أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-6-2020
2525
التاريخ: 7-6-2020
4513
التاريخ: 13-6-2020
13976
التاريخ: 5-6-2020
5288
|
قال تعالى:{ فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّة يَنهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فى الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَّذِينَ ظلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكانُوا مجْرِمِينَ(116) ومَا كانَ رَبُّك لِيُهْلِك الْقُرَى بِظلْم وأَهْلُهَا مُصلِحُونَ(117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود: 116، 119]
{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} أي: هلا كان وإلا كان ومعناه النفي وتقديره لم يكن من القرون من قبلكم قوم باقون { يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} أي: كان يجب أن يكون منهم قوم بهذه الصفة مع إنعام الله تعالى عليهم بكمال العقل وبعثة الرسل إليهم وإقامة الحجج لهم وهذا تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من قبلهم في الفساد نحوعاد وثمود والقرون التي عدها القرآن وأخبر بهلاكها أي: إن العجب منهم كيف لم تكن من جملتهم بقية في الأرض يأمرون فيها بالمعروف وينهون عن المنكر وكيف اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب وأنواع العقوبات لكفرهم بالله ومعاصيهم له وقيل :{ أولوا بقية } معناه : ذوودين وخير وقيل : معناه ذووبركة وقيل ذووتمييز وطاعة { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} المعنى: إن قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد وهم الأنبياء والصالحون الذين آمنوا مع الرسل فأنجيناهم من العذاب الذي نزل بقومهم وإنما جعلوا هذا الاستثناء منقطعا لأنه إيجاب لم يتقدم فيه صيغة النفي وإنما تقدم تهجين خرج مخرج السؤال ولورفع لجاز في الكلام { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: واتبع المشركون ما عودوا من النعم والتنعم وإيثار اللذات على أمور الآخرة واشتغلوا بذلك عن الطاعات { وكانوا } أي: وكان هؤلاء المتنعمون البطرون { مجرمين } مصرين على الجرم وفي الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر لأنه سبحانه ذمهم بترك النهي عن الفساد وأخبر بأنه أنجى القليل منهم لنهيهم عن ذلك ونبه على أنه لونهى الكثير كما نهى القليل لما هلكوا ثم أخبر سبحانه أنه لم يهلك إلا بالكفر والفساد فقال { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } وذكر في تأويله وجوه:
أحدها: إن المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه لهم ولكن إنما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم كما قال إن الله لا يظلم الناس شيئا الآية وثانيها : إن معناه لا يؤاخذهم بظلم واحدهم مع أن أكثرهم مصلحون ولكن إذا عم الفساد وظلم الأكثرون عذبهم وثالثها: أنه لا يهلكهم بشركهم وظلمهم لأنفسهم وهم يتعاطون الحق بينهم أي ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة أن يهلكهم الله بالعذاب عن ابن عباس في رواية عطا والواوفي قوله {وأهلها} واو الحال وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال { وأهلها مصلحون } ينصف بعضها بعضهم .
ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على ملة واحدة ودين واحد فيكونون مسلمين صالحين عن قتادة وذلك بأن يلجئهم إلى الإسلام بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لوراموا غير ذلك لمنعوا منه لكن ذلك ينافي التكليف ويبطل الغرض بالتكليف لأن الغرض به استحقاق الثواب والإلجاء يمنع من استحقاق الثواب فلذلك لم يشأ الله ذلك ولكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقوا الثواب .
وقيل: معناه لوشاء ربك لجعلهم أمة واحدة في الجنة على سبيل التفضل لكنه اختار لهم أعلى الدرجتين فكلفهم ليستحقوا الثواب عن أبي مسلم وقيل معناه لوشاء لرفع الخلاف فيما بينهم {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الأديان بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك عن مجاهد وقتادة وعطا والأعمش والحسن في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى عنه أنهم مختلفون في الأرزاق والأحوال ولتسخير بعضهم لبعض وقيل معناه يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا من غير نظر فإن قولك خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا سواء كما أن قولك قتل بعضهم بعضا وقولك: اقتتلوا سواء عن أبي مسلم .
