أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-8-2020
7077
التاريخ: 21-8-2020
2730
التاريخ: 20-8-2020
16753
التاريخ: 21-8-2020
4759
|
قال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُو الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم : 26 - 29] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال سبحانه بعد أن ذكر الدلالات الدالة على توحيده {وله من في السماوات والأرض} من العقلاء يملكهم ويملك التصرف فيهم وإنما خص العقلاء لأن ما عداهم في حكم التبع لهم ثم أخبر سبحانه عن جميعهم فقال {كل له قانتون} أي كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة عن ابن عباس وهذا مفسر في سورة البقرة {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} أي يخلقهم إنشاء ويخترعهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الإفناء فجعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب ثم أكد ذلك بقوله {وهو أهون عليه} هو يعود إلى مصدر يعيده فالمعنى والإعادة أهون وقيل فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه وهو هين عليه كقوله {الله أكبر} أي كبير لا يدانيه أحد في كبريائه وكقول الشاعر :
لعمرك ما أدري وإني لأوجل *** على أينا تغدو المنية أول
فمعنى لأوجل أي وجل وقال الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة وقد قيل فيه أنه أراد أعز وأطول من دعائم بيوت العرب وقال آخر :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد هذا قول أهل اللغة (والثاني) أنه إنما قال أهون لما تقرر في العقول إن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ومعنى أهون أيسر وأسهل وهم كانوا مقرين بالابتداء فكأنه قال لهم كيف تقرون بما هو أصعب عندكم وتنكرون ما هو أهون عندكم (الثالث) إن الهاء في عليه يعود إلى الخلق وهو المخلوق أي والإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى لأنه إنما يقال له في الإعادة كن فيكون وفي النشأة الأولى كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فهذا على المخلوق أصعب والإنشاء يكون أهون عليه وهذا قول النحويين ومثله يروى عن ابن عباس قال وهو أهون على المخلوق لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون وأما ما يروى عن مجاهد أنه قال الإنشاء أهون عليه من الابتداء فقوله مرغوب عنه لأنه تعالى لا يكون عليه شيء أهون من شيء .
{وله المثل الأعلى} أي وله الصفات العليا {في السماوات والأرض} وهي أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له لأنها دائمة يصفه بها الثاني كما يصفه بها الأول عن قتادة وقيل هي أنه ليس كمثله شيء عن ابن عباس وقيل هي جميع ما يختص به عز اسمه من الصفات العلى التي لا يشاركه فيها سواه والأسماء الحسنى التي تفيد التعظيم كالقاهر والإله {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في خلقه ثم احتج سبحانه على عبدة الأوثان فقال {ضرب لكم} أيها المشركون {مثلا من أنفسكم} أي بين لكم شبها لحالكم ذلك المثل من أنفسكم .
ثم بينه فقال {هل لكم من ما ملكت أيمانكم} أي من عبيدكم وإمائكم {من شركاء فيما رزقناكم} من المال والأملاك والنعم أي هل يشاركونكم في أموالكم وهو قوله {فأنتم فيه سواء} أي فأنتم وشركاؤكم من عبيدكم وإمائكم فيما رزقناكم شرع سواء {تخافونهم} أن يشاركوكم فيما ترثونه من آبائكم {كخيفتكم أنفسكم} أي كما يخاف الرجل الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد دونه فيه بأمر وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنه يجب أن ينفرد به فهو يخاف شريكه يعني أن هذه الصفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما تكون بين الأحرار ومعنى أنفسكم هاهنا أمثالكم من الأحرار كقوله {ولا تلمزوا أنفسكم} وكقوله {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} أي بأمثالهم من المؤمنين والمؤمنات والمعنى أنكم إذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاء لكم في أموالكم وأملاككم فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في العبادة قال سعيد بن جبير لأنه كانت تلبية قريش : ((لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هولك تملكه وما ملك)) فأنزل الله تعالى الآية ردا عليهم وإنكارا لقولهم .
