أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-3-2020
2383
التاريخ: 3-2-2020
4627
التاريخ: 3-2-2020
3080
التاريخ: 25-3-2020
4206
|
قال تعالى: { فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ ومَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأَرْضِ وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83) وقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85) ونَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ( 86) وأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً واجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87) وقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأَهُ زِينَةً وأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الأَلِيمَ ( 88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [يونس: 83-89]
بين سبحانه من آمن من قوم موسى (عليه السلام) فقال { فَما آمَنَ لِمُوسى}أي: لم يصدق موسى في ما ادعى من النبوة مع ما أظهره من المعجزات الظاهرة.
{ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}أي: أولاد من قوم فرعون وقيل أراد من قوم موسى (عليه السلام) وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر واختلف من قال بالأول فقيل أنهم قوم كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط فاتبعوا أمهاتهم وأخوالهم عن ابن عباس وقيل أنهم أناس يسير من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وجارية وامرأة هي مشاطة امرأة فرعون عن عطية عن ابن عباس.
وقيل أنهم بعض أولاد القبط لم يستجب آباؤهم موسى واختلف من قال بالثاني فقيل هم جماعة من بني إسرائيل أخذهم فرعون لتعلم السحر وجعلهم من أصحابه ف آمنوا بموسى عن الجبائي وقيل أراد مؤمني بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف وكان يعقوب دخل مصر منهم باثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا حتى بلغوا ستمائة ألف وإنما سماهم ذرية على وجه التصغير لضعفهم عن ابن عباس في رواية أخرى وقال مجاهد أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء {على خوف من فرعون عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ }يعني آمنوا وهم خائفون من معرة فرعون {وملإيهم}ومن أشرافهم ورؤسائهم قال الزجاج وإنما جاز أن يقال {وملإيهم}لأن فرعون ذوأصحاب يأتمرون له وقيل أن الضمير في {ملإيهم}راجع إلى الذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وكانوا يخافون قومهم من القبط أن يصرفوهم عن دينهم ويعذبوهم {أن يفتنهم}أي: يصرفهم عن الدين يعني أن يمتحنهم لمحنة لا يمكنهم الصبر عليها فينصرفون عن الدين وكان جنود فرعون يعذبون بني إسرائيل فكان خوفهم منه ومنهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}أي: مستكبر باغ طاغ في أرض مصر ونواحيها {وإنه لمن المسرفين}أي: من المجاوزين الحد في العصيان لأنه ادعى الربوبية وأسرف في القتل والظلم والإسراف التجاوز عن الحد في كل شيء.
{وقال موسى} لقومه الذين آمنوا به { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} كما تظهرون { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}أي: فأسندوا أموركم إليه إن كنتم مسلمين على الحقيقة وإنما أعاد قوله {إن كنتم مسلمين} بعد قوله {إن كنتم آمنتم بالله} ليتبين المعنى باجتماع الصفتين التصديق والانقياد أي: إن كنتم آمنتم بالله فاستسلموا لأمره وفائدة الآية بيان وجوب التوكل على الله عند نزول الشدة والتسليم لأمره ثقة بحسن تدبيره وانقطاعا إليه.
{فقالوا على الله توكلنا}أخبر سبحانه عن حسن طاعتهم له وأنهم قالوا أسندنا أمورنا إلى الله واثقين { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }أي: لا تمكن الظالمين من ظلمنا بما يحملنا على إظهار الانصراف عن ديننا عن مجاهد وقيل معناه ربنا لا تظهر علينا فرعون وقومه فيفتتن بنا الكفار ويقولوا لوكانوا على الحق لما ظفرنا عليهم عن الحسن وأبي مجاز وروى زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أن معناه لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا {ونجنا} وخلصنا {برحمتك من القوم الكافرين} أي: من قوم فرعون واستعبادهم إيانا وأخذهم جماعتنا بالأعمال الشاقة والمهن الخسيسة .
