أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-3-2020
2181
التاريخ: 28-2-2020
3613
التاريخ: 18-1-2020
10693
التاريخ: 3-2-2020
4621
|
قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 98 - 100]
لما ذكر سبحانه أن إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونس قبل نزول العذاب فقال: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}قيل: إن معناه فهلا كان أهل قرية آمنوا في وقت ينفعهم إيمانهم أعلم الله سبحانه أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حضور الموت الذي لا يشك فيه ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب عن الزجاج قال وقوم يونس لم يقع بهم العذاب إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب فمثلهم مثل العليل الذي يتوب في مرضه وهو يرجو العافية ويخاف الموت.
وقيل: إن معناه لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا عن الحسن وقيل معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها يريد بذلك لم يكن هذا معروفا لأمة من الأمم كفرت ثم آمنت عند نزول العذاب وكشف عنهم أي لم أفعل هذا بأمة قط إلا قوم يونس {لما آمنوا}عند نزول العذاب كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم وهو قوله { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}عن قتادة وابن عباس وفي رواية عطاء وقيل إنه أراد بقوله {فلو لا كانت قرية آمنت} قوم ثمود فإنه قد جاءهم العذاب يوما فيوما كما جاء قوم يونس إلا أن قوم يونس استدركوا ذلك بالتوبة وأولئك لم يستدركوا فوصف أهل القرية بأنهم سوى قوم يونس ليعرفهم به بعض التعريف إذ كان أخبر عنهم على سبيل الإخبار عن النكرة عن الجبائي وهذا الذي ذكره إنما كان يصح لوكان {إلا قوم يونس}مرفوعا فكان يكون صفة لقرية أوبدلا منه على معنى هلا كان قوم قرية آمنوا إلا قوم يونس ولم يقرأ أحد من القراء بالرفع { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}وهو وقت انقضاء آجالهم .
لما تقدم أن إيمان الملجأ غير نافع بين سبحانه أن ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه فقال {ولو شاء ربك}يا محمد {لآمن من في الأرض}أي: لآمن أهل الأرض {كلهم جميعا} ومعناه: الإخبار عن قدرة الله تعالى وأنه يقدر على أن يكره الخلق على الإيمان كما قال إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ولذلك قال بعد ذلك { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ومعناه أن لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنك لا تقدر عليه لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريده لأنه ينافي التكليف وأراد بذلك تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم عنه.
وفي هذا أيضا دلالة على بطلان قول المجبرة أنه تعالى لم يزل كان شائيا ولأنه لا يوصف بالقدرة على أن يشاء لأنه تعالى أخبر أنه لوشاء لقدر لكنه لم يشأ فلذلك لم يوجد ولو كانت مشيئة أزلية لم يصح تعليقها بالشرط فصح أن مشيئته فعلية أ لا ترى أنه لا يصح أن يقال لو علم سبحانه ولو قدر كما صح أن يقال لو شاء ولو أراد.
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } معناه: أنه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإطلاق الله تعالى له في الإيمان وتمكينه منه ودعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك وقيل إن إذنه هاهنا أمره كما قال يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ف آمنوا خيرا لكم عن الحسن والجبائي وحقيقة الإذن إطلاقه في الفعل بالأمر وقد يكون الأذن بالإطلاق في الفعل برفع التبعة وقيل إن إذنه هنا علمه أي لا تؤمن نفس إلا بعلم الله من قولهم أذنت لكذا إذا سمعته وعلمته وأذنته أعلمته فيكون خيرا من علمه سبحانه لجميع الكائنات ويجوز أن يكون بمعنى إعلام الله المكلفين بفضل الإيمان وما يدعوهم إلى فعله ويبعثهم عليه.
{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} معناه: ويجعل العذاب على الذين لا يتفكرون حتى يعقلوا فكأنهم لا عقول لهم عن قتادة وابن زيد وقيل معناه ويجعل الكفر عليهم أي: يحكم عليهم بالكفر ويذمهم عليه عن الحسن وقيل الرجس الغضب والسخط عن ابن عباس وقال الكسائي الرجس النتن والرجز والرجس واحد قال أبو علي وكان الرجس على ضربين (أحدهما) أن يكون في معنى العذاب (والآخر) أن يكون بمعنى القذر والنجس أي يحكم بأنهم رجس كما قال سبحانه {إنما المشركون نجس} .
_________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص228-233.
وصف اللَّه سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين ، وبصاحب الحوت ، وبذي النون أي الحوت ، وأيضا وصفه بالمغاضب لقومه ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فلم يستجيبوا له ، فدعا اللَّه عليهم ، ورحل عنهم يائسا من إيمانهم . . وفي سورة القلم أمر اللَّه نبيه محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) أن يصبر ولا يتعجل بالدعاء على قومه بالعذاب كما فعل يونس : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُوَ مَكْظُومٌ - 48 القلم}.
أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مائة ألف : {وأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ - 147 الصافات}. وقال الرواة والمفسرون : ان قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل ، وانهم كانوا يعبدون الأصنام ، فنهاهم يونس عن الكفر ، وأمرهم بالتوحيد ، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء .
وبعد ان رحل يونس عن قومه أتتهم نذر العذاب ، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا إلى اللَّه ، ودعوه مخلصين ان يكشف عنهم العذاب ، ففعل ، وأبقاهم إلى انقضاء آجالهم ، وهذا هو معنى قوله تعالى : {فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
وقال المفسرون : ان قوم يونس لبسوا المسوح ، وخرجوا إلى الصحراء ، ومعهم النساء والأطفال والدواب ، وفرقوا بين كل والدة وولدها إنسانا وحيوانا ، فحن بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها ، واختلطت أصوات الآدميين بأصوات الحيوانات ، فرفع اللَّه عنهم العذاب ، ورجعوا إلى ديارهم آمنين .
أما يونس فقد ضرب في الأرض ، حتى انتهى إلى ساحل البحر ، فوجد جماعة في سفينة ، فسألهم ان يصحبوه ، ففعلوا ، ولما توسطوا البحر بعث اللَّه عليهم حوتا عظيما حبس عليهم سفينتهم ، فأيقنوا انه يطلب واحدا منهم ، فاتفقوا على الاقتراع ، فوقع السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر ، فابتلعه الحوت ، كما جاء في سورة الصافات : وان يونس لمن المرسلين إذ ابق - أي هرب - إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين - أي المغلوبين بالقرعة - فالتقمه الحوت وهو مليم ، أي وهو يلوم نفسه .
وألهم اللَّه الحوت ان يطوي يونس في بطنه ، دون ان يمسه بأذى ، وفزع يونس إلى ربه يناديه ويستجير به ، وهو في جوف الحوت (2) ، والى هذا أشارت الآية 87 من سورة الأنبياء : {فنادى في الظلمات ان لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.
ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد ان لبث في جوفه ما شاء اللَّه ان يلبث .
قال المفسرون : ان يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط ، وان اللَّه أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ، وذلك حيث يقول عز من قائل : {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ - أي في مكان خال من النبات - وهُوَ سَقِيمٌ وأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ - 146 الصافات}.
قالوا ، وعاد يونس بعد هذا إلى قومه ، ففرحوا بقدومه ، وفرح هو بإيمانهم .
{ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}. أي لو شاء اللَّه ان يكره الناس على الايمان ويلجئهم إليه إلجاء ، أو يخلقهم منذ البداية مؤمنين - لو شاء ذلك لما وجد كافر على ظهرها ، ولو فعل لبطل الثواب والعقاب ، وكان فعل الإنسان كالثمرة على الشجرة . . وسبق نظير هذه الآية في سورة الأنعام :
{ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - 35}. . {ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا - 107}وفي سورة البقرة : {ولَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ - 253}. وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج 1 ص 388 .
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}الخطاب لمحمد (صلى الله عليه واله) ، والمعنى لقد شاءت حكمته تعالى ان يكون الخيار في الانقياد إلى الحق ، أو عناده بيد الإنسان ، ليتميز الخبيث من الطيب ، ولا أحد في مقدوره ان يعاند مشيئة اللَّه . .
فعلام - إذن - تحزن وتذهب نفسك على كفرهم وعدم ايمانهم ؟ . والقصد من هذا التخفيف عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) . وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات ، منها قوله تعالى : {وما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ - 44 ق}أي بمسلط . .
ان عليك الا البلاغ .
{وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. ان للإنسان حالات ، ولكلّ سببها ، ومنها الايمان ، وطريقة النظر إلى آيات اللَّه بوعي وتجرد ، فمن أدركها على وجهها وحقيقتها انتهى حتما إلى الايمان بحكم اللَّه ومشيئته ، لأنه هو الذي جعل التدبر لآياته سببا للايمان به ، ومن أعرض عنها انتهى حتما إلى الكفر أيضا بحكم اللَّه لأنه هو الذي جعل الإعراض عن آياته سببا للكفر ، ولكنه تعالى جعل الخيار في سلوك أحد الطرفين بيد الإنسان ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها - 10 الشمس}أي ان الفلاح ثابت حتما لمن طهر نفسه من الأهواء والشهوات ، والخيبة ثابتة حتما لمن دنسها بالأقذار والآثام .
{ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}. المراد بالرجس هنا الكفر المقابل للايمان الذي هو بإذن اللَّه ، والمعنى ان الإعراض عن آيات اللَّه وعدم تدبرها يؤدي حتما إلى الكفر ، كما أن تدبرها يؤدي حتما إلى الايمان . وبهذا يتبين ان المراد بإذن اللَّه الايمان اللازم لادراك الدلائل والبينات التي أقامها اللَّه على وجوده ، على أن يكون مع هذا الإدراك الانصاف والتجرد عن الغايات والأهواء
_________________________
1- تفسير الكاشف ،محمد جواد مغنيه،ج4،ص193-195
2- لو تنبه إلى هذه الآية الكريمة الذين ينسبون المخترعات الحديثة إلى القرآن لقالوا : ان حوت يونس يشير إلى الغواصة . انظر المجلد الأول من هذا التفسير ص 38 ، فقرة « القرآن والعلم الحديث » .
