أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2020
15294
التاريخ: 28-8-2020
6290
التاريخ: 29-8-2020
4687
التاريخ: 1-9-2020
13467
|
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوبَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَويُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 19، 22]
{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } معناه: وكما فعلنا بهم الأمور العجيبة وحفظناهم تلك المدة المديدة بعثناهم من تلك الرقدة وأحييناهم من تلك النومة التي أشبهت الموت { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم فينتبهوا بذلك على معرفة صانعهم ويزدادوا يقينا إلى يقينهم { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} في نومكم { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا يوما فلما رأوا الشمس قالوا أوبعض يوم وكان قد بقيت من النهار بقية { قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} وهذا القائل هو تمليخا رئيسهم عن ابن عباس رد علم ذلك إلى الله تعالى { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} والورق الدراهم وكان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم عن ابن عباس { إلى المدينة } يعني المدينة التي خرجوا منها { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} أي: أظهر وأحل ذبيحة عن ابن عباس قال لأن عامتهم كانت مجوسا وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم وقيل: أطيب طعاما عن الكلبي وقيل: أكثر طعاما من قولهم زكى المال إذا زاد عن عكرمة وذلك لأن خير الطعام إنما يوجد عند من كثر طعامه وقيل: كان من طعام أهل المدينة ما لا يستحله أصحاب الكهف { فليأتكم برزق منه } أي: فليأتكم بما ترزقون أكله { وليتلطف } أي: وليدقق النظر ويتحيل حتى لا يطلع عليه وقيل: وليتلطف في الشراء فلا يماكس البائع ولا ينازعه.
{ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي: لا يخبرن بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة { إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: يشرفوا ويطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم { يرجموكم } أي: يقتلوكم بالرجم وهو من أخبث القتل عن الحسن وقيل: معناه يؤذوكم ويشتموكم يقال رجمه بلسانه عن ابن جريج { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } أي: يردوكم إلى دينهم { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} معناه: ومتى فعلتم ذلك لن تفوزوا أبدا بشيء من الخير ومتى قيل من أكره على الكفر فأظهره فإنه مفلح فكيف تصح الآية فالجواب يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه ويجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية في إظهار الكفر .
{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: وكما أنمناهم وبعثناهم اطلعنا وأعثرنا عليهم أهل المدينة وجملة أمرهم وحالهم على ما قاله المفسرون أنهم لما هربوا من ملكهم ودخلوا الكهف أمر الملك أن يسد عليهم باب الكهف ويدعوهم كما هم في الكهف فيموتوا عطشا وجوعا وليكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم وهو يظن أنهم إيقاظ ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس وجعلا التابوت في البنيان الذي بنوا على باب الكهف وقالا لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا الكتاب.
ثم انقرض أهل ذلك الزمان وخلفت بعدهم قرون وملوك كثيرة وملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له ندليس وقيل: بندوسيس عن محمد بن إسحاق وتحزب الناس في ملكه أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب فكبر ذلك على الملك الصالح وبكى إلى الله وتضرع وقال أي: رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم بها أن البعث حق وأن الساعة حق آتية لا ريب فيها فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه ففعل ذلك.
وبعث الله الفتية من نومهم فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما فاطلع الناس على أمرهم وبعثوا إلى الملك الصالح يعلمونه الخبر ليعجل القدوم عليهم وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكه فلما بلغه الخبر حمد الله وركب معه مدينته حتى أتوا أهل الكهف فذلك قوله { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث والثواب والعقاب { حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} أي: أن القيامة لا شك فيها فإن من قدر على أن ينيم جماعة تلك المدة المديدة أحياء ثم يوقظهم قدر أيضا على أن يميتهم ثم يحييهم بعد ذلك { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي: فعلنا ذلك حين تنازعوا في البعث فمنهم من أنكره ومنهم من قال يبعث الأرواح دون الأجسام ومنهم من أثبت البعث فيهما وأضاف الأمر إليهم لتنازعهم فيه كما يقال ما صنعتم في أمركم عن عكرمة وقيل: إن معناه إذ يتنازعون في قدر مكثهم في الكهف وفي عددهم وفيما يفعل بهم بعد أن اطلعوا عليهم وذلك أنه لما دخل الملك عليهم مع الناس وجعلوا يسألونهم سقطوا ميتين فقال الملك إن هذا الأمر عجيب فما ترون فاختلفوا فقال بعضهم ابنوا عليهم بنيانا كما تبنى المقابر وقال بعضهم اتخذوا مسجدا على باب الكهف وهذا التنازع كان منهم بعد العلم بموتهم عن ابن عباس.