{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} من المؤمنين فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق عن ابن عباس والمعنى لا يزالون مختلفين بالباطل إلا من رحمهم الله بفعل اللطف لهم الذي يؤمنون عنده ويستحقون به الثواب فإن من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل { ولذلك خلقهم } اختلف في معناه: فقيل يريد وللرحمة خلقهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وهذا هوالصحيح واعترض على ذلك بأن قيل لوأراد الله ذلك لقال ولتلك خلقهم لأن الرحمة مؤنثة وهذا باطل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي فإذا ذكر فعلى معنى التفضل والإنعام وقد قال سبحانه هذا رحمة من ربي وإن رحمة الله قريب ومثله قول امرىء القيس :
برهرهة رودة رخصة كخزعوبة البانة المنفطر(2)
ولم يقل المنفطرة لأنه ذهب إلى الغصن وقال :
قامت تبكيه على قبره من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار غربة قد ذل من ليس له ناصر
ولم يقل ذات غربة لأنه أراد شخصا ذا غربة . وقالت الخنساء :
فذلك يا هند الرزية فاعلمي ونيران حرب حين شب وقودها (3)
أراد الرزء وفي أمثال ذلك كثرة على أن قوله { إلا من رحم ربك } كما يدل على الرحمة يدل أيضا على أن يرحم فلا يمتنع أن يكون المراد لأن يرحموا خلقهم وقيل إن المعنى ولاختلاف خلقهم واللام للعاقبة يريد أن الله خلقهم وعلم أن عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم كما قال ولقد ذرأنا لجهنم عن الحسن وعطا ومالك ولا يجوز على هذا أن يكون اللام للغرض لأنه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم إذ لوأراد ذلك منهم لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف لأن الطاعة حقيقتها موافقة الإرادة والأمر ولوكانوا كذلك لما استحقوا عقابا وأما إذا حمل معنى الاختلاف على ما قاله أبومسلم فيجوز أن تكون اللام للغرض وقيل إن ذلك إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان وكونهم فيه أمة واحدة ولا محالة أن الله سبحانه لهذا خلقهم ويؤيد هذا قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
وقال المرتضى قدس الله روحه قد قال قوم أن معنى الآية ولوشاء ربك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنة فيكونوا في وصول جميعهم إلى النعيم أمة واحدة لفعل وأجروا هذه الآية مجرى قوله ولوشئنا لآتينا كل نفس هداها في أنه أراد هديها إلى طريق الجنة فعلى هذا التأويل يمكن أن يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخالهم أجمعين الجنة لأنه تعالى إنما خلقهم للمصير إليها والوصول إلى نعيمها { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي وصل وحيه ووعيده الذي لا خلف فيه بتمامه إلى عباده وقيل تمت كلمة ربك صدقا بأن وقع مخبرها على ما أخبر به عن الجبائي وقيل معناه وجب قول ربك عن ابن عباس وقيل مضى حكم ربك عن الحسن.
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } بكفرهم .
__________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص347-351.
2- البرهرهة: المرأة التي لها بريق في صفاتها .وقيل : هي الرقيقة الجلد . الرؤدة. الشابة الحسمة .وخزعوبة : القضيب الغض. والبانة : شجر والمنظر : المنشق.
3- والشاهد في قولها (ذلك) ، ولم تقل (تلك) لانها ارادت الرزء.
{ فَلَولا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الأَرْضِ } .
بعد ان ذكر سبحانه ما حل بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الهلاك والدمار بسبب تمردهم وفسادهم في الأرض قال عز من قائل : ما وجد في تلك الأمم - وكان ينبغي ان يوجد - أهل خير وصلاح يصدون الظالم عن الظلم ، والمفسد عن الفساد . . ولكن ظلم المترفون : وسكت عنهم آخرون ، فاستحق الجميع عذاب اللَّه وغضبه { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ }. المراد بهؤلاء القليل الأنبياء ومن آمن معهم ، ومن الجارة في { ممن }بيان للقليل ، وفي { منهم }للتبعيض ، وضمير الجماعة يعود إلى القرون ، والمعنى ان الفئة المؤمنة التي أنجاها اللَّه من الهلاك كانت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، ولكن لا أمر لمن لا يطاع .
{ واتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وكانُوا مُجْرِمِينَ }. المراد بما أترفوا فيه أموالهم وأملاكهم أي ان البقية الصالحة نهت المترفين عن الفساد في الأرض ، ولكن هؤلاء انقادوا إلى الترف والنعيم ، وآثروا العاجلة على الآجلة ، وأصروا على الإثم والمعصية ، ولا سر إلا ترفهم ونعيمهم : « وما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وأَوْلاداً وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - 35 سبأ » .
{ وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وأَهْلُها مُصْلِحُونَ }وإلا تساوى لديه المحسن والمسيء ، والصالح والطالح حاشا للَّه : « ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ وكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً - 146 النساء » .
ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة :
منذ ان نزلت هذه الآية ، حتى اليوم ، وأكثر الناس ، أوالكثير منهم يقولون : ولما ذا لم يشأ ، ويا ليته شاء ليريح البلاد والعباد من احن الطائفية وويلاتها ؟
ويتضح الجواب مما يلي :
1 - ينبغي قبل كل شيء أن نكون على يقين بأن اللَّه سبحانه لا يريد لعباده وعياله ان يتباغضوا يتناحروا ، كيف ، وهوالقائل : « ولا تنازعوا فتفشلوا » .
وليس من الضروري إذا لم يكرههم على الوئام والوفاق ان يريد لهم النزاع والصراع . .
فإذا قلت - مثلا - لا أحب أن يكون أولادي على رأي واحد في السياسة فليس معنى هذا انك تريدهم متقاتلين متناحرين .
2 - ان للاكراه على الدين - بمعنى الاعتقاد - طريقين : الأول استعمال القوة . الثاني ان يخلق اللَّه الايمان في القلب كما خلق اللسان في الفم ، والطريق الأول يتناقض مع مبدأ الدين نفسه ، بل ومنطق العقل أيضا ، لأن القوة لا تصنع الإيمان والاعتقاد ، بل العكس هوالصحيح فان الايمان الحق طريقه الأدلة والبراهين ، ومن أجل هذا عرض القرآن هذه الأدلة في أساليب شتى ، وحض الإنسان على النظر إليها وتدبرها ، لينتهي منها مختارا إلى الايمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر . .
أما الأمر بالقتال من أجل الدين فالمراد منه القتال للعمل بشريعة الحق والعدل ، والحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه .
أما الطريق الثاني ، وهوان يخلق اللَّه الايمان في قلب الإنسان فإنه يخرج الإنسان عن إنسانيته ، ويجعل أفعاله بالنسبة إليه ، تماما كالثمرة على الشجرة ، لا إرادة له ولا كسب ولا تفكّر وتدبّر لخلق الكون وما فيه ، ولا استحقاق لمدح أوذم ، ولا لثواب أوعقاب على شيء . وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 35 من سورة الأنعام ج 3 ص 183 و388 .
والخلاصة ان اللَّه سبحانه لم يشأ بطريق من الطرق أن يكره الناس على الايمان لأنه لوشاء لسلب عنهم صفة الإنسانية ، وكانوا أشبه بالحيوانات والحشرات ، لا يتحملون أية تبعة ، ولا يحاسبون على شيء ، ولكن شاء اللَّه سبحانه أن يميز الإنسان عن كل مخلوق ، ويرتفع به إلى حيث لا شيء فوقه الا خالق الكون والإنسان . . ومحال أن يبلغ هذه العظمة من غير جهد واختيار ، ولذا أمده اللَّه بالقدرة والإدراك والوجدان ، والهداية إلى النجدين ، ثم ترك له حرية الاختيار ، ليتحمل وحده تبعة ما يختار ، وتتحقق له بذلك الإنسانية الكافية الوافية .