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} أي: أمرناهما { أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} أي: اتخذا لمن آمن بكما بمصر يعني البلدة المعروفة بيوتا تسكنونها وتأوون إليها { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} اختلف في ذلك فقيل لما دخل موسى مصر بعد ما أهلك الله فرعون أمروا باتخاذ مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى وأن يجعلوا مساجدهم نحوالقبلة أي الكعبة وكانت قبلتهم إلى الكعبة عن الحسن ونظيره في بيوت أذن الله أن ترفع الآية وقيل أن فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم يصلون فيها خوفا من فرعون وذلك قوله { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل معناه اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا عن سعيد بن جبير {وأقيموا الصلاة} أي: أديموها وواظبوا على فعلها {وبشر المؤمنين} بالجنة وما وعد الله تعالى من الثواب وأنواع النعيم والخطاب لموسى (عليه السلام) عن أبي مسلم وقيل الخطاب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم).
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ } أي: أعطيت فرعون وقومه {زينة} يتزينون بها من الحلي والثياب وقيل الزينة الجمال وصحة البدن وطول القامة وحسن الصورة {وأموالا} يتعظمون بها {في الحياة الدنيا} وإنما أعطاهم الله تعالى ذلك للإنعام عليهم مع تعريه من وجود الاستفساد { رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} اللام للعاقبة والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضا منهم الضلال وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا وقيل معناه لئلا يضلوا عن سبيلك فحذفت لا كقوله شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أي لئلا تقولوا وحذف ذلك لدلالة العقل عليه وقيل أنه لام الدعاء والمعنى ابتلهم بالبقاء على ما هم عليه من الضلال وإنما قال ذلك لعلمه بأنهم لا يؤمنون من طريق الوحي وفائدته إظهار التبرؤ منهم كما يلعن إبليس ويدل عليه أنه أعاد قوله {ربنا اطمس على أموالهم}فدل ذلك على أنه أراد به الدعاء عليهم والمراد بالطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها قال مجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير صارت جميع أموالهم حجارة حتى السكر والفانيذ (2)
{واشدد على قلوبهم} معناه ثبتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم فيكون ذلك أشد عليهم وقيل معناه أمتهم بعد سلب أموالهم وأهلكهم وقيل أنه عبارة عن الخذلان والطبع {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} قد ذكرنا وجوهه وقيل معناه أنهم لا يؤمنون إيمان إلجاء حتى يروا العذاب وهم مع ذلك لا يؤمنون إيمان اختيار أصلا.
ثم أخبر سبحانه أنه أجاب لهما الدعوة فقال {قال}أي: قال الله تعالى لموسى وهارون {قد أجيبت دعوتكما} والداعي كان موسى (عليه السلام) لأنه كان يدعووكان هارون يؤمن على دعائه فسماهما داعيين عن عكرمة والربيع وأبي العالية وأكثر المفسرين ولأن معنى التأمين اللهم استجب هذا الدعاء {فاستقيما} أي: فاثبتا على ما أمرتما من دعاء الناس إلى الإيمان بالله تعالى والإنذار والوعظ قال ابن جريج مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} نهاهما سبحانه عن أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله ولا يعرفه ولا يعرف أنبياءه (عليهم السلام) .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص216-221.
2- الفانيذ :ضرب من الحلواء ،فارسي معرب .
{فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ ومَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ}.
بعد أن ألقى موسى العصا ، واظهر اللَّه الحق على يده في مشهد عام آمن السحرة وخلق كثير ، أما قبل إلقاء العصا فقد آمن به الفتيان والشبان من بني إسرائيل ، لأن الشباب من كل قوم كانوا وما زالوا يتحمسون لكل جديد ، ولكنهم آمنوا بموسى ، وهم خائفون من فرعون ومن رؤوس الإسرائيليين أيضا ان يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدوا عن دينهم ، فلقد كان أرباب المصالح من اليهود يتآمرون مع فرعون ، ويناصرونه على المستضعفين من قومهم ، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أهل الأديان في كل زمان ومكان {وإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأَرْضِ}أي طاغية مستبد {وإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}لا يقف في استبداده وطغيانه عند حد .
{وقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}.