{كذلك} أي كما ميزنا لكم هذه الأدلة {نفصل الآيات} أي الأدلة {لقوم يعقلون} فيتدبرون ذلك ثم قال سبحانه مبينا لهم أنهم إنما اتبعوا أهواءهم فيما أشركوا به {بل اتبع الذين ظلموا} أي أشركوا بالله {أهواءهم} في الشرك {بغير علم} يعلمونه جاءهم من الله {فمن يهدي من أضل الله} أي فمن يهدي إلى الثواب والجنة من أضله الله عن ذلك عن الجبائي وقيل معناه من أضل عن الله الذي هو خالقه ورازقه والمنعم عليه مع ما نصبه له من الأدلة فمن يهديه بعد ذلك عن أبي مسلم قال وهومن قولهم أضل فلان بعيره بمعنى ضل بعيره عنه قال الشاعر :
هبوني امرءا منكم أضل بعيره *** له ذمة إن الذمام كثير
وإنما المعنى ضل بعيره عنه {وما لهم من ناصرين} ينصرونهم ويدفعون عنهم عذاب الله تعالى إذا حل بهم .
_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص56-58 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ولَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} . الكون بمن فيه وما فيه ملك للَّه وطوع إرادته وحده حتى الذين يعصون أمره ونهيه يتصرف فيهم بلا معارض ومعاند {وهُو الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . خلق سبحانه الكون فأحكم خلقه ، ثم يفنيه ويعيده تارة أخرى ، والمراد بأهون هيّن ، مثل اللَّه أكبر أي كبير لأن الذي ليس كمثله شيء ، وتتساوى في قدرته جميع الأشياء ، لا يصح القول بالنسبة إليه : انه أكبر من غيره ، ولا هذا أيسر عليه من سواه {ولَهُ الْمَثَلُ الأَعْلى فِي السَّماواتِ والأَرْضِ وهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . المراد بالمثل الأعلى الصفة العليا التي لا يشاركه فيها أحد ، وهي انه لا إله إلا هو ، والعزيز هو الذي لا يغلب ، والحكيم هو الذي لا يعبث .
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} . هذا المثل ضربه اللَّه سبحانه للمترفين الطغاة الذين يملكون العبيد والمال ، ويزعمون ان للَّه شركاء في خلقه . وتوضيحه :
انظروا أيها المشركون المترفون : ان لكم عبيدا ومماليك لا تشاركونهم في أموالكم ، ولا تقبلون أن يتصرفوا فيها إلا بإذنكم ، ولا تهابونهم حين تتصرفون أنتم فيها كما تهابون شركاءكم الأحرار ، مع العلم بأن الذين استعبدتموهم ليسوا مملوكين لكم حقيقة - إذن - كيف جعلتم المملوكين للَّه حقيقة وواقعا ، جعلتموهم شركاء للَّه في ملكه وخلقه ؟ كيف نسبتم إلى اللَّه ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ أتأنفون أنتم من شراكة ما تزعمون أنهم عبيد ، وهم مخلوقون للَّه مثلكم ، ولا يأنف اللَّه من شراكة مخلوقاته ؟ . ويلكم كيف تحكمون ؟ وهذا تماما كقولهم : للَّه البنات ولنا البنون :
{ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} [النحل - 57] . {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . ان هذا المثل واضح تمام الوضوح في أن اللَّه لا شريك له ، ولا يعمى عنه إلا أرباب المنافع والأهواء .
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} حيث خيل إليهم ان الحق فيما يهوون ، والعدل فيما يشتهون . . وهذا هوالجهل القاتل والضلال المبين {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} . أضلهم اللَّه لأنهم سلكوا طريق الضلال ، وكل من سار على الدرب وصل سواء أكان دربا للخير أم للشر ، للنجاة أم الهلاك {وما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} كيف وقد سلكوا سبيل الهلاك بسوء اختيارهم ، ولم يرتدعوا عنه برادع ولا زاجر ؟
______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 139-140 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {وله من في السماوات والأرض كل له قانتون} كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيته تعالى وألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه ولما انتهى الكلام إلى ذكر البعث والرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على إمكانه والحجة مأخوذة من الخلق والتدبير المذكورين في الآيات السابقة .