قوله تعالى:{ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}إلخ، ظاهر السياق أن لو لا للتحضيض، وأن المراد بقوله:{آمنت}الإيمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده:{فنفعها إيمانها}ولوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق للنفي فاستقام الاستثناء الذي في قوله:{إلا قوم يونس}.
والمعنى: هلا كانت قرية - من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم - آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها.
لا ولم يؤمن إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العادية الطبيعية. ومنه يعلم أن الاستثناء متصل.
وذكر بعضهم أن المعنى لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا.
وفيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيات وهو ظاهر.
وذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب ومتعناهم. والإشكال عليه كالإشكال على سابقه.
قوله تعالى:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}أي لكنه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم ولا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه ولم يشأ ذلك فلا ينبغي لك أن تطمع فيه ولا أن تجتهد لذلك لأنك لا تقدر على إكراههم وإجبارهم على الإيمان، والإيمان الذي نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه وإجبار.
ولذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الإنكاري:{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله وهو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس وتجبرهم على الإيمان، وأنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك ولا أنا أقبل الإيمان الذي هذا نعته.
قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}لما ذكر في الآية السابقة أن الأمر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل الأرض جميعا لآمنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان ذلك ما محصله أن الملك - بالكسر - لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات.
والإيمان بالله عن اختيار والاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصه، ولا يؤثر هذا السبب ولا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود لم يأذن في إيمانهم، ولا رجاء في سعادتهم.
ولو أنه تعالى أذن في ذلك لأحد لأذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله:{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للإيمان إلى إذن الله، وقوله:{ويجعل الرجس}إلخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد حصول الإذن فيبقى غيرهم.
وقد أريد في الآية بالرجس ما يقابل الإيمان من الشك والريب بمعنى أنه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالإيمان، وقد عرف في قوله تعالى:{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون:}الأنعام: - 125.
وقد أريد أيضا بقوله:{الذين لا يعقلون}أهل التكذيب بآيات الله من جهة أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال:{وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون:}التوبة: - 93.
________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص97-98.
الاُمّة التي آمنت في الوقت المناسب!
تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة، والأقوام السابقة بصورة عامّة، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإِيمان بالله في وقت الإِختيار والسلامة، إلاّ أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإِلهي أظهروا الإِيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك.
وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول:{ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا}. ثمّ استثنت قوم يونس فقالت:{ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }أي إِلى آخر عمرهم.
إِنّ كلمة «لولا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين، ولذلك تمّ الإِستثناء منها بواسطة «إِلاّ» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة: لم يؤمن أي من الأقوام والأُمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء اللبصورة جماعية إلاّ قوم يونس.
إِلاّ أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لولا» لم تأت بمعنى النفي، بل أتت دائماً بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلاّ أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفياً، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ«إِلاّ».
وعلى كل حال، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضاً، إِلاّ أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإِلهي الحتمي، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأُخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإِلهي بالعذاب الحتمي، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإِيمان، إلاّ أنّ إِيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقاً ـ لم يكن له أثر ولا نفع.
قصّة إِيمان قوم يونس:
كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنّه عندما يئس يونس من إِيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم، وأن يستمر في إِرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.
يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد، إلاّ أنّ علاماته قد شرعت في الظهور، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء، وأظهروا الإِيمان والتوبة، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأُمهات والأولاد، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثره.
إِلاّ أنّ هذه التوبة والإِيمان والرجوع إِلى الله، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن وعي مقترن بالإِخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إِلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.
وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 ـ 148) من سورة الصافات، إِن شاء الله تعالى.
والجدير بالذكر، إِنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإِلهي، الحتمي، وإِلاّ لم تقبل توبتهم، بل كانت تأتيهم الإِنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي، وقد كان مقدارها كافياً للتوعية، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإِنذارات مراراً ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلاّ أنّهم لم يعبؤوا بها مطلقاً ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الإِبتلاءات ليؤمنوا، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقاً.
ثمّ إِنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأُمّة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإِسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإِحساس بالمسؤولية.
لاخير في الإِيمان الإِجباري:
لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإِيمان الإِضطراري لا يجدي نفعاً أبداً، ولهذا فإِنّ الآية الأُولى من هذه الآيات تقول:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إِيمان جماعة من هؤلاء، فإِنّ من مستلزمات أصل حرية الإِرادة والإِختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون، وإِذا كان الأمر كذلك{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟
إِنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أُخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإِسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إِنّ الإِسلام دين السيف، وقد فرض بالقوّة والإِجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأُخرى ـ بأنّ الإِيمان الإِجباري لا قيمة له، والدين والإِيمان شيء ينبع عادة من أعماق الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصّة وأنّها حذرت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من إِكراه وإِجبار الناس على الإِيمان والإِسلام.
الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ البشر وإِن كانوا أحراراً في اختيارهم، إلاّ أنّه{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ولهذا فإِنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل، ولم يكونوا مستعدين للإِستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم، وسوف لا يوفقون للإِيمان وهم على هذا الحال، إِذ{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}.
______________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج5،ص543-545.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|