{ فقالوا } أي: قال مشركوذلك الوقت { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان كما يقال بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراء الجدار { رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} معناه: ربهم أعلم بحالهم فيما تنازعوا فيه وقيل إنه قال ذلك بعضهم ومعناه ربهم أي خالقهم الذي أنامهم وبعثهم أعلم بحالهم وكيفية أمرهم وقيل: معناه ربهم أعلم بهم أ أحياء نيام هم أم أموات فقد قيل: إنهم ماتوا وقيل: أنهم لا يموتون إلى يوم القيامة { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} يعني الملك المؤمن وأصحابه وقيل أولياء أصحاب الكهف من المؤمنين وقيل رؤساء البلد الذين استولوا على أمرهم عن الجبائي { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: معبدا وموضعا للعبادة والسجود يتعبد الناس فيه ببركاتهم ودل ذلك على أن الغلبة كانت للمؤمنين وقيل مسجدا يصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا عن الحسن وقد روي أيضا أن أصحاب الكهف لما دخل صاحبهم إليهم وأخبرهم بما كانوا عنه غافلين من مدة مقامهم سألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى حالتهم الأولى فأعادهم إليها وحال بين من قصدهم وبين الوصول إليهم بأن أضلهم عن الطريق إلى الكهف الذي كانوا فيه فلم يهتدوا إليه.
ثم بين سبحانه تنازعهم في عددهم فقال { سيقولون } أي: سيقول قوم من المختلفين في عددهم { ثلاثة } أي: هم ثلاثة { رابعهم كلبهم ويقولون } أي: ويقول آخرون هم { خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي: قذفا بالظن من غير يقين عن قتادة { ويقولون } أي: ويقول آخرهم هم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقيل: إن هذا إخبار من الله تعالى بأنه سيقع نزاع في عددهم ثم وقع ذلك لما وفد نصارى نجران إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية منهم : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقالت النسطورية : كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم { قل } يا محمد { رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} من الناس عن قتادة وقيل: قليل من أهل الكتاب عن عطا وقال ابن عباس أنا من ذلك القليل هم سبعة وثامنهم كلبهم والأظهر أن يكون عرف ذلك من جهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال هم مكسليمنا وتمليخا ومرطولس ونينونس وسارينونس ودربونس وكشوطبونس وهو الراعي.
{ فلا تمار فيهم } أي: فلا تجادل الخائضين في عددهم وشأنهم { إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} فيه وجوه (أحدها) أن معناه إلا تجادلهم إلا بما أظهرنا لك من أمرهم عن ابن عباس وقتادة ومجاهد أي لا تجادل إلا بحجة ودلالة وإخبار من الله سبحانه وهوالمراء الظاهر ( وثانيها ) أن المراد لا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا وهو أن تقول لهم أثبتم عددا وخالفكم غيركم وكلا القولين يحتمل الصدق والكذب فهلموا بحجة تشهد لكم (وثالثها) أن المراد إلا مراء يشهده الناس ويحضرونه فلوأخبرتهم في غير ملأ من الناس لكذبوا عليك ولبسوا على الضعفة فادعوا أنهم كانوا يعرفونه لأن ذلك من غوامض علومهم { وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} معناه: ولا تستخبر في أهل الكهف وفي مقدار عددهم من أهل الكتاب أحدا ولا تستفتهم من جهتهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد غيره لئلا يرجعوا في ذلك إلى مساءلة اليهود فإنه كان واثقا بخبر الله تعالى.
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص323-329.
الفصل الثالث
أشرنا فيما سبق إلى أن الآيات المتعلقة بأهل الكهف تنقسم إلى أربعة فصول ، وقد تضمن المقطع السابق من الآيات الفصلين الأول والثاني ، وهذا المقطع يتضمن الفصلين الأخيرين الثالث والرابع ، ومن الفصل الثالث قوله تعالى :
{ وكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ } استمروا في نومهم ثلاثمائة وتسع سنين ، كما يأتي في الآية 25 ، ثم أيقظهم اللَّه من هذا النوم الطويل العجيب ، ويدل ظاهر الآية أن اللَّه أيقظهم ليتساءلوا عن مدة نومهم ، ومتى انكشفت لهم الحقيقة ازدادوا ايمانا باللَّه وبالبعث .
وتسأل : قال اللَّه تعالى في الآية 16 أن الغرض من بعثهم أن يعلم مدة مكثهم في الكهف الذين تنازعوا في ذلك قبل إيقاظهم ، وقال في هذه الآية : انه
أيقظ أهل الكهف ليتساءلوا هم عن أمد مكثهم ، فما هووجه الجمع بين الآيتين ؟ .
الجواب : لا تصادم بين الآيتين لنحتاج إلى عملية الجمع ، فإن اللَّه أيقظ أهل الكهف للأمرين معا ، أشار إلى أحدهما في الآية السابقة ، وإلى ثانيهما في هذه الآية ، وعليه يكون معنى الآيتين ان اللَّه أيقظ أهل الكهف ليعلموا هم وغيرهم ان اللَّه قادر على إحياء الموتى ، مهما طال الزمن .
{ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوبَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ } .
حين استيقظوا قال بعضهم : أتدرون كم لبثنا في الكهف ؟ . فأجابه البعض الآخر يوما أوبعض يوم ، وفي هذا القول إيماء إلى أنّه لم يتغير شيء من ثيابهم وأشعارهم وأظفارهم ووجوههم وأبدانهم وألوانهم على الرغم من طول الأمد ، ولوتغير شيء من ذلك - كما في تفسير الرازي - لظهر للعيان ، ولم يقل قائلهم يوما أوبعض يوم . . ثم قالوا : دعونا من هذا التساؤل . . لا يعلم كم لبثنا إلا اللَّه . .
وجائز أن يكونوا في الظلام لا يرى أحدهم الآخر .
{ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَويُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ولَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } . المراد بالورق الدراهم المضروبة ، وكان عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم ، وقيل : اسمه دقيانوس ، واسم المدينة طرسوس . .
استيقظوا فأحسوا بالجوع بعد ذاك الأمد الطويل ، فاختاروا واحدا منهم ليشتري لهم طعاما شهيا ، وأوصوه باليقظة والحذر كيلا يشعر أحد بمكانهم ، فيقتلهم الطغاة أويفتنوهم عن دينهم ، وهم لا يدرون انهم في أمة غير أمتهم ، وعالم غير عالمهم .
الفصل الرابع :
{ وكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } . وكذلك إشارة إلى أنه كما زدناهم هدى ، وربطنا
على قلوبهم وأنمناهم ثم أيقظناهم أيضا ، أعثرنا عليهم ، أي أطلعنا الناس أوأهل المدينة المجاورة على حقيقة أصحاب الكهف ، والضمير في يتنازعون وفي أمرهم يعودان إلى أهل المدينة المجاورة للكهف ، لأنهم اختلفوا : هل أهل الكهف نائمون أوميتون ؟ . وقع هذا الاختلاف بين أهل المدينة لما رأوا النقود القديمة مع الذي أراد أن يشتري بها الطعام ، وذهبوا إلى الكهف ورأوا أجساما على الأرض لا تتحرك ولا تتكلم . أما قوله تعالى : « قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ . . » الخ » فإنه يشير إلى أن أهل المدينة انقسموا في شأن أهل الكهف ، فمن قائل : نتركهم كما هم عليه . وقائل : بل نسد الكهف عليهم . وقال فريق ثالث : نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس . وقد غلب هذا الرأي على بقية الآراء .
وبعد بيان المراد من كلمات الآية نبدأ بالتفصيل . . من عادة القرآن الكريم أن يحذف كل ما يمكن فهمه من سياق الكلام ، أومن اللوازم التي لا تنفك عن طبيعة الحادثة ، وعلى هذا الأساس حذف هنا عددا من الجمل لأنها تعرف من السياق وطبيعة الحال ، وتتلخص الجمل المحذوفة بأن أحدهم ذهب إلى المدينة لشراء الطعام ، وكان حذرا كما أوصاه الرفاق ، ولكنه فوجئ بأمر لم يكن في الحسبان وذلك أنه حين أعطى الدراهم لصاحب الطعام تأملها هذا ، وقال : هذه النقود قديمة ، وهي من عهد الملك « دقيانوس » كما قيل . ولا أحد يتعامل الآن بها .
قال الرجل صاحب النقود : كيف من الأمس إلى اليوم ؟ . وشاع الخبر بين أهل المدينة ، ولما سألوا عن شأنه وشأن النقود أخبرهم انه خرج وأصحابا له هربا بدينهم من الطغاة وآووا إلى الكهف ، فقال قائل من الحاضرين : أجل ، سمعت ان جماعة فروا في الزمن القديم بدينهم خوفا من ملكهم دقيانوس المرسوم على هذه النقود ، ولجأوا إلى الكهف ، ولعلهم هؤلاء ، فهرع الناس إلى الكهف بعد أن سبقهم إليه صاحب النقود ، وأخبر أصحابه بما كان .
وخاتمة القصة انه بعد أن انكشف أمرهم تضرعوا إلى اللَّه ، كما تضرعوا إليه حين دخلوا الكهف ، وطلبوا منه أن يشملهم برحمته ، ويختار ما فيه للَّه رضا ، ولهم فيه صلاح ، وما أتموا دعاءهم هذا حتى وقعوا جميعا أجساما هامدة ، وانتقلت أرواحهم الطاهرة إلى ربهم حيث النعيم الخالد ، فاتخذ الناس عليهم مسجدا .
والشاهد في هذه القصة دلالتها الحسية على ما أشار إليه سبحانه بقوله : « لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها » وان الإنسان خالد بخلود خالقه ، وانما ينتقل من دار إلى دار ، والويل كل الويل لمن ترك دار الباقية إلى دار الفانية ، وهويجحد الآخرة ، أووهولم يعد العدة لها .
{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ويَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } . اختلف الناس في مكان الكهف : أين كان ؟
فقيل : كان في فلسطين بالقرب من بيت المقدس . وقيل : في الموصل . وقيل :
في الأندلس من جهة غرناطة ، إلى غير ذلك من الأقوال . وأيضا اختلفوا في زمانهم : هل كان قبل السيد المسيح أوبعده ؟ . بل وفي الطعام الذي أوصى أهل الكهف أحدهم أن يشتريه لهم ، هل هو التمر أوالزبيب أواللحم . بل وفي لون الكلب : هل كان أسمر أوأنمر أي فيه بقع سوداء وأخرى بيضاء ، إلى كثير من هذه الخلافات . . إذن ، فلا غرابة إذا وقع النزاع والاختلاف في عدد أهل الكهف .