موسى (عليه السلام)أعزل من كل شيء إلا من الحق ، وفرعون يملك كل شيء إلا الحق ، وقد تسلط على من آمن بموسى يضطهدهم وينكل بهم ، فقال لهم موسى :
لا قوة لي ولا لكم تصد طغيان فرعون عنكم وظلمه لكم إلا التوكل على اللَّه ، والثقة بوعده ان العاقبة للمتقين ، فسلموا الأمر إليه ان كنتم مطيعين حقا لأوامره .
وقد ذكر لهم ثلاثة أوصاف : الايمان ، وهوالتصديق في القلب ، والإسلام ، والمراد به هنا الانقياد والاستسلام لأمره تعالى ، والتوكل ، وهوالإخلاص والتفويض إلى اللَّه وحده . . فمن جمع هذه الأوصاف كان اللَّه معه .
{فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا}وتركنا إليه أمرنا ، فهوأعلم بحالنا وصالحنا ، وهوعلى كل شيء قدير . {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. المراد بالظالمين هنا الكافرون ، وهم فرعون وقومه ، أما الفتنة فالمراد بها العذاب ، والمعنى لا تجعلنا محلا لعذابهم {ونَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}. المراد بالكافرين الظالمون ، وهم فرعون وقومه الذين اضطهدوا وظلموا بني إسرائيل ، والمراد بالنجاة الخلاص من ظلمهم واضطهادهم ، وعليه تكون هذه الآية تفسيرا للتي قبلها .
{وأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً}. أي لا تخرجا من مصر ، وابقيا فيها ، واتخذا مساكن لبني إسرائيل يأوون إليها ، ويعتصمون بها {واجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}الخطاب لموسى وأخيه ومن تبعهما . وقيل : معناه اجعلوا بيوتكم متقابلة في جهة واحدة ، أي اسكنوا جميعا في حي واحد ، وهذا التفسير أرجح من تفسير البيوت بالمساجد ، أي اجعلوا بيوتكم مساجد ، ووجه الرجحان ان البيوت غير المساجد ، فهذه للعبادة فقط ، وتلك للسكن {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ}لأنها ترمز إلى الإخلاص للَّه ، وتجمع القلوب على الاحساس المتحد {وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}بالنجاة من فرعون وملئه في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وخص الخطاب بموسى وحده لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون تبع له .
{وقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأَهُ زِينَةً وأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
نزلت هذه الآية في زمن لم يكن الناس يعرفون شيئا عما تحتويه قبور الفراعنة ، ثم كشف الحفر والتنقيب فيها عن هذه الأموال والزينة التي نص عليها القرآن ، وهذا شاهد محسوس لا يقبل الشك والريب في أن القرآن وحي من علام الغيوب .
{رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}اللام في ليضلوا للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب أي كانت نتيجة انعام اللَّه عليهم بالزينة والمال ان عصوه بدلا من أن يطيعوه .
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ}بمحقها وتدميرها . . وقد يظن ظان ان في هذا الدعاء إيماء إلى أن موسى طلب من اللَّه ان يمنع الغنى والترف عن أهل البغي والضلال كيلا يزدادوا بغيا وطغيانا . . ولكن الذنب ذنب الأوضاع الفاسدة التي نهى اللَّه عنها . وبسطنا الكلام عن ذلك في ج 3 ص 94 فقرة : {الرزق وفساد الأوضاع عند تفسير الآية 66 من المائدة}.
{واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ} قيل : معناها واطبع على قلوبهم . وقيل : بل المراد ثبتهم على المقام في بلدهم ، حتى يروا هلاك أموالهم رأي العين ، والذي نراه أن اشدد هنا مأخوذة من الشدة والبلاء ضد الراحة والرخاء ، أي ان موسى (عليه السلام) سأل اللَّه تعالى أن ينزل الشدائد على قلوبهم ، وهذا يتناسب تماما مع سؤاله ان ينزلها اللَّه على أموالهم . {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الأَلِيمَ}. هذه الجملة معطوفة على ليضلوا عن سبيلك ، والمعنى ان عاقبة تقلب فرعون وملئه في نعم اللَّه ان ضلوا وأصروا على الكفر ، وان لا يؤمنوا إلا عند حلول العذاب حيث لا يقبل الإيمان . . وليس من شك ان موسى (عليه السلام) ما دعا عليهم وقال هذا القول إلا بعد اليأس من صلاحهم .
{قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما} وهي انزال الآفات على أموال فرعون وملئه ، والمصائب والشدائد على قلوبهم {فَاسْتَقِيما}على الطريقة التي أنتما عليها من الجهاد في سبيل الدعوة إلى الحق . {ولا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}عظمة اللَّه وحكمته . . وجاز هنا نهي المعصوم عن الذنب لأنه من اللَّه ، لا من سواه ، فإن من شأن الأعلى أن يأمر وينهى من دونه كائنة ما تكون منزلته.
___________________
1- تفسير الكاشف، محمد جواد مغنيه ،ج4،ص185-187.
قوله تعالى:{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ}إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في{قومه}راجع إلى فرعون، والذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط فتبعوا أمهاتهم في الإيمان بموسى، وقيل: الذرية بعض أولاد القبط، وقيل: أريد بها امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وقد ذكرا في القرآن وجارية وامرأة هي مشاطة امرأة فرعون.
وذكر آخرون أن الضمير لموسى (عليه السلام) والمراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل تعلموا السحر وكانوا من أصحاب فرعون، وقيل: هم جميع بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، وقيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى وقد هلكوا بطول العهد، وهذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شيء منها في الآيات من جهة اللفظ.
والذي يفيده السياق وهو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى والمراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأقوياء والشرفاء، والاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء والأقوياء بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي، ويتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة ومراءاة النصح والتجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملإ من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، ويتظاهروا بالإيمان به.
على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده وإن كانوا يتسلمون له ويطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور أمر والإيمان بالله وما جاء به الرسول أمر آخر.
ويستقيم على هذا معنى قوله:{وملئهم}بأن يكون الضمير إلى الذرية ويفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ والأشراف من بني إسرائيل فإنهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أوتظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه ويطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم وينقصوا من إيذائهم والتشديد عليهم.
وأما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذوأصحاب أوللذرية لأنهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة وخاصة أول الوجهين.
وقوله:{أن يفتنهم}أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته وقوله:{ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}أي والظرف هذا الظرف وهو أن فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر.
فالمعنى - والله أعلم - فتفرع على قصة بعثهما واستكبار فرعون وملئه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل وهم يخافون ملأهم ويخافون فرعون أن يعذبهم لإيمانهم وكان ينبغي لهم ومن شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا في الأرض مسلطا عليهم وإنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم ويجاوز الحد في الظلم والتعذيب.
ولو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى وبلغهم الرسالة وهم القبط وبنوإسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلفاتهم.
قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}لما كان الإيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه ولوإجمالا وأنه سبب فوق الأسباب إليه ينتهي كل سبب، وهو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه والتجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه من الجهل، ولازم ذلك إرجاع الأمر إليه والتوكل عليه، وقد أمرهم في الآية بالتوكل على الله، علقه أولا على الشرط الذي هو الإيمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي هو الإسلام.
فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله ومسلمين له فتوكلوا عليه.
وقد فرق بين الشرطين ولعله لم يجمع بينهما فيقول:{إن كنتم آمنتم وأسلمتم فتوكلوا}لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإيمان واقعا محرزا منهم، وأما الإسلام فهومن كمال الإيمان، وليس من الواجب الضروري أن يكون كل مؤمن مسلما بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإسلام.
فالتفريق بين الشرطين للإشعار بكون أحدهما واجبا واقعا منهم، والآخر مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - وقد آمنتم - وكنتم مسلمين له - وينبغي أن تكونوا كذلك - فتوكلوا على الله ففي الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى.
قوله تعالى:{ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}إلى آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون وملئه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم:{ربنا لا تجعلنا فتنة}إلخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم وهوأن ينزع الله منهم لباس الضعف والذلة، وينجيهم من القوم الكافرين.
أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم:{ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين}وذلك أن الذي يغري الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هوما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوي الظالم كما أن الأموال والأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للإنسان قال تعالى:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة:}التغابن: - 15، والدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف والذلة بسلب الغرض منه وهوسلب الشيء بسلب سببه.
وأما الثاني أعني التنجية فهوالذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية:{ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}.