فقوله : {وله من في السماوات والأرض} إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات والأرض وهم المحشورون إليه وذلك لأن وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر وحاجة لا استقلال ولا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه وهذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة .
وقد أكد ذلك بقوله : {كل له قانتون} والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات - ، والمراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية - على ما يعطيه السياق - دون التشريعية التي ربما تخلفت .
وذلك أنهم الملائكة والجن والإنس فأما الملائكة فليس عندهم إلا خضوع الطاعة ، وأما الجن والإنس فهم مطيعون منقادون للعلل والأسباب الكونية وكلما احتالوا في إلغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى وسبب آخر كوني ثم علمهم وإرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون إلا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج ولا يتحقق مما شاءوا إلا ما أذن فيه وشاءه فهو المالك لهم ولما يملكونه .
ولما انساق الاحتجاج على الوحدانية والمعاد من طريق عد الآيات الدالة على ذلك بقوله : {ومن آياته} إلى قوله : {وله من في السماوات والأرض} الآية ، وهومن صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية وأوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية والمعاد وهي قوله : {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} إلخ ، وقوله : {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} إلخ ، وقوله : {الله الذي يرسل الرياح} إلخ ، وقوله : {الله الذي خلقكم من ضعف} إلخ .
وإنما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الأخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله : {وله من في السماوات والأرض كل له قانتون} الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين ، فقوله : {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} فصل في صورة الوصل .
قوله تعالى : {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} إلى آخر الآية ، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق والإعادة إنشاء بعد إنشاء .
وقوله : {وهو أهون عليه} الضمير الأول للإعادة المفهوم من قوله : {يعيد} والضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق .
وقد استشكل قوله : {وهو أهون عليه} الدال ظاهرا على كون الإعادة أسهل وأهون عليه من البدء وهو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإن القدرة اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشيء دون شيء فتعلقها بالصعب والسهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل هاهنا .
وقد أجيب عنه بوجوه : منها : أن ضمير {عليه} راجع إلى الخلق دونه تعالى والإعادة أهون على الخلق لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذي لا يسبقه فعل ، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإعادة والإعادة بالعكس ، فالمعنى : أن الإعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق وإذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق .
وفيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية .
ومنها : أن أفعل هاهنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير قوله : {ما عند الله خير من اللهو} .
وفيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه .
ومنها : أن التفضيل إنما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر : 57] .
وهذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول : فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : {ثم إذا دعاكم} حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ثم هونت بعد ذلك؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء . انتهى .
وفيه أن تقييد الوصف بقوله : {عليه} أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الإعادة والإنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة والإنشاء فالإشكال على ما كان .
ومنها : أن التفضيل إنما هو بالنظر إلى الأصول الدائرة بين الناس والموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه ، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل : والإعادة أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم وإلا فالإنشاء والإعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء .
وفيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ ولا شاهد عليه من جهة لفظ الآية .
ومنها : ما ذكره أيضا في الكشاف ، قال : ووجه آخر وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال إما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة ، وإما تفضل والتفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله ، وإما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به .
فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء انتهى .
وفيه أولا : أنه مبني على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب وقد تحقق في محله بطلانه .
وثانيا : أن القرب والبعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض والسهولة والصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشيء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له ولا يبتني الوصف الوجودي على الاعتبار العقلي .
وثالثا : أن الإنشاء أيضا كالإعادة في الابتناء على المصلحة وهي الغاية فما لم يكن الإنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإعادة كذلك فهما في القرب والبعد من الامتناع على السواء كما قيل .
ورابعا : أن مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الإنشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث ويتوجه إليه ما توجه إليه .
والذي ينبغي أن يقال أن الجملة أعني قوله : {وهو أهون عليه} معلل بقوله بعده : {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} فهو الحجة المثبتة لقوله : {وهو أهون عليه} .
والمستفاد من قوله : {وله المثل الأعلى} إلخ ، إن كل وصف كمالي يمثل به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء وغيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف وأرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف : 180] .
وذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شيء مما في السماوات والأرض فله في حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه وهو في نفسه خال عنه فالحي منها ميت في ذاته والقادر منها عاجز في ذاته ولذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشيء دون شيء وحال دون حال ، وهكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه وكذلك الحياة والقدرة والملك والعظمة وغيرها .
والله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله والذي له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود وصرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه ولا ممات يقابل حياته وهكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية والأرضية - وهي صفات غير ممحضة ولا مطلقة - ما هو أعلاها أي مطلقها ومحضها .
فكل صفة توجد فيه تعالى وفي غيره من المخلوقات ، فالذي فيه أعلاها وأفضلها والذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده .
ولما كانت الإعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الإنشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة ومشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق ولا يلزم منه أن يكون في الإنشاء صعوبة ومشقة عليه تعالى لأن المشقة والصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة وكلما كثرت قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس ، وقدرته تعالى غير متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا وهو المستفاد من قوله : {إن الله على كل شيء قدير} فإن القدرة إذا جاز تعلقها بكل شيء لم تكن إلا غير متناهية فافهم ذلك .
وقوله : {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله : {وهو أهون عليه} ومحصله أن كل صفة كمالية يتصف به شيء مما في السماوات والأرض من جمال أو جلال فإن لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد ومحضها من غير شوب وصرفها من غير خلط .
وقوله : {وهو العزيز الحكيم} في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله : {وله المثل الأعلى} إلخ ، أي إنه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شيء حكيم لا يعرض فعله فتور ، ولولم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة ومخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص والقصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الإطلاق وأحدث ذاك النقص في فعله ثلمة وفتورا فلم يكن حكيما على الإطلاق .
قوله تعالى : {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} إلخ ، {من} في قوله : {من أنفسكم} لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التي لديكم ، وقوله : {هل لكم} شروع في المثل المضروب والاستفهام للإنكار ، و{ما} في {مما ملكت} للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء ، و{من} في {من شركاء} زائدة وهو مبتدأ ، وقوله : {فأنتم فيه سواء} تفريع على الشركة ، و{أنتم} خطاب شامل للمالكين والمملوكين على طريق التغليب ، وقوله : {تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك من غير إذن منهم ورضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار .
وهذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في الألوهية والربوبية وقد ألقى المثل في صورة الاستفهام الإنكاري : هل يوجد بين مماليككم من العبيد والإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - والحال أنهم مماليك لكم تملكونهم وما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير إذن منهم ورضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم ؟! .
لا يكون ذلك أبدا ولا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله وإذا لم يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة والجن وهم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه وآلهة وأربابا من دونه ؟ .
ثم تمم الكلام بقوله : {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} وفيه تمهيد لما يتلوه من الكلام .
قوله تعالى : {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} إضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة والتقدير وهؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم .
وكان مقتضى الظاهر أن يقال : بل اتبع الذين أشركوا وإنما بدله من قوله : {بل اتبع الذين ظلموا} فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله : {فمن يهدي من أضل الله} فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي ، قال تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم : 27] .
فقوله : {فمن يهدي من أضل الله} استفهام إنكاري مدلوله الإيئاس من نعمة الهداية للمشركين المتبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لإضلالهم وقد تكرر في كلامه تعالى : {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} .
وقوله : {وما لهم من ناصرين} نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال وتبعاته من عند أنفسهم لإضلال الله لهم ونفي الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء .
وقول القائل إن معنى نفي الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد .
ومعنى الآية : بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم وتعقل فأضلهم الله بظلمهم ولا هادي يهديهم وليس لهم ناصرون ينصرونهم .
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، 16 ، ص138-144 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
المالكية لله وحده :
كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق ، وتوحيد الرّب ، أمّا الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد ، وهو توحيد الملك فتقول : {وله من في السماوات والأرض} .
ولأنّهم ملك يده فـ {كلٌّ له قانتون} وخاضعون .
وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها ، الملك والقنوت التكوينيان . . . أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده ، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله ، شاؤوا أم أبوا .
حتى العُتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة ، هم مضطرون أيضاً أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية .
والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية ، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير ، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه !
وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر ، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم ، هي أيضاً مملوكة لمالك «الملك» والملوك ، وهي طوع أمره .
وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ كلمة «قانت» تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ في الأصل : الطاعة الملازمة للخضوع !
ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» .
غاية ما في الأمر ، تارة تأتي هذه الطاعة «تكوينية» وأُخرى «تشريعية» .
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة «قانتون» معناها هنا «قائمون بالشهادة على وحدانيته» (2) فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة ، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات .
وحيث أنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة ، والتي ستأتي في ما بعد ، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد ، فيقول : {وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه} (3) .
إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الإستدلال ـ مسألة إمكان المعاد ، إذ يقول لهم : إنكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله ، فعودة الخلق مرّة أُخرى أيسر وأهون من بداية الخلق ! .
والدليل على أن عودة الخلق أهون من البداية ، هو أنّه في البداية لم يكن شيء ولكن الله هو الذي أبدعه ، وفي الإعادة توجد المواد الأصلية على الأقل ، فبعضها في طيّات التراب ، وبعضها متناثر في الفضاء ، وإنّما تحتاج إلى نظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب ، فهي أهون !
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» ، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب ، هومن خلال نافذتنا الفكرية ، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل» .
وأساساً فإنّ «الصعب والسهل» يصدقان مفهوماً في مكان يكون الكلام عن قدرة محدودة ، كأن يستطيع أحد أن يؤدي عملا بصورة جيدة ، والآخرة لا يؤديه بصورة جيدة ، بل بمشقّة ، أمّا حين يكون الكلام على قدرة لا حدّ لها ، فلا معنى للصعب والهيّن هناك !
وبتعبير آخر : إنّ حمل «أعظم الجبال» على الأرض بالنسبة إلى الله وحمل أخف الأشياء عليها عنده سواء ، لقدرته التي لا يعظم عليها شيء .
وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول : (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) .
لأننا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض ، من علم وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم ، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله ، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات ، إلاّ هو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة ، والجميع لديهم أوصاف عارضة ، أمّا أوصاف الله فذاتية ، وهو مصدر الكمالات وأساسها .
حتى الألفاظ التي تجري على ألسنتنا لبيان مقاصدنا يوميّاً . . لا يمكن أن تكون مبينة لأوصافه . . . كما هو في تعبير «أهون» الذي نجده مثلا عندنا .
والجملة الآنفة هي كالآية (180) في سورة الأعراف ، إذ ورد فيها {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف : 180] والآية (11) في سورة الشورى إذ يقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] .
وتنتهي الآية ـ بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل ، إذ يقول سبحانه : {وهو العزيز الحكيم} .
هو عزيز لا يقهر ، إلاّ أنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق ، فكل أفعاله وفق حكمته .
وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة ، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول : {ضرب لكم مثلا من أنفسكم} .
هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك فـ {هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} أي أن عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم . بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أوفي الميراث مثلا . . . فأنتم غير مستعدين لأنّ يتصرفوا في أموالكم .
فلوكان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم ، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه ! أو تزعمون أن بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الأُخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبيّة شركاءه ، ألا ساء ما تحكمون !!
المملوكات المجازية التي يمكن أن تتحرر وتنعتق بسرعة ، وتكون في صفوفكم ومن أمثالكم «كما جرى ذلك في الإسلام» ـ لا تكون حالة كونها مملوكة ـ في صف مالكها ، وليس لها حق التدخل في منطقة نفوذه ، فكيف تجعلون العبيد الحقيقيين أو المملوكات الحقيقية شركاء الله ، في حين أنّهم متعلقون بالله ذاتاً ووجوداً ، ولا يمكن أن يُسلب هذا التعلق بالله والإرتباط به منهم ، وكل ما عندكم فمن عنده ، وما أنتم بشيء من دونه ! .
قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية ناظرة لما قاله المشركون من قريش ، عند التلبية في مناسك الحج ، إذ كانوا يقولون عند التلبية . . «لبيك ، اللّهم لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هولك ، تملكة وما ملك» . . . هكذا كان محتوى تلبية المشركين (4) .