وفي تفسير الرازي والطبرسي انه لما وفد نصارى نجران إلى النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) جرى ذكر أهل الكهف ، فقال اليعقوبية منهم : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقال النسطورية : كانوا خمسة سادسهم كلبهم . فقال المسلمون : بل سبعة وثامنهم كلبهم . . ثم قال الرازي : وأكثر المفسرين على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم ، وذكر أربعة أوجه لصحة هذا القول ، ثلاثة منها فيها نظر ، والرابع له وجه ، ويتلخص بأن اللَّه سبحانه وصف كلا من القول بالثلاثة والقول بالخمسة بأنه رجم بالغيب ، دون القول بالسبعة ، فوجب أن يكون هو الحق .
{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } . بعد أن أشار سبحانه إلى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف ، وان أقوالهم كلها أوبعضها رجم بالغيب - قال لنبيه الكريم : ان هذا الاختلاف لم يقع في شيء هام ، وان على الإنسان أن يوكل علمه إلى اللَّه تعالى ، وأن يعتبر بما جرى لأصحاب الكهف ، ويتخذ منه دليلا على البعث ، لا أن يجادل في عددهم أومكانهم أوزمانهم . .
فإن الغرض من هذه القصة هوالاعتبار والاتعاظ ، بل إن جميع قصص القرآن تخضع لهذا الغرض الديني ، فهو الأول والأخير : « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبابِ » - 111 يوسف .
{ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ولا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً } . فلا تمار أي لا تجادل ، وضمير فيهم يعود إلى أهل الكهف ، وضمير منهم يعود إلى أهل الكتاب كما في التفاسير ، ولا تستفت لا تسأل . والمعنى إذا جادلك يا محمد في عدد أهل الكهف أحد من أهل الكتاب فلا تهتم بشأنه ، ولا تسأل العلماء منهم لتحتج بقوله على من جادل ، فإن هذه المسألة ليست بذات بال ، بل قل للمجادل قولا لينا ، مثل اللَّه أعلم ، أولا جدوى من هذا الجدال ، ونحو ذلك .
_______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 112-116.
قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، والورق بالفتح فالكسر: الدراهم، وقيل هو الفضة مضروبة كانت أوغيرها، وقوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.
والإشارة بقوله:{وكذلك بعثناهم} إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم وأيقظناهم ليتساءلوا بينهم.
وهذا التشبيه وجعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف وإنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، وإنما أنيموا ولبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، وقد نومهم الله إثر دعائهم ومسألتهم رحمة من عند الله واهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم وظهور الباطل وإحاطة القهر والجبر وهجم عليهم اليأس والقنوط من ظهور كلمة الحق وحرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض وظهوره على الحق كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه.
وبالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة واستيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أوبعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال ومرور مآت من السنين عند غيرهم وهي بنظرة أخرى كيوم أوبعض يوم فيعلموا أن طول الزمان وقصره ليس بذاك الذي يميت حقا أويحيي باطلا وإنما هوالله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها وجذب إليها الإنسان وأجرى فيها الدهور والأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وهذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة وما جرت عليه من الحوادث حلوها ومرها وجدها كطائف في نومة أوسنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى والتلهي بلهوالدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا وزخرفها وهو يوم الموت كما عن علي (عليه السلام):{الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ويوم آخر وهو يوم يطوي فيه بساط الدنيا وزينتها ويقضي على العالم الإنساني بالبيد والانقراض.
وقد ظهر بما تقدم أن قوله تعالى:{ليتساءلوا بينهم} غاية لبعثهم واللام لتعليل الغاية، وتنطبق على ما مر من الغاية في قوله:{ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا}.
وذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم وينجر ذلك إلى ظهور أمرهم وانكشاف الآية وظهور القدرة وهذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.
وذكر آخرون: أن اللام في قوله:{ليتساءلوا} للعاقبة دون الغاية استبعادا لأن يكون التساؤل وهو أمر هين غاية للبعث وهو آية عظيمة، وفيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لأمر خطير وآية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شيء يسير عاقبة لأمر ذي بال وآية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا.
وقوله:{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين وسألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين وكأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟.
وقوله:{ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ترددوا في جوابهم بين اليوم وبعض اليوم وكأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار وانتبهوا في أواسطه أوأواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما وعدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم وبعض يوم وهو على أي حال جواب واحد.
وقول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم ويوم وبعض لا بين يوم وبعض يوم فالوجه أن يكون{أو} للتفصيل لا للترديد والمعنى قال بعضهم: لبثنا يوم وقال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.
لا يلتفت إليه أما أولا فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله:{ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى:{قال كم لبثت قال: لَبِثْت يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: البقرة: 259.
وأما ثانيا فلأن قولهم:{لبثنا يوما} إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والأمور الخارجية التي يستدل بها الإنسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحوذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع.
وقوله تعالى:{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي قال بعض آخر منهم ردا على القائلين: لبثنا يوما أوبعض يوم}:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ولو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.
وبذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم:{ربكم أعلم} ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الإحاطة بعين الأشياء ونفس الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء والآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.
فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه وأذن له فيه كما قال:{ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}: العلق: 5 وقال:{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}: البقرة: 32 إلى آيات أخرى كثيرة.
ويظهر بذلك أن القائلين منهم:{ربكم أعلم بما لبثتم} كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين:{ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب وإلا لقالوا: ربنا أعلم بما لبثنا ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق:{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} فإن إظهار الأدب لا يسمى قولا وإحصاء ولا الآتي به ذا قول وإحصاء.