فجاءت النتيجة أن يختلف الناس في عقائدهم وآرائهم . أنظر فقرة « ليس بالإمكان أبدع مما كان » ج 2 ص 384 ، وفقرة « الاختلاف بين الناس » ج 1 ص 318 { ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ }أي ان الناس اختلفوا فيما مضى ، وسيستمرون على هذا الاختلاف إلى الأبد ، لأنه نتيجة حتمية لجعل الإنسان مخيرا غير مسير ، يتجه إلى حيث شاء وأراد { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }والمراد بالمرحومين الذين يتوخون الحقيقة بإخلاص وتجرد ، وهؤلاء لا يتطاحنون ويتناحرون على الحطام ، وإذا اختلفوا فإنما يختلفون في الرأي ووجهة النظر « واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية » .
وتعدد وجهات النظر شيء مفيد ، لأن القول القوي هوالذي يكون قويا رغم وجود الأقوال الأخرى .
{ ولِذلِكَ خَلَقَهُمْ }أي أن اللَّه خلقهم لرحمته وللتراحم فيما بينهم ، وانما تشملهم رحمته تعالى إذا طلبوا الحق وعملوا به لوجه الحق . وقال أبوبكر المعافري الأندلسي في أحكام القرآن : ان اللَّه خلق الناس ليختلفوا فيما بينهم ، لا ليتراحموا ويتعاطفوا ، لأن اللَّه بزعمه يريد الشر والكفر والمعصية - على حد تعبيره - ولا ينطق بهذا الا شر الناس وأجرأهم على اللَّه ، لأن من يعبد ربا يريد الشر فبالأولى أن يكون هومريدا له . . وان أراد اللَّه الشر والكفر والمعصية كما يقول هذا المعافري فأي فرق بينه وبين من قال : « لأغوينهم أجمعين » ؟ سبحانه وتعالى عما يصفه الظالمون .
{ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ }أي أنه تعالى يملأ جهنم بالعصاة أتباع الشيطان من الجن والإنس ، وفي هذا المعنى قوله تعالى خطابا لإبليس : « فَالْحَقُّ والْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ - 85 ص » .
________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 277-279.
قوله تعالى:{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}إلخ لولا بمعنى هلا وإلا يفيد التعجيب والتوبيخ، والمعنى هلا كان من القرون التي كانت من قبلكم وقد أفنيناها بالعذاب والهلاك أولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها ويحفظوا أمتهم من الاستئصال.
وقوله:{ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله وشاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب والهلاك منهم فإنهم كانوا ينهون عن الفساد.
وقوله:{ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء وهم أكثرهم وعرفهم بأنهم الذين ظلموا وبين أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي أترفوا فيها وكانوا مجرمين.
وقد تحصل بهذا الاستثناء وهذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله والمجرمون ولذلك عقبه بقوله:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}.
قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون لأن ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحدا فقوله:{بظلم}قيد توضيحي لا احترازي، ويفيد أن سنته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم{وما ربك بظلام للعبيد}.
قوله تعالى:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا من رحم ربك - إلى قوله - أجمعين}الخلف خلاف القدام وهوالأصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف أباه أي سد مسده لوقوعه بعده، وأخلف وعده أي لم يف به كأنه جعله خلفه، ومات وخلف ابنا أي تركه خلفه، واستخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أوموته أوبنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم وذريته في الأرض، وخالف فلان فلانا وتخالفا إذا تفرقا في رأي أوعمل كأن كلا منهما يجعل الآخر خلفه، وتخلف عن أمره إذا أدبر ولم يأتمر به، واختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، واختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، واختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى.
ثم الاختلاف ويقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى وتضعيفها وآثار أخرى غير محمودة من نزاع ومشاجرة وجدال وقتال وشقاق كل ذلك يذهب بالأمن والسلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني وهوالاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد وهويؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية وبانضمام اختلاف الأجواء والظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني ولا طرفة عين.
وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلى نفسه حيث قال:{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}: الزخرف: 32.
ولم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس وخالف هدى العقل.