وبديهي أن شأن نزول هذه الآيات شأن سائر الآيات في نزولها ، إذ لا يحدد معنى الآية ، كما هي في الوقت ذاته جواب لجميع المشركين ، هي مستقاة من حياتهم أنفسهم التي تدور حول الرق والمملوكين ، وتحتج عليهم احتجاجاً متيناً .
والتعبير بـ (ما رزقناكم ) يشير إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك ، ولا المالكين الواقعيين للمال ، لأنّ كل ذلك لله وحده ، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا ممّاليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم ، في حين أنّه لا يستلزم محالا ولا مشكلة من الناحية التكوينية لأنّ الكلام يدور مدار الإعتباريّات .
غير أن التفاوت بين الله ومخلوقاته تفاوت تكويني ولا يتغيّر ، وجعل هذه المخلوقات شريكة لله من سابع المستحيلات .
ومن جهة أُخرى فإنّ عبادة أحد الموجودات ، إمّا لعظمته ، أو لأنّه ينفع ويضر الإنسان ، إلاّ أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر (5) .
ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال ، فيقول : {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} .
أجل ، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها ، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم! .
غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب ، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل ، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات ، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا : {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} .
ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة ، فتاهوا في وادي الضلالة {فمن يهدي من أضل الله} ؟!
والتعبير بـ «ظلموا» مكان «أشركوا» إشارة إلى أن الشرك بعد أعظم الظلم : فهو ظلم للخالق ، إذ جعله مخلوقه إلى جانبه وأشركه معه (ونعرف أن الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه) .
وظلم للخلق ، إذ منعوهم عن طريق الخير والسعادة «طريق التوحيد» .
وظلم لأنفسهم ، لأنّهم أطلقوا جميع وجودهم وكيانهم للريح ، وظلوا في مفازة عمياء ! وبيداء قفراء .
وهذا التعبير ـ ضمناً ـ مقدمة للجملة التالية ، وهو إنّما أضلهم الله عن طريق الحق فبظلمهم ، كما جاء مثل هذا التعبير في سورة إبراهيم الآية (27) { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم : 27] .
ولا شك أن من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم {فما لهم من ناصرين} .
وبهذا يوضح القرآن عاقبة هذه الجماعة المشؤومة ، ولم لا تكون كذلك؟! وهم يرتكبون «أعظم الذنوب وأعظم الظلم» ، إذ عطلوا عقولهم وأفكارهم عن العمل ، وتركوا شمس العلم خلف ظهورهم ، وتوجهوا إلى ظلمة الجهل والهوى .
فمن الطبيعي أن يسلب الله منهم التوفيق ، ويتركهم في ظلماتهم ، وما لهم من ناصرين ولا معينين ! .
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص151-155 .
2 ـ نقل «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» ذيل الآية محل البحث هذا الكلام عن بعض المفسّرين المتقدمين .
3 ـ ينقل «الفخر الرازي» عن «الزمخشري» في تفسير الكشّاف أن الله قال في شأن ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب «هو علي هين» ولأنّ كلمة «عليّ» مقدمة ، فهي دليل على الحصر ، أي إن هذا العمل سهل علي فحسب لا على سواي ، أمّا في هذه الآية محل البحث فقد قال : سبحانه : (وهو أهون عليه ) فلا يستفاد منها الحصر ، وهي إشارة إلى أن كل من يستطيع أن يؤدي عملا في البداية فهو قادر على إعادته أيضاً «فلاحظوا بدقة» .
4 ـ تفسير الميزان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث .
5 ـ فسّر بعض المفسّرين جملة «تخافونهم كخيفتكم أنفسكم» بهذه المناسبة تفسيراً آخر ، حاصله أنّ هؤلاء المعبودين ليست لديهم القدرة حتى تخافوهم كما تخافون من بعضكم ، فكيف إذا كان الخوف أكثر! «إلاّ أن التّفسير الذي ذكرناه في البداية يبدو أقرب للنظر» .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|