والظاهر أن القائلين منهم:{ربكم أعلم بما لبثتم} غير القائلين:{لبثنا يوما أوبعض يوم} فإن السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا ولوكانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله:{ربكم أعلم} إلخ.
ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أوأزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم{قال} مرة و{قالوا} مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.
وقوله تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} من تتمة المحاورة وفيه أمر أوعرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به والضمير في{أيها} راجع إلى المدينة والمراد بها أهلها من الكسبة استخداما.
وزكاء الطعام كونه طيبا وقيل: كونه حلالا وقيل: كونه طاهرا ووروده بصيغة أفعل التفضيل{أزكى طعاما} لا يخلومن إشعار بالمعنى الأول.
والضمير في{منه} للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للأزكى طعاما و{من} للابتداء أوالتبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، وقيل: الضمير للورق و{من} للبداية وهو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.
وقوله تعالى:{ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} التلطف إعمال اللطف والرفق وإظهاره فقوله:{ولا يشعرن بكم أحدا} عطف تفسيري له والمراد على ما يعطيه السياق: ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة أومنازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة وإطلاق الكلام يدفعه.
وقوله تعالى:{ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} تعليل للأمر بالتلطف وبيان لمصلحته.
ظهر على الشيء بمعنى اطلع عليه وعلم به وبمعنى ظفر به وقد فسرت الآية بكل من المعنيين والكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هوالأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم أخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض وبين الرؤية والاطلاع وكذا بينه وبين الظفر وكذا بينه وبين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه وعلم بمكانه أوظفر به أوغلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر وظاهر وتظاهر واستظهر إلى غير ذلك.
وظاهر السياق أن يكون{يظهروا عليكم} بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم فإنه أجمع المعاني لأن القوم كانوا ذوي أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلواطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوهم على ما أرادوا.
وقوله:{يرجموكم} أي يقتلوكم بالحجارة وهو شر القتل ويتضمن معنى النفرة والطرد، وفي اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلوظهروا عليهم بادروا إليهم وتشاركوا في قتلهم والقتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.
وقوله:{أويعيدوكم في ملتهم} الظاهر أن الإعادة مضمن معنى الإدخال ولذا عدي بفي دون إلى.
وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة وقد تجاهروا برفضها وسموها شططا من القول وافتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان والإتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الإلهي والتفوه بكلمة الحق.
وهذا كله لا بأس به على من اضطر على الإقامة في بلاد الكفر والانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل والنقل وقد قال تعالى:{ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}: النحل: 106 وقال تعالى:{ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه وينكره بلسانه وأما من كان بنجوة منهم وهوحر في اعتقاده وعمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال وتسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوه بكلمة الحق وحرم التلبس بالوظائف الدينية الإنسانية فقد حرم على نفسه السعادة ولن يفلح أبدا قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}: النساء: 97.
وبهذا يظهر وجه ترتب قوله:{ولن تفلحوا إذا أبدا} على قوله:{أو يعيدوكم في ملتهم} ويندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفوعنه في جميع الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فإنهم لوعرضوا بأنفسهم عليهم أودلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم ولو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك ولم يعذروا البتة.
وقد أجابوا عن الإشكال بوجوه أخر غير مقنعة: منها: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه وفيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: ويخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا إلا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا.
ومنها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه وأنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.
ومنها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا وفيه عدم الدليل على ذلك.
وسياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله:{لبثتم} إلى تمام الآيتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله ومواخاتهم في الدين وأخذهم بالمساواة بين أنفسهم ونصح بعضهم لبعض وإشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين:{ربكم أعلم بما لبثتم} تنبيه ودلالة على موقع من التوحيد أعلى وأرفع درجة مما يدل عليه قول الآخرين{لبثنا يوما أوبعض يوم}}.
ثم قول القائل:{فابعثوا} حيث عرض بعث الرسول على الجميع ولم يستبد بقول: ليذهب أحدكم وقوله:{أحدكم} ولم يقل اذهب يا فلان أوابعثوا فلانا وقوله:{بورقكم هذه} فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المؤاخاة والمساواة.
ثم قوله:{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } إلخ وقوله:{وليتلطف} إلخ نصح وقوله:{إنهم إن يظهروا عليكم} إلخ نصح لهم وإشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.
وقوله تعالى:{بورقكم هذه} على ما فيه من الإضافة والإشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشتري بها الطعام والإشارة إليها بشخصها ولعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصية الإشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم وانكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون وليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم وانكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.
قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} قال في المفردات:، عثر الرجل يعثر عثرا وعثورا إذا سقط ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال:{وكذلك أعثرنا عليهم} أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى.
والتشبيه في قوله:{وكذلك أعثرنا عليهم} كنظيره في قوله:{وكذلك بعثناهم} أي وكما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا وكذا كذلك أعثرنا عليهم ومفعول أعثرنا هوالناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية وقوله:{ليعلموا أن وعد الله حق} ضمير الجمع للناس والمراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث ويكون قوله:{وأن الساعة لا ريب فيها} عطفا تفسيريا لسابقه.