وليس منه الاختلاف في الدين فإن الله سبحانه يذكر أنه فطر الناس على معرفته وتوحيده وسوى نفس الإنسان فألهمها فجورها وتقواها، وأن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه وظلمهم{ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.
وقد جمع الله الاختلافين في قوله:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ - وهذا هوالاختلاف الأول في الحياة والمعيشة - وما اختلف فيه - وهذا هوالاختلاف الثاني في الدين - إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.
والذي ذكره بقوله:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}يريد به رفع الاختلاف من بينهم وتوحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، ومن المعلوم أنه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين وانقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله وهم قليل وطائفة أخرى وهم الذين ظلموا.
فالمعنى أنهم وإن اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك ولوشاء الله لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهونظير قوله:{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: النحل: 9 وقوله:{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا }: الرعد: 31.
وعلى هذا فقوله:{ولا يزالون مختلفين}إنما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإن ذلك هوالذي يذكر لنا أن لوشاء لرفعه من بينهم، والكلام في تقدير: لوشاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.
على أن قوله:{إلا من رحم ربك}يصرح أنه رفعه عن طائفة رحمهم، والاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة، وإنما رفع عنهم الاختلاف الديني الذي يذمه وينسبه إلى البغي بعد العلم بالحق.
وقوله:{إلا من رحم ربك}استثناء من قوله:{ولا يزالون مختلفين}أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق ولا يتفرقون عنه، والرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله:{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ }: البقرة: 213.
فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي والإثبات فيصير معنى قوله:{ولا يزالون مختلفين}أنهم منقسمون دائما إلى محق ومبطل، ولا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه إلا بحسب الأزمان دون الأفراد وذلك أن انضمام قوله:{إلا من رحم ربك}إليه يئول المعنى إلى مثل قولنا: إنهم منقسمون دائما إلى مبطلين ومحقين إلا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، ومن المعلوم أن المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إن منهم مبطلين ومحقين والمحقون محقون لا مبطل فيهم، وهذا كلام لا فائدة فيه.
على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا وهم من الناس المختلفين، والاختلاف قائم بهم وبالمبطلين معا.
قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية وسائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله إنما هوالاختلاف في الحق ومخالفة البعض للبعض في الحق وإن كانت توجب كون بعض منهم على الحق وعلى بصيرة من الأمر لكنه إذا نسب إلى المجموع وهوالمجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع وتفرقهم عن الحق وعدم اجتماعهم عليه وتركهم إياه بحياله، ومقتضاه اختفاء الحق عنهم وارتيابهم فيه.
والله سبحانه إنما يذم الاختلاف من جهة لازمة هذا وهوالتفرق والإعراض عن الحق والآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلولا أن المراد بالمختلفين أهل الآراء أوالأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك.
ومن أحسن ما يؤيده قوله تعالى:{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }: الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، وكذا قوله:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }: الأنعام: 153 وهذا أوضح دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق والاختلاف.
ولذلك ترى أنه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرت من الآيات:{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب}: آية - 110 من السورة وقد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه.
وقال تعالى:{عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون}: النبأ: 3 أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون وقال:{إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون}: الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه ولا يبتني على علم بل الخرص والظن هوالذي أوجده فيكم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: آل عمران: 71 فإن هذا اللبس المذموم منهم إنما كان بإظهار قول يشبه الحق وليس به وهوإلقاء التفرق الذي يختفي به الحق.
فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا وآراء يتفرقون بها عن الحق ويظهر بها الريب فهم لاتباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا وعدوانا بعد علمهم بالحق فهواختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
ويتبين بما تقدم على طوله أن الإشارة بقوله:{ولذلك خلقهم}إلى الرحمة المدلول عليه بقوله:{إلا من رحم ربك}والتأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى:{إن رحمة الله قريب من المحسنين}: الأعراف: 56 وذلك لأنك عرفت أن هذا الاختلاف بغي منهم يفرقهم عن الحق ويستره ويظهر الباطل ولا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، ولا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنساني ليبغوا ويميتوا الحق ويحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.
