أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-3-2020
15516
التاريخ: 28-2-2020
3619
التاريخ: 9-3-2020
2646
التاريخ: 17-3-2020
2593
|
قال تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس:31- 34]
قرر سبحانه أدلة التوحيد والبعث عليهم فقال:{قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {من يرزقكم} أي: من يخلق لكم الأرزاق {من السماء} بإنزال المطر والغيث {و} من {الأرض} بإخراج النبات وأنواع الثمار والرزق في اللغة هو العطاء الجاري يقال رزق السلطان الجند إلا أن كل رزق فإن الله هو الرزاق به لأنه لو لم يطلقه على يد ذلك الإنسان لم يجيء منه شيء فلا يطلق اسم الرزاق إلا على الله تعالى ويقيد في غيره كما لا يطلق اسم الرب إلا عليه ويقيد في غيره فيقال رب الدار ورب الضيعة ولا يجوز أن يخلق الله حيوانا يريد تبقيته إلا ويرزقه لأنه إذا أراد بقاءه فلا بد له من الغذاء {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} معناه :أم من يملك أن يعطيكم الأسماع والأبصار فيقويها وينورها ولو شاء لسلب نورها وحسها { وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قيل: معناه ومن يخرج الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان وقيل معناه ومن يخرج الحيوان من بطن أمه إذا ماتت أمه ويخرج غير التام ولا البالغ حد الكمال من الحي وقيل معناه ومن يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن {ومن يدبر الأمر} أي: ومن الذي: يدبر جميع الأمور في السماء والأرض على ما توجبه الحكمة {فسيقولون الله} أي: فسيعترفون بأن الله تعالى يفعل هذه الأشياء وأن الأصنام لا تقدر عليها {فقل أ فلا تتقون} أي: فقل لهم عند اعترافهم بذلك أ فلا تتقون عقابه في عبادة الأصنام وفي الآية دلالة على التوحيد وعلى حسن المحاجة في الدين لأنه سبحانه حاج به المشركين وفيها دلالة على أنهم كانوا يقرون بالخالق وإن كانوا مشركين فإن جمهور العقلاء يقرون بالصانع سوى جماعة قليلة من ملحدة الفلاسفة ومن أقر بالصانع على هذا صنفان موحد يعتقد أن الصانع واحد لا يستحق العبادة غيره ومشرك وهم ضربان فضرب جعلوا لله شريكا في ملكه يضاده ويناوئه وهم الثنوية والمجوس ثم اختلفوا فمنهم يثبت لله شريكا قديما كالمانوية ومنهم من يثبت شريكا محدثا كالمجوس وضرب آخر لا يجعل لله شريكا في حكمه وملكه ولكن يجعل له شريكا في العبادة يكون متوسطا بينه وبين الصانع وهم أصحاب المتوسطات.
ثم اختلفوا فمنهم من جعل الوسائط من الأجسام العلوية كالنجوم والشمس والقمر ومنهم من جعل المتوسط من الأجسام السفلية كالأصنام ونحوها تعالى الله عما يقول الزائغون عن سبيله علوا كبيرا {فذلكم الله} ذلك إشارة إلى اسم الله تعالى الذي وصفه في الآية الأولى بأنه الذي يرزق الخلق ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والكاف والميم للمخاطبين وهم جميع الخلق أخبر سبحانه أن الذي يفعل هذه الأشياء {ربكم الحق}الذي خلقكم ومعبودكم الذي له معنى الإلهية ويحق له العبادة دون غيره من الأصنام والأوثان { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}استفهام يراد به التقرير على موضع الحجة إذا لا يجد المجيب محيدا عن الإقرار به إلا بذكر ما لا يلتفت إليه والمراد به ليس بعد الذهاب عن الحق إلا الوقوع في الضلال لأنه ليس بينهما واسطة فإذا ثبت أن عبادة ما سواه باطل وضلال {فإني تصرفون}أي: فكيف تعدلون عن عبادته مع وضوح الدلالة على أنه لا معبود سواه.
{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } معناه أن الوعيد من الله تعالى للكفار بالنار في الصحة كالقول بأنه ليس بعد الحق إلا الضلال وقيل إن معناه مثل انصرافهم عن الإيمان وجبت العقوبة لهم أي جازاهم ربهم بمثل ما فعلوا من الانصراف وهذا في قوم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ومعناه سبق علم ربك في هؤلاء أنهم لا يؤمنون وقيل معنى قوله {أنهم لا يؤمنون} أولأنهم لا يؤمنون أي وجبت العقوبة عليهم لذلك .