وقوله:{إذ يتنازعون بينهم أمرهم} ظرف لقوله:{أعثرنا} أولقوله{ليعلموا} والتنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهوباعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه، وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى:{فإن تنازعتم في شيء} انتهى.
والمراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث وإنما أضيف إليهم إشعارا باهتمامهم واعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.
والمعنى على ما مر: وكما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا وكذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها.
أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق.
وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل وتعطيل شعورهم وركود حواسهم عن أعمالها وسقوط آثار القوى البدنية كالنشووالنماء ونبات الشعر والظفر وتغير الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.
وقد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث ومشرك يرى مغايرة الروح البدن ومفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث وربما رأى التناسخ.
فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل ورفع الاستبعاد بالوقوع.
ويقوى هذا الحدس منهم ويشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم واجتماعهم عليهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها.
ومن هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى:{إذ يتنازعون بينهم أمرهم} وهو رجوع الضميرين الأولين إلى الناس والثالث إلى أصحاب الكهف وكون{إذ} ظرفا لقوله{ليعلموا} ويؤيده قوله بعده:{ربهم أعلم بهم} على ما سيجيء.
والاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار وليس كذلك وثانيا بأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف وقد كان بعد الإعثار ومقارنا للعلم زمانا، والذي كان قبل الإعثار وقبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث وليس بمراد على هذا الوجه.
وقوله تعالى:{ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} والمراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه ويسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراءه.
وهذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله:{وكذلك بعثناهم}{وكذلك أعثرنا عليهم} يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: ولما أن جاء رسولهم إلى المدينة وقد تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف وانقضت سلطة الشرك وألقي زمام المجتمع إلى التوحيد وهو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره وشاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا وازدحموا على باب الكهف فاستنبئوهم قصتهم وحصلت الدلالة الإلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث وعندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم.
وفي قوله:{ربهم أعلم بهم} إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم واستكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شيء مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم ولم يسكن الآخرون إلى شيء ولم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم.
فمعنى الجملة أعني قوله:{ربهم أعلم بهم} يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله:{إذ يتنازعون بينهم أمرهم} إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله:{إذ يتنازعون بينهم أمرهم} هو التنازع في أمر البعث بالإقرار والإنكار لكون ضمير{أمرهم} للناس كان المعنى أنهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنيانا واتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء ولم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم بهم، وقال الموحدون أمرهم ظاهر وآيتهم بينة ولنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله ويبقى ببقائه ذكرهم.
وإن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف وضمير{أمرهم} راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد إعثار الناس عليهم وحصول الغرض وهم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ وهل من الواجب أن يدفنوا ويقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا واتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحدون:{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}.
لكن السياق يؤيد المعنى الأول لأن ظاهره كون قول الموحدين:{لنتخذن عليهم مسجدا} ردا منهم لقول المشركين:{ابنوا عليهم بنيانا} إلخ} والقولان من الطائفتين إنما يتنافيان على المعنى الأول، وكذا قولهم:{ربهم أعلم بهم} وخاصة حيث قالوا:{ربهم} ولم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.
وقوله:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} هؤلاء القائلون هم الموحدون ومن الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له قال تعالى:{ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ}: الحج: 40.
وقد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا إلخ، وأما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هوالأمر المذكور في قوله:{إذ يتنازعون بينهم أمرهم} والضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على حقية البعث، وإن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لأمرهم والغالبون هم الموحدون وقيل: الملك وأعوانه، وقيل: أولياؤهم من أقاربهم وهو أسخف الأقوال.
وإن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق والضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أمور المجتمع بالملك وولاية الأمور، والغالبون هم الموحدون أوالملك وأعوانه وإن كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة والمراد بغلبتهم على أمورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الأمور قادرون هذا، وأحسن الوجوه أولها.
والآية من معارك آراء المفسرين ولهم في مفرداتها وفي ضمائر الجمع التي فيها وفي جملها اختلاف عجيب والاحتمالات التي أبدوها في معاني مفرداتها ومراجع ضمائرها وأحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، وقد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق وعلى الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطولات.
قوله تعالى:{ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ- إلى قوله - وثامنهم كلبهم} يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف وأقوالهم فيه، وهي على ما ذكره تعالى - وقوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم والثاني أنهم خمسة وسادسهم كلبهم وقد عقبه بقوله:{رجما بالغيب} أي قولا بغير علم.
وهذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: ولو اختص بالثاني فقط كان من حق الكلام أن يقدم القول الثاني ويؤخر الأول ويذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه.
والقول الثالث أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد ذكره الله سبحانه ولم يعقبه بشيء يدل على تزييفه، ولا يخلو ذلك من إشعار بأنه القول الحق، وقد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى:{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.
ومن لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة وثامنها.
وأما قوله:{رجما بالغيب} تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم والرجم هو الرمي بالحجارة وكأن المراد بالغيب الغائب وهو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أهو صدق أم كذب؟ فشبه الذي يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أ حجر هو يصيب غرضه أم لا؟ ولعله المراد بقول بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لأن المظنون غائب عن الظان لا علم له به.