على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان أن الله تعالى يدعوالناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما ولا شرا، ولكنهم بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته، ويعبدون غيره، ويفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم فالذي منه هوالرحمة والهداية، والذي من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، وهذا هوالذي يعطيه سياق الآيات.
وكون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنما هولاتصالها بما هوالغاية الأخيرة وهوالسعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة:{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}: الأعراف: 43 وهذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }: الذاريات: 56.
وقوله:{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}أي حقت كلمته تعالى وأخذت مصداقها منهم بما ظلموا واختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والكلمة هي قوله:{لأملأن جهنم}إلخ.
والآية نظيره قوله:{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: الم السجدة: 13 والأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }: ص: 85 والآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.
هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين وقد تلخص بذلك: أولا أن المراد بقوله:{ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة}توحيدهم برفع التفرق والخلاف من بينهم وقيل: إن المراد هوالإلجاء إلى الإسلام ورفع الاختيار لكنه ينافي التكليف ولذلك لم يفعل ونسب إلى قتادة، وقيل: المعنى لوشاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، ونسب إلى أبي مسلم.
وأنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شيء من المعنيين.
وثانيا: أن المراد بقوله:{ولا يزالون مختلفين}دوامهم على الاختلاف في الدين ومعناه التفرق عن الحق وستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق.
وقال بعضهم: هوالاختلاف في الأرزاق والأحوال وبالجملة الاختلاف غير الديني ونسب إلى الحسن.
وقد عرفت أنه أجنبي من سياق الآيات السابقة.
وقال آخرون: إن معنى{مختلفين}يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم وتعاطي باطلهم، وهوكسابقه أجنبي من مساق الآيات وفيها قوله:{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}الآية.
وثالثا: أن المراد بقوله:{إلا من رحم}إلا من هداه الله من المؤمنين.
ورابعا: أن الإشارة بقوله:{ولذلك خلقهم}إلى الرحمة وهي الغاية التي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم.
وذكر بعضهم.
أن المعنى خلقهم للاختلاف ونسب إلى الحسن وعطاء.
وقد عرفت أنه سخيف ردي جدا نعم لوجاز عود ضمير{خلقهم}إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم وكانت الآية قريبة المضمون من قوله:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: الآية الأعراف: 179.
وذكر آخرون: أن الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وبالجملة الغاية هومطلق الاختلاف أعم مما في الدين أوفي غيره.
ونسب إلى ابن عباس بناء على ما روي عنه أنه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وإلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.
وخامسا: أن المراد بتمام الكلمة هوتحققها وأخذها مصداقها.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي، ج11،ص51-56.
عامل الإِنحراف والفساد في المجتمعات:
من أجل إِكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً، فإِنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.
لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.
الآية الأُولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع البلاء قائلة: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ} ثمّ تستثني جماعة فتقول: {إِلاّ قليلا ممن أنجينا}.
هذه الجماعة القليلة وإِن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنّها كحال لوط(عليه السلام) وأُسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممن آمن به، وصالح وجماعة من أتباعه، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإِصلاح العام والكلي في المجتمع.
وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }.
وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثّانية لتقول: إِنّ هذا الذي ترون من إِهلاك الله للأُمم، إِنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
واحياناً يسود الظلم والفساد في المجتمع، لكن المهم أنّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإِصلاح، وبهذا الشعور والإِحساس والتحرك بخطوات في طريق الإِصلاح يمهلهم الله، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.
ولكن هذا الإِحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتاً، وأخذ الفساد والظلم في الإِنتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير ... في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء أو الغذاء أو الماء أو الجروح الجلدية الخ ...
وهذه الكُريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إِذ تقف بوجه المكروبات و الجراثيم فتبيدها، أو على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.
وبديهي أن هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود، لو أضربت يوماً عن العمل وبقي البدن دون مدافع، فسيكون ميداناً لهجوم الجراثيم الضارّة بحيث تسرع أنواع الأمراض الى البدن.
وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن بـ{أولوا بقيّة} فإن جراثيم الأمراض الإِجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الامراض المختلفة.
إِن أثر {أُولوا بقيّة} في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إنّ المجتمع من دون «أُولي بقية» يُسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإِشارة إِليهم في الآية المتقدمة.
من هم أُولوا بقيّة ؟
كلمة «أولوا» تعني الأصحاب، وكلمة «بقيّة» معناها واضح أي ما يبقى، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى «أولو الفضل» لأنّ الإِنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده، فالمصطلح {أولوا بقيّة} يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.
ونظراً لأنّ الضعفاء ـ عادةً ـ يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الإِجتماعية، أو يصيبهم الفناء، ولا يبقى في ميدان المواجهة إِلاّ من يتمتع بقوّة فكرية أو جسدية، وبذلك يبقي الأقوياء فقط، ومن هذا المنطلق أيضاً تقول العرب في أمثالها: في الزوايا خبايا ... وفي الرجال بقايا.
كما جاءت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم، حيث نقرأ في قصّة طالوت وجالوت { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى}(البقرة،248).
وقرأنا أيضاً قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطباً قومه: {بقية الله خير لكم إِن كنتم مؤمنين}(هود 86).
وحيث نجد في قسم من التعبيرات إطلاق {بقية الله} على «المهدي الموعود»(عليه السلام)(2) فهو إِشارة الى هذا الموضوع أيضاً، لأنّه وجود ذو فيض وذخيرة إِلهية كبرى، وهو مُعَدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.
ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الأجلاّء الافذاذ والمكافحين للفساد، والمصطلح عليهم بـ{أولوا بقيّة} على المجتمعات البشرية لأنّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.
المسألة الأُخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة أنّها تقول: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
وبملاحظة التفاوت بين كلمتي «مصلح» و«صالح» تتجلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الصلاح وحده لا يضمنُ البقاء، بل اذا كان المجتمع فاسداً ولكن أفراده يسيرون باتجاه اصلاح الأُمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة أيضاً.
فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنةِ الخلقِ أن يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.
وبتعبير آخر: متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إِذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.
المسألة الدقيقة الأُخرى: إنّ واحداً من أسس الظلم والإِجرام ـ كما تشير إِليه الآيات المتقدمة ـ هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ«الترف».
فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الإِنحرافات في المجتمعات المرفهة، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إِعطاء القيم الإِنسانية الأصيلة حقّها ودرك الواقعيات الإِجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.
في الآية الأُولى محل البحث إِشارة الى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإِنسان ... وهي مسألة الإِختلاف والتفاوت في بناء الإِنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً، ومسألة حرية الإِرادة والإِختيار.
تقول الآية { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}.
لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإِصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.
نعم، لم يكن ـ أي مانع ـ أن يخلق جميع الناس بحكم إِلزامه وإِجباره على شاكلة واحدة، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإِيمان به ...
لكن مثل هذا الإِيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإِيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لايكون علامة على شخصية الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقاً يدفعها بحكم الغريزة الى أن تجمع الرحيق من الأزهار ... وخلق بعوضة الملاريا خلقاً يجعلها تستقر في المستنقعات، ولا يمكن لأيّ منهما أن تتخلى عن طريقتها.
إِلاّ أنّ قيمة الإِنسان و امتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة، وهي حرية الإِرادة والإِختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.
ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سبباً لأنّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أُخرى الباطل، إِلاّ أن يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ... ففي هذه الحال، ومع جميع ما لديهم من اختلافات، ومع الإِحتفاظ بالحريّة والإِختيار، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإِن كانوا يتفاوتون في هذا المسير.
ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الأُخرى: {إِلا من رحم ربُّك} ولكن هذه الرحمة الإِلهية ليست خاصّة بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» أن يستفيدوا منها {ولذلك خلقهم}.
الاشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم ... الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.
ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم، وإلاّ: فلا: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}.
__________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص195-200.
2- بحار الانوار ،ج52،ص191.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|