ثم احتج سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر فقال {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: هل من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء لله في العبادة وقيل الذين جعلتموهم شركاء في أموالكم كما قال وهذا لشركائنا من يبدأ الخلق بالإنشاء بعد أن لم يكن وهو النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} معناه: فإن قالوا ليس من شركائنا من يقدر عليه أو سكتوا فقل أنت لهم الله هو الذي يبدأ الخلق بأن ينشئه على غير مثال ثم يفنيه ثم يعيده يوم القيامة {فأنى تؤفكون} أي: كيف تصرفون عن الحق وتقلبون عن الإيمان
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص183-186.
أركان الإيمان الحق عند اللَّه ثلاثة : الوحدانية ، والنبوة ، والبعث ، وعرض القرآن ألوانا من الأدلة على هذه الأركان ، وسبق بيانها مفصلا ، والآيات التي نفسرها الآن والتي بعدها من هذا الباب ، لأنها وردت لإبطال الشرك وزعم المشركين بأن أصنامهم تقربهم من اللَّه زلفى ، وانه لا بعث ولا حساب ، وان القرآن افتراه محمد على اللَّه . . وفيما يلي إبطال هذه المزاعم :
1 - {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ}. كل سبب من أسباب الرزق قريبا كان أو بعيدا لا بد أن يكون سماويا أو أرضيا ، فمن الأسباب السماوية المطر والضياء وغيرهما مما اكتشفه العلماء أو يكتشفونه في المستقبل القريب أو البعيد ، ومن الأسباب الأرضية النبات والحيوان والمعادن ، وجميع الأسباب ترجع إلى اللَّه وحده بواسطة السنن والنواميس الكونية ، لأنه تعالى هو خالق الكون ، والمشركون يعترفون بهذه الحقيقة ، ويقرون بأن اللَّه هو الخالق الرازق . . وهنا يأتي السؤال ، ويرد عليهم هذا الاشكال : ما دمتم تعتقدون أيها المشركون بأن اللَّه هو الخالق الرازق فكيف تجعلون له شركاء ؟ . وكيف يكون الشيء شريكا مع العلم بأنه لا أثر له على الإطلاق ؟ . وهل يصح أن تكون شريكي أيها القارئ - في تأليف هذا الكتاب ، وأنا الذي فكرت وصبرت وكتبت ؟ . . وقد بسطنا القول في هذا الموضوع ، وذكرنا الأدلة الكافية على بطلان الشرك وفساده في ج 2 ص 344 عند تفسير الآية 48 من سورة النساء .
2 - {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصارَ}خص سبحانه هاتين الحاستين بالذكر لأنهما الوسيلة الأولى لتحصيل العلوم ، حتى النظرية منها ، لأنها تنتهي إلى الحس والمشاهدة .
وقال الرازي عند تفسير الآية : « كان علي رضي اللَّه عنه يقول : سبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وانطق بلحم}.
3 - {ومَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}أي يملك الموت والحياة ، ومن أمثلة خروج الحي من الميت ما يأكله الحيوان ويمر بمعدته وامعائه وتجري عليه جميع عمليات التحليل ، وبالنهاية تتكوّن منه خلايا جديدة بدلا من الخلايا القديمة ، ومن أمثلة خروج الميت من الحي موت الخلايا التي يتخلص منها الجسم الحي بالتنفس والافراز . وتكلمنا عن الحياة عند تفسير الآية 95 من سورة الأنعام ، فقرة : {من أين جاءت الحياة}.
4 - {ومَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ}في الكون كله بما فيه ومن فيه {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}اللَّه وتخافونه فيما اخترعتم له من شركاء ؟ . . انهم لا ينكرون ان اللَّه وحده هو الذي يرزق ويملك السمع والبصر والموت والحياة والأمر كله ، ولكنهم يجعلون للَّه شركاء . . أما سر هذا التناقض فهو انهم نظروا إلى الخالق نظرة موضوعية فآمنوا بأنه المكوّن والمصور ، ثم نظروا إلى ما يقربهم منه زلفى نظرة عاطفية ذاتية فأخطأوا الواقع ، فبدلا أن يتقربوا إليه بالعمل والإخلاص اخترعوا له في أوهامهم شركاء ، وتقربوا بهم إليه .
{فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}أبدا لا واسطة بينهما اما حق وهدى واما باطل وضلال ، واللَّه سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق وفيهما أسباب الرزق ، وخلق السمع والبصر بالحق ، وهما طريق العلم : وهو يملك الموت والحياة بالحق ، وهذا الملك دليل القدرة والعظمة ، وهو يدبر الأمر بالحق ، وهذا التدبير يدل على العلم والحكمة . . فأي شيء بعد هذا الا الضلال والباطل والجهل والعناد { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}تاركين الحق إلى الضلال ، والتوحيد إلى الشرك .
{كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}. كذلك إشارة إلى ما تقدم من أنه ليس بعد الحق الا الضلال ، والمراد بكلمة ربك هنا العذاب كقوله تعالى : {ولكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ - 71 الزمر}، والمراد بالذين فسقوا المشركون ، والمعنى ان اللَّه سيعاقب المشركين عقاب من عاند الحق ورفض الايمان به بحال من الأحوال ، لأن هذا هو شأنهم في الواقع ، فلقد دعوا إلى التوحيد ، وقامت عليه عندهم الدلائل والبينات ، ومع ذلك أصروا على الشرك وماتوا عليه .
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي قل يا محمد للمشركين : ان اللَّه يخلق الشيء من لا شيء ، ويعيد الحياة لمن مات ، فهل يقدر شركاؤكم على ذلك ؟ وإذا عجزوا عنه فكيف تتحولون عن التوحيد إلى الشرك ؟
وتسأل : لقد عرفنا وجه الاحتجاج على المشركين بأن اللَّه يبدأ الخلق لأنهم يعترفون بذلك ، أما الاحتجاج عليهم بإعادته فلم نعرف له وجها لأن المشركين ينكرون الإعادة والحشر والنشر ؟ .
الجواب : لقد أقام القرآن في العديد من آياته الحجج الكافية الوافية على الإعادة والحشر والنشر ، وعجز المشركون عن ردها والطعن فيها ، وعجزهم هذا هو الوجه في إلزامهم والاحتجاج عليهم بأن اللَّه يعيد الخلق كما بدأه أول مرة . وبكلمة ان الحكم يرتكز على الدليل ، لا على تسليم الخصم به .
_________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنيه ،ج4،ص154-156.
حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامتها على المشركين، وهي ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة والمتانة فالحجة الأولى تسلك من الطريق الذي يعتبره الوثنيون وعبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لأجل ما يخص به من الشأن، وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، وأهل الجبال وأهل البر وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات وغيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه.
ومحصل الحجة أن تدبير العالم الإنساني وسائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحدوه بالربوبية ولا يعبدوا إلا إياه.
والحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين وذلك أنهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، وإنما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي تتعين سعادتها وشقاوتها بالجزاء الإلهي بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الإعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلا الله سبحانه، ولا يتخذ أرباب من دونه طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه.
والحجة الثالثة وهي التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين وهي أن المتبع عند العقل هو الحق، ولما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، وسيأتي في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.
ولو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى والثالثة فيذكر بعدها.
قوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى آخر الآية.
الرزق هو العطاء الجاري، ورزقه تعالى للعالم الإنساني من السماء هو نزول الأمطار والثلوج ونحوه، ومن الأرض هو بإنباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما يرتزق الإنسان، وببركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني والمراد بملك السمع والأبصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها فإنما هو يشخص ويميز ما يريده مما لا يريده بإعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده، ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها.
فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي، وإنما خص السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، والله سبحانه هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما بالإعطاء والمنع والزيادة والنقيصة.
وقوله: { وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} الحياة بحسب النظر البادىء في الإنسان هي المبدأ الذي يظهر به العلم والقدرة في الشيء فيصدر أعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك.
ثم اكتشف من طريق النظر العلمي أن ذلك لا يختص بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فإن الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات.
وكذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطي ذلك فإن جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهي أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدي إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان والنبات.
ثم الحياة وهي تقابل الموت الذي هو بطلان مبدإ الأعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشيء بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرة وموتها خلافه، وحياة العمل كونه بحيث ينتهي إلى الغرض الذي أتي به لأجله وموته خلافه، وحياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع أثرا مطلوبا وموتها خلافه، وحياة الإنسان كونه جاريا على ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا عد القرآن الشريف الدين حياة للإنسان لأنه يرى أن الدين الحق وهو الإسلام هو الفطرة الإلهية.
إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحي من الميت وخروج الميت من الحي يختلف.
معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمني والبيضة والبذر فإن الحي كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضا بحسب البدء في حياة غير متناهية ولا طريق إلى إثباته، وخروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان والنبات بالانفصال.
وعلى النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الأمور غير المفيدة في باب أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتولد كخلق الإنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس، وكخروج الإنسان العاقل الصالح من الإنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحي من الميت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، وذلك أن الآية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الآلهة المختلفة وهو أن العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتتة علوية وسفلية والسفلية من إنسان وحيوان ونبات وبحر وبر وأمور وراء ذلك كثيرة، وكل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة.
والآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وأن ذلك يدل على أن الله سبحانه رب كل شيء وحده، فهي تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم وما يعمكم وغيركم منه ينتهي إلى الله سبحانه فهو المدبر لأمركم وأمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.
وقد بدأت في التعداد بما يخص الإنسان أعني قوله: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وختمت بما يعمه وغيره أعني قوله: {ومن يدبر الأمر} وظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } هو التدبير الخاص بالإنسان فيكون المراد ملك السمع والأبصار التي لأفراد الإنسان، وكذا إخراج الحي من الإنسان من ميتة وبالعكس، وقد تبين أن الحياة المخصوصة بالإنسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين.
فالمراد بإخراج الحي من الميت وبالعكس - والله أعلم - إخراج الإنسان الحي بالسعادة الإنسانية من الإنسان الميت الذي لا سعادة له وبالعكس.
فالله سبحانه يلقن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: {قل} إن يقول لهم في سياق الاستفهام {من يرزقكم من السماء والأرض} بالأمطار والإنبات والتكوين {أمن يملك السمع والأبصار} منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، ولولاهما لم توفقوا لذلك وفنيتم عن آخركم {ومن يخرج الحي من الميت} أي كل أمر مفيد في بابه من غيره {ويخرج الميت من الحي} فيتولد الإنسان السعيد من الشقي والشقي من السعيد {ومن يدبر الأمر} في جميع الخليقة.
{فسيقولون الله} اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره لأن الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: {فقل أ فلا تتقون} ثم قال: {فذلكم الله ربكم}.
قوله تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، وقد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: {فما ذا بعد الحق إلا الضلال}.
وقوله: {فما ذا بعد الحق إلا الضلال} أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فإن الهدى في اتباعه وعبادته فإن الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فما ذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شيء وأقيم الباقي مقامه إيجازا، وقيل: فما ذا بعد الحق إلا الضلال، ولذا قال بعضهم: إن في الآية احتباكا - وهو من المحسنات البديعية - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شيء يدل عليه الآخر فإن تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل؟ وما ذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الأول والهدى من الثاني وبقي قوله: فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ والوجه هو الذي قدمناه.
ثم تمم الآية بقوله: {فأنى تصرفون} أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.
قوله تعالى: { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ظاهر السياق أن الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما وهو أن الفاسقين وهم على فسقهم - لا يؤمنون ولا تنالهم الهداية الإلهية إلى الإيمان، وقد قال تعالى: {والله لا يهدي القوم الفاسقين:} المائدة: - 108.
وعلى هذا فالإشارة بقوله: {كذلك} إلى ما تحصل من الآية السابقة: أن المشركين صرفوا عن الحق وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
فمعنى قوله: {كذلك حقت كلمة ربك} إلخ، أن الكلمة الإلهية والقضاء الحتمي الذي قضي به في الفاسقين - وهو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي أنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا وإنما قضينا ذلك لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.
وفي الآية دلالة على أن الأمور الضرورية والأحكام والقوانين البينة التي تجري في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإلهي، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.
وربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب وقوله: {أنهم لا يؤمنون} في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا وهي وعيدهم بالعذاب وإنما حقت عليهم العذاب لأنهم لا يؤمنون.
ولا يخلو عن سقم فإن وجه الشبه غير ظاهر ولا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها وأما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر وهو أنهم لا يؤمنون.
والحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدعونها من ربوبية أربابهم واستحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إن تدبير كل شأن من شئون العالم العامة إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، وإنما نعبد أصنامها وتماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.
فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له وهو خالق الكل ومبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية وهو المستحق للعبادة لا غيره.
قوله تعالى: { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى آخر الآية.
تلقين للاحتجاج من جهة المبدإ والمعاد فإن الذي يبدأ كل شيء ثم يعيده يستحق أن يعبده الإنسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه يوم المعاد.
ولما كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى جواب سؤاله بنفسه وقال: { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وإلى متى تصرفون عن الحق.
وليس اعتماد الآية على مسألة الإبداء والإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة ولا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل وغير ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.
والحجة - كما تقدم الإيماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أورغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة.
_________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي ،ج10، ص39-44.
الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته للعبادة، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع.
ففي البداية تقول: قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟ { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}.
«الرزق» يعني العطاء والبذل المستمر، ولما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه، فإِنّ «الرازق» و«الرزّاق» بمعناهما الحقيقي لايستعملان إلاّ فيه فقط، وإِذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز، كالآية (233) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}.
وينبغي ـ أيضاً ـ أن نذكّر بهذه النقطة، وهي أنّ أكثر أرزاق الإنسان من السماء، فالمطر المحيي للنبات من السماء، الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في فضاء الأرض، والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لايبقي بدونها أي كائن حي، ولاتنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنّها تأتي من السماء، وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنّها حية بنور الشمس، لأنا نعلم أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدّاً تنمو في طيات الأمواج على سطح المحيط مقابل أشعة الشمس، والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذي على لحوم الحيوانات البحرية الأُخرى التي تتغذى على تلك النباتات .
والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية، وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلا عن أرزاق السماء، ثمّ عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية .
ثمّ تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان، واللتان لايمكن كسب العلم وتحصيله بدونهما، فقالت: {أمن يملك السمع والأبصار}. وفي الواقع فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلا، ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.
إن كلمة (سَمع) مفردة، وهي بمعنى الأذن، و«الأبصار» وجمع بصر بمعنى العين، وهنا يأتي هذا السؤال، وهو: لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد، وأمّا البصر فإنّها جاءت تارة بصيغة المفرد، وتارةً اُخرى بصيغة الجمع جواب هذا السؤال مذكور في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية (7) من سوره البقرة .
ثمّ تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم الخلقة، فتقول: { وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعية وعلماء الاحياء، وهو كيف أتى الموجود الحي إِلى الوجود من موجود ميت؟ فهل إِنّ مثل هذه المسألة ـ التي لم تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إِلى الآن في كشف أسرارها ـ أمراً بسيطاً ومرتبطاً بالصدفة وبدون برنامج وهدف؟ لا شك أنّ من وراء ظاهرة الحياة المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي.
إِنّه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب، بل إِنّه قرر عدم خلود الحياة، ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل.
ويحتمل ـ أيضاً ـ في تفسير هذه الآية أنّها تشمل الموت والحياة المعنويين إِضافة إِلى الموت والحياة الماديين، لأنّنا نرى أناساً عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحياناً من أبوين ملوثين منحرفين لا إِيمان لهما، ويلاحظ أيضاً عكس ذلك حيث يأتي إِلى الوجود إِناساً تافهون لاقيمة لهم من أبوين فاضلين(2). خلافاً لقانون الوراثة.
طبعاً، لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إِلى كلا القسمين، لأنّ كليهما من عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم، وهما موضحان لهذه الحقيقة، وهي أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأُمور إِضافةً إِلى الأُمور الطبيعية.
وقد أعطينا توضيحات أُخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل الآية (95) من سورة الأنعام.
ثمّ تضيف الآية: {ومن يدبر الأمر}، والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب، ثمّ عن حافظها وحارسها ومدبرها. وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة: {فسيقولون الله}.
يستفاد من هذه الجملة جيداً أنّه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلة كانوا يعلمون أنّ الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو الله سبحانه، وقد علموا هذه الحقيقة عن طريق العقل، وكذلك عن طريق الفطرة، وهي أنّ هذا النظام الدقيق للعالم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة والفوضى، أو مخلوقاً من قبل هذه الأصنام.