وقيل: معنى{رجما بالغيب} ظنا بالغيب وهو بعيد.
وقد قال تعالى:{ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } وقال:{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} فلم يأت بواو ثم قال:{ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فأتى بواوقال في الكشاف،: وثلاثة خبر مبتدإ محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك خمسة وسبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدإ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم.
فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ ولم دخلت عليها دون الأوليين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحوقولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وبيده سيف، ومنه قوله تعالى:{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر.
وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه اتبع القولين الأولين قوله:{رجما بالغيب، واتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم إلا قليل، وقال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات انتهى.
وقال في المجمع، في ذيل ما لخص به كلام أبي علي الفارسي: وأما من قال: هذه الواوواوالثمانية واستدل بقوله:{حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} لأن للجنة ثمانية أبواب فشيء لا يعرفه النحويون انتهى.
قوله تعالى:{ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} إلى آخر الآية أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي في عدتهم حق القضاء وهو أن الله أعلم بها وقد لوح في كلامه السابق إلى القول وهذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم وارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.
ومع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم){ربي أعلم بعدتهم} إلخ كان على علم من ذلك فإن قوله:{ما يعلمهم} ولم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله:{إلا قليل} يفيد الإثبات في الحال واللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب.
وبالجملة مفاد الكلام أن الأقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى هذا فقوله:{سيقولون ثلاثة} إلخ المفيد للاستقبال، وكذا قوله:{ويقولون خمسة} إلخ، وقوله:{ويقولون سبعة} إلخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في{سيقولون} تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أوزمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.
وقوله تعالى:{ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} قال الراغب: المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك، قال: والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى.
فتسمية الجدال مماراة لما فيه من إصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهي عنه.
والمراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم ولا رد كما قيل، وقيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
والمعنى: وإذا كان ربك أعلم وقد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها – أو محاجة ذاهبة لحجتهم - ولا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص208-218.
اليقظة بعدَ نوم طويل:
سوف نقرأ في الآيات القادمة ـ إِن شاء الله تعالى ـ أنَّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كانَ نومهم أشبه بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإِنَّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ}.
يعني مِثلما كُنّا قادرين على إِنامتهم نوماً طويلا فإِنّنا أيضاً قادرون على إِيقاظهم. لقد أيقظناهم مِن النوم: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ}(2).
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
لعل التردُّد والشك هنا يعود ـ كما يقول المفسّرون ـ إِلى أن أصحاب الكهف دخلوا الغار في بداية اليوم، ثمّ ناموا، وفي نهاية اليوم استيقظوا مِن نومهم، ولهذا السبب اعتقدوا في بادىء الأمر بأنّهم ناموا يوماً واحداً، وبعد أن رأوا حالة الشمس، قالوا: بل {بعض يوم}.
وأخيراً، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا:{ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}.
قال بعضهم: إِنَّ قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة لإِستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد.
وَقد يكون كلامهم هذا بسبب شكِّهم في أنَّ نومهم لم يكن نوماً عادياً، وذلك عندما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظفارهم وما حلَّ بملابسهم.
ولكنَّهم ـ في كل الأحوال ـ كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إِلى الطعام، لأنَّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إِرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}.
ثمّ أردفوا: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}. لماذا هذا التلطُّف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ}. ثمَّ: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}.
نهاية قصّة أصحاب الكهف:
لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة مِن الرّجال المتشخّصين إِلى كلِّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم، حيث قدَّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس، أو قد يذهب أصحاب الكهف إِلى مَناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إِليه، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.
لقد أصدر الحاكم تعليماته إِلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إِلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.
ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء، وهذا الأمر أصبح بحدِّ ذاته لغزاً للناس، ونقطة انعطاف في أفكارهم، وقد يكون هذا الأمر ـ وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر ـ هو بحدِّ ذاته سبباً ليقظة الناس ومصدراً لوعيهم، أو لوعي قسم منهم على الأقل.
ولكن في كل الأحوال، فإِنَّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.
والآن لنعد إِلى الشخص المكلَّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.
لقد دَخل المدينة ولكنَّهُ فغَر فاه مِن شدّة التعجُّب، فالشكل العام للبناء قد تغيَّر، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب الأمس تحولت إِلى قصور، وقصور الأمس تحوَّلت إِلى خرائب!
لقد ظنَّ ـ للحظة واحدة ـ أنَّهُ لا يزال نائماً، وأنَّ ما يُشاهده ليس سوى أحلام، فركَ عينيه، إِلاَّ أنَّهُ التفت إِلى ما يراه، وهو عين الحقيقة، وإِن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.
إِنَّهُ لا يزال يعتقد بأنَّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم، فلماذا هذا الإِختلاف، وكيف تمَّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!
ومن جانب آخر كان منظره هو عجيباً للناس وغير مألوف. ملابسهُ، كلامه، شكلهُ كل شيء فيه بدا غريباً للناس، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إِليه، لذا قام بعضهم بمُتابعته.
لقد انتهى عجبه عِندما مدَّ يدهُ إِلى جيبه لِيُسدِّد مبلغ الطعام الذي اشتراه، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إِلى (300) سنة، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوباً عليها، وعندما طلب منهُ توضيحاً قالَ لهُ بأنَّهُ حصل عليها حديثاً.
