليوم هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون ، يوم فصل الحقّ عن الباطل ، وفصل المجرمين عن المتّقين ، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون} .
ومثل هذه العبارات وردت في آيات اُخرى من آيات القرآن الكريم ، والتي تتناول يوم القيامة ، وتعتبره يوم الفصل ، وهي عبارات عجيبة ورهيبة ؟! (5) .
الملاحظ ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء {ياويلنا هذا يوم الدين} .
فيما يطلق عليه الباري عزّوجلّ في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل (هذا يوم الفصل) .
إنّ الإختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب ، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلاّ بالجزاء والعقاب الذي سينالهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم ، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل ، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين ، كما جاء في الآية (59) من سورة يس { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس : 59] فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين ، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين .
وكم يكون هذا المشهد رهيباً عندما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله ، ويتّجهون نحو جنان الخلد .
وعلاوةً على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل ، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها .
على أيّة حال ، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضاً يوم المحاكمة ، ففي ذلك اليوم يقضي الله العالِم العادِل بين عباده ويصدر أحكاماً دقيقة بحقّهم ، وهنا يخزى المشركون .
إذن ، فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحقّ بالباطل ، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل ، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات ، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار ، ولا يمكن تجنّب عملية فصل الصفوف .
ثمّ يصدر الباري عزّوجلّ أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} .
نعم احشروهم وما كانوا يعبدون {من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} .
(احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته : إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها .
وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات .
على كلّ حال ، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب الله عزّوجلّ ، أومن طائفة من الملائكة إلى طائفة اُخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة .
(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين ، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم ، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين ، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية (7) {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } [الواقعة : 7] .
وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار ، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم ، ثمّ يساقون إلى جهنّم .
أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل .
المهمّ ، هو عدم وجود أي إختلاف بين هذه المعاني الثلاثة ، ومن الممكن أن تجتمع في مفهوم الآية .
جملة (ما كانوا يعبدون) تشير إلى آلهة المشركين ، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة ، وعبّرت عنها بـ (ما كانوا يعبدون) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة ، وقد إصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب .
(الجحيم) تعني جهنّم ، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار .
والملاحظ في الآية إستخدامها عبارة (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) حقّاً كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام اُرشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه ، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم ، وهم مجبرون على القبول به ، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم .
وقوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}
الحوار بين القادة والأتباع الضالّين :
الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، إلى مكان معيّن ، ومن ثمّ هدايتهم إلى صراط الجحيم .
وإستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن : {وقفوهم إنّهم مسؤولون} (6) .
نعم عليهم أن يتوقّفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم ، ولكن عمّاذا يسألون؟
قال البعض : يسألون عن البدع التي اختلقوها .
وقال البعض الآخر : يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم .
والبعض أضاف : إنّهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلاّ الله .
وذهب آخرون : إنّهم يسألون عن النعم التي أُنعمت عليهم ، وعن شبابهم وصحّتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها ، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (7) .
وبالطبع فإنّ هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها ، لأنّ في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كلّ شيء ، عن العقائد وعن التوحيد والولاية ، وعن الحديث والعمل ، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان .
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو : كيف يساق اُولئك أوّلا إلى صراط الجحيم ، ثمّ يؤمرون بالتوقّف لإستجوابهم ؟
ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم ؟
هناك جوابان لهذا السؤال وهما :
أوّلا : كون اُولئك من أهل جهنّم أمر واضح للجميع ، وحتّى لأنفسهم ، وإستجوابهم إنّما يتمّ لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي إقترفوها . .
ثانياً : طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم ، وإنّما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم نفسياً .
وبالطبع فإنّ كلّ ذلك في حالة كون الأسئلة متعلّقة بما أوردنا آنفاً ، أمّا إذا إرتبط الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض ، فهنا لا تبقى أيّة مشكلة في تفسير الآية ، ولكن هذا التّفسير لا يتطابق مع ما جاء في عدّة روايات بهذا الشأن ، إلاّ إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة .
على أيّة حال ، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم ، تكون أيديهم مقطوعة عن كلّ شيء وقاصرة عن تحصيل العون ، ويقال لهم : أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه ، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن {ما لكم لا تناصرون} .
نعم ، فكلّ الدعائم التي تصوّرتم انّها دعامات مطمئنة في الدنيا اُزيلت عنكم ، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض ، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم ، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم .
يقال أنّ (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر «نحن جميع منتصر» ، والقرآن المجيد أعاد تكرار قوله في الآية (44) من سورة القمر { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } [القمر : 44] فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله : لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال ، سوى سكوتهم الدالّ على ذلّتهم .
الآية التي تليها تضيف : إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له ، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض {بل هم اليوم مستسلمون} (8) .
__________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص232-242 .
2 ـ تفسير روح المعاني ، المجلّد 23 ، الصفحة 77 .
3 ـ هذه الآية هي جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها ، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقاً للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاءً .
4 ـ (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور) ، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة .
الآية أعلاه فيها جملة تقديرية هي جوابها ، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية
أكثر ، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين) .
5 ـ الدخّان ، الآية 40 ; المرسلات ، الآيات 13 ، 14 ، 38 ; النبأ الآية ، 17 .
6 ـ (قفوهم) من مادّة (وقف) وأحياناً تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس) ، وأحياناً اُخرى تأتي بصورة فعل لازم ، وتعني (التوقّف والوقوف) ومصدر الاُولى هو وقفة ، ومصدر الثانية وقوف .
7 ـ الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وردت عن الحاكم بن أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله ، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام الرضا (عليه السلام) .
8 ـ (إستسلام) من مادّة (السلامة) ولكونها من باب (إستفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادةً تكون ملازمة للإنقياد والخضوع في مقابل قوّة أعظم .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|