قوله تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}إلخ، التبوي أخذ المسكن والمنزل، ومصر بلد فرعون، والقبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره فهومصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي جهة واحدة وكان الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أويشعر به قوله بعده:{وأقيموا الصلاة}لوقوعه بعده.
وأما قوله:{وبشر المؤمنين}فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا:{ربنا لا تجعلنا فتنة}إلى آخر الآيتين.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر - وكأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أوعيشة تشبهها - واجعلا أنتما وقومكما بيوتكم متقابلة وفي جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع في الصلوات، وأقيموا الصلاة وبشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون وقومه.
قوله تعالى:{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا }إلخ، الزينة بناء نوع من الزين وهي الهيأة التي تجذب النفس إلى الشيء، والنسبة بين الزينة والمال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه واعتدال القامة، وبعض المال ليس بزينة كالأنعام والأراضي، وبعض المال زينة كالحلي والتقابل الواقع بين الزينة والمال يعطي أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي والرياش والأثاث والأبنية الفاخرة وغيرها.
وقوله:{ربنا ليضلوا عن سبيلك}قيل اللام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضا منهم الضلال، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى.
وهو حق لكن في الإضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، وأما الإضلال بعنوان المجازاة ومقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، وقد كان فرعون وملؤه مصرين على الاستكبار والإفساد ملحين على الإجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة وأموالا ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا.
وربما قيل: إن اللام في{ليضلوا}للدعاء، وربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، والسياق لا يساعد على شيء من الوجهين.
والطمس - كما قيل - تغير إلى الدثور والدروس فمعنى{اطمس على أموالهم}غيرها إلى الفناء والزوال، وقوله:{واشدد على قلوبهم}من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم واربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فهوالطبع على القلوب، وقول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم وآلم، وكذا قول آخرين: إنه كناية عن إماتتهم وإهلاكهم من الوجوه البعيدة.
فمعنى الآية: وقال موسى - وكان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون وملئه ويقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال والإضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه - ربنا إنك جازيت فرعون وملأه على كفرهم وعتوهم جزاء السوء فآتيتهم زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لأن يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، وإرادتك لا تبطل وغرضك لا يلغوربنا أدم على سخطك عليهم واطمس على أموالهم وغيرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة واجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفا لا ينفعهم الإيمان وهوزمان يرون فيه العذاب الإلهي.
وهذا الدعاء من موسى (عليه السلام) على فرعون وملئه إنما هوبعد يأسه التام من إيمانهم، وعلمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يضلوا ويضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله:{ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا:}نوح: - 27، وحاشا ساحة الأنبياء (عليهم السلام) أن يتكلموا على الخرص والمظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه وعز شأنه.
قوله تعالى:{قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}الخطاب - على ما يدل عليه السياق - لموسى وهارون ولم يحك الدعاء في الآية السابقة إلا عن موسى، وهذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى (عليه السلام) كان يدعو، وكان هارون يؤمن له وآمين دعاء فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى (عليه السلام) وحده.
والاستقامة هو الثبات على الأمر، وهومنهما (عليه السلام) الثبات على الدعوة إلى الله وعلى إحياء كلمة الحق، والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل وقد وصفهم موسى (عليه السلام) بالجهل كما في قوله:{قال إنكم قوم تجهلون:}الأعراف: - 138.
والمعنى:{قال}الله مخاطبا لموسى وهارون{قد أجيبت دعوتكما}من سؤال العذاب الأليم لفرعون وملئه، والطمس على أموالهم والشد على قلوبهم{فاستقيما}واثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإحياء كلمة الحق{ولا تتبعان}البتة{سبيل الذين لا يعلمون}بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم ودواعي شهواتهم، وفيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية وسيرتهم الجاهلية.
وبالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإيمان ووعدهما بذلك ولذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التي فيه.
ولم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أوالتراخي في القضاء عليهم بالعذاب وعلى ذلك جرى أيضا سياق الآية الدالة على القبول والإجابة وكذا الآية المخبرة عن كيفية إنجازه، وقد نقل في المجمع، عن ابن جريح: أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة: قال: وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ورواه عنه (عليه السلام) في الإحتجاج، وكذا في الكافي، وتفسير العياشي، عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) وفي تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه (عليه السلام).