وقد عرف الناس تدريجياً مِن خلال سلسلة مِن القرائن أنَّ هذا الشخص هو واحد مِن أفراد المجموعة الذين قرأوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل (300) سنة، وأنَّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم، وهنا أحسَّ الشخص بأنَّهُ وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.
هذه القضية كانَ لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إِلى جميع الأماكن.
قال بعض المؤرّخين: إِنَّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن، إِلاَّ أنَّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإِحياء الموتى بعد الموت كان صعباً جدّاً على أفراد ذلك المجتمع، فقسم مِنهم لم يكن قادراً على التصديق بأنَّ الإِنسان يُمكن أن يعود للحياة بعدَ الموت، إِلاَّ أنَّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعاً لأُولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.
ولذا فإِنَّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإِنامتهم نقوم الآن بإِيقاظهم حتى ينتبه الناس: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ثمّ أضاف تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}
حيث أنَّ هذا النوم الطويل الذي استمرَّ لمئات السنين كان يشبه الموت، وأن إِيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول: إِنَّ هذه الإِنامة والإِيقاظ هي أكثر إِثارة للعجب مِن الموت والحياة في بعض جوانبها، فمن جهة قد مرَّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفنَ أو تتأثَّر، وقد بقوا طوال هذه المدَّة بدون طعام أو شراب، إِذن كيف بقوا أحياءً طيلةَ هذه المدَّة؟
اليسَ هذا دليلا قاطعاً على قدرة الله على كل شيء، فالحياة بعد الموت، بعد مُشاهدة هذه القضية ممكنة حتماً.
بعض المؤرّخين كتب يقول: إِنَّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه، عاد بسرعة إِلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد تعجب كل منهم، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإِخوان، ولم يبق مِن أصحابهم أحد، أصبحت الحياة بالنسبة إِليهم صعبة للغاية، فطلبوا مِن الخالق جلَّ وعلا أن يُميتهم، وينتقلون بذلك إِلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.
لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربَّهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصلهُ الناس.
وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين مَن لم يعتقد به، فالمعارضون للمعاد كانوا يُريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة، كي يُسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تُغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافياً إِلى الأبد عن أنظار الناس. قال تعالى: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}.
ولأجل إِسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيراً، إِنَّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإِن: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}. أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.
أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّاً لإِثبات المعاد بعد الموت، فقد جَهدوا على أن لا تُنسى القصة أبداً لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجداً، وبقرينة وجود المسجد فإِنَّ الناس سوف لن ينسوهم أبداً، بالإِضافة إلى ما يتبرك بهِ الناس مِن آثارهم: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}.
وفي تفسير الآية ذُكرت احتمالات أُخرى سنقف على بعضها في البحوث.
الآية التي بعدها تُشير إِلى بعض الإِختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وبعضهم {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وذلك مِنهم {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}. وبعضهم {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. أمّا الحقيقة فهي: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}. ولذلك لأنّه {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}.
وبالرغم مِن أنَّ القرآن لم يشر إِلى عددهم بصراحة، لكن نفهم مِن العلامات الموجودة في الآية أنَّ القول الثّالث هو الصحيح المطابق للواقع، حيث أنَّ كلمة {رجماً بالغيب} وردت بعد القول الأوّل والثّاني، وهي إِشارة إِلى بُطلان هَذين القولين، إِلاَّ أنَّ القول الثّالث لم يُتَبع بمثل الإِستنكار بل استتبع بقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} وأيضاً بقوله {ما يعلمهم إِلاّ قليل} وهذا بحدِّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثّالث).
وفي كل الأحوال فإِنَّ الآية تنتهي بنصيحة تحث على عدم الجدال حولهم إِلاَّ الجدل القائم على أساس المنطق والدليل: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}.
(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته، مأخوذة في الأصل مِن (مريت الناقة) بمعنى قبضت على (ضَرَعْ) الناقة لأحلبها، ثمّ أطلق المعنى بعد ذلك لِيشمل الأشياء الخاضعة للشك والترديد.
وقد تُستخدم كثيراً في المجادلات والدفاع عن الباطل، إِلاَّ أنَّ أصلها لا يختص بهذا المعنى، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي موضوع كان موضعاً للشك.
«ظاهر» تعني غالب ومسيطر ومُنتصر. لذا فالآية تقول: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} بمعنى قُل لهم قولا مَنطقياً بحيث تَتَوضَح رجحان منطقك.
وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو: لا تتحدَّث حديثاً خاصّاً مع المعارضين والمعاندين حيثُ أنَّهم يُحرِّفون كلَّ ما تقول، بل تحدَّث معهم علانية وأمام النّاس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول، ولا يستطيعوا إِنكارها.
التّفسير الأوّل أكثر صحّة.
وعلى أي حال فإِنَّ مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدَّث معهم بالإِعتماد على الوحي الإِلهي، لأنَّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}.
___________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص469-477.
2ـ اللام في «ليتساءلوا» هي لام العاقبة وليست للعلّة. يعنى أنَّ نتيجة يقظتهم هو أن سأل أحدهم الآخر عن طول مدّة نومهم.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|