________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص86-90.
المرحلة الثّالثة:
عكست هذه الآيات مرحلة أُخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول:{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}.
إِنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الامر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة:{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.
وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإِلى من يعود ضمير{من قومه} إِلى موسى أم فرعون؟
فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفراً قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير بـ{ذرية من قومه} لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.
إِلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إِسرائيل، والضمير يعود إِلى موسى، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله، وحسب قواعد اللغة والنحوفإِنّ الضمير يجب أن يرجع إِليه.
ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هوالآية التالية التي تقول:{وقال موسى يا قوم ...} أي إِنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».
الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير، هوأنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى، لا جماعة منهم.
إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها، فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة، فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعوالكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.
بناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى، وتعبير «الذريّة»يناسب هذا المعنى جدّاً.
هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك، وكانوا ضعفاء وعاجزين، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس (2)ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعوبعض أصدقائنا نقول: اذهب وادعُ الأولاد، بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً، وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية، فإِنّ الإِحتمال الأوّل يبقى على قوته.
إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد، إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.
والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة{أن يفتنهم} هوصرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب، أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أوغير دينية.
على كل حال، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم:{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}.
إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل، وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إِنّ الله معتمدي وكفى، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه، فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه، بل يصمد أمامها بالتوكل والإِعتماد على لطف الله والإِستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.
هذا هومفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء، وكل عسير مقابل إِرادته سهل يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.
إِنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل:{ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}. ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم:{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }.
(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من{المسرفين} وفي الآية الثّالثة سمّي هووأعوانه باسم{الظالمين}، وفي آخر آية بأنّهم من{الكافرين}.
إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا، أي التعدي على الحدود، ثمّ الظلم، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والالحاد!
المرحلة الرّابعة: مرحلة البناء من أجل الثّورة:
شرحت هذه الآيات مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.
ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت:{وأقيموا الصلاة}ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت:{وبشّر المؤمنين}.
يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.
لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:
1 ـ الإِهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّة فوائد:
إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.
والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.
والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.
2 ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هومعروف اليوم إنّما هومعنىً ثانوي لهذه الكلمة(3).
وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك وضع المسائل الإِجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.
3 ـ التوجه إِلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالإِعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.
4 ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائداً ـ بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.
الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي. إِنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد، ويمحونقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.
ثمّ أشارت إِلى إِحدى علل طغيان فرعون وأزلامه، فتقول على لسان موسى:{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}.
إِنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة، أي إِنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إِضلال الناس شاؤوا أم أبوا، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإِلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك لايبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء.
ثمّ يطلب موسى(عليه السلام) من الله طلباً فيقول:{ربّنا اطمس على أموالهم}.
«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ماورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة(4)، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!
ثمّ اضافت{وأشدد على قلوبهم} اي: اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء، وسينفتح أمامنا طريق الثورة، وتوجيه الضربه النهائية لهؤلاء.
اللّهم إِن كنتُ قد طلبتُ ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإِنتقام والحقد، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإِيمان أبداً:{ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } ومن الطبيعي أنّ الإِيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريباً ـ لا ينفع هؤلاء أيضاً.
ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه: الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إِسرائيل{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين، بل استمرا في برنامجكما الثوري{وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
____________________
1- تفسير الامثل ،نكارم الشيرازي،ج5،ص529-534.
2- تفسير الميزان، ج10،ص112،وتفسير مجمع البيان،ذيل الآية مورد البحث.
3- بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل، بل فسروها بنفس معناها، اي قبلة الصلاة، ويعتبرون جملة: (وأقيموا الصلاة) شاهداً على ذلك، إلاّ أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي، إِضافة إِلى أن إِرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إِشكال فيه أيضاً، كما مر علينا نظير هذا مراراً.
4- تفسير مجمع البيان ،ذيل الآية مورد البحث ،وبحار الانوار ،ج13 ، ص115.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|