وفي آخر الآية يأمر الله نبيّه {فقل أفلا تتقون} فإِنّ الوحيد الذي له أهلية العبادة هو الذي بيده الخلق وتدبير أمره، وإِذا كانت العبادة لأجل أهلية وعظمة ذات المعبود، فإنّ هذه الأهلية والعظمة منحصرة في الله تعالى، وإذا كانت من أجل أنّه مصدر الضر والنفع، فإنّ ذلك مختص بالله أيضاً.
وبعد أن عرضت الآية السابقة نماذج من آثار عظمة وتدبير الله في السماء والأرض، وأيقظت وجدان وعقل المخالفين ودعتهم للحكم في أمر الخالق، واعترف هؤلاء بذلك، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت: {فذلكم الله ربّكم الحق} لا الأصنام، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباري عزَّوجلّ، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.
كيف يمكن أن يكون هؤلاء أهلا للعبودية في حين أنّهم ليسوا فقط غير قادرين على المشاركة في خلق العالم وتدبيره فحسب، بل منغمسون في الفقر والاحتياج من الرأس حتى أخمص القدم.
ثمّ تنتهي إِلى ذكر النتيجة: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}وأَنّى تولوا وجوهكم عن عبادة الله وأنتم تعلمون ألا خالق ولا معبود حقّاً سواه؟
إِنّ هذه الآية في الواقع تطرح طريقاً منطقياً واضحاً لمعرفة الباطل وتركه، وهو أن يخطو الإِنسان أوّلا في سبيل معرفة الحق بآليات الوجدان والعقل، فإِذا عرف الحق فإِنّ كل ما خالفه باطل وضلال، ويجب أن يضرب عرض الحائط.
وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر وظهور الحق: { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(3) وفي الواقع فإِنّ هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تُظلم قلوبهم وتلوث أرواحهم إِلى درجة لايرون معها الحق رغم وضوحه وتجلّيه، ويسلكون نتيجة لذلك طريق الضلال.
بناء على ذلك، فإِنّ الآية أعلاه لا دلالة لها مطلقاً على مسألة الجبر، بل هي إِشارة إِلى آثار أعمال نفس الإِنسان، لكن لاشك أنّ هذه الأعمال لها تلك الخاصية بأمر الله، تماماً كما نقول لشخص: لقد قلنا لك مائة مرّة أن لا تحوم حول المواد المخدرة والمشروبات المسكرة ولا تتناولها، لكنّك لم تصغ لنا، فأصبحت الآن من المدمنين عليها ومحكوماً بأن تبقى تعيساً لمدّة طويلة.
واحدة من علامات الحق والباطل:
تعقب هذه الآيات أيضاً الإِستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد، وتأمر الآية الأُولى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}ثمّ تضيف: { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟
وهنا سؤلان:
الأوّل: إِنّ مشركي العرب غالباً لا يعتقدون بالمعاد، خاصّة بالصورة التي يذكرها القرآن، وإِذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟
الثّانى: في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإِقرارهم، إلاّ أنّ هذه الآية تأمر النّبي أن يقرّ هو بهذه الحقيقة، فلماذا هذا الإِختلاف في التعبير؟
إِلاّ أنّ الانتباه إِلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين، وهي: إِنّ المشركين بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني، إلاّ أنّ ذلك القدر الذي آمنوا به من أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والإِعتقاد به، لأنّ كل من عمل عملا في البداية قادر على إِعادته، وبناءً على هذا فإِنّ الإِعتقاد بالمبداً إِذا ما اقترن بشيء من الدقة كاف لإِثبات المعاد. ومن هنا يتّضح لماذا أقر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بهذه الحقيقة بدلا من المشركين، فإِنّه بالرغم من كون الإِيمان بالمعاد من لوازم الإِيمان بالمبدأ، إلاّ أنّ هؤلاء لما لم يتوجهوا إِلى هذه الملازمة، اختلف طراز التعبير وأقر النّبي مكانهم.
______________________
1- تفسيرالامثل ،مكارم الشيرازي ،ج5 ،ص468-473.
2- لقد جاء هذا المضمون في روايات متعددة في الجزء الأوّل ص 543 من تفسير البرهان في ذيل الآية (59)من سورة الأنعام.
3- كاف التشبيه هنا إِشارة إِلى المطلب الذي ذكر في آخر جملة من الآية السابقة، ومعنى الآية هكذا: كما أنّه ليس بعد الحق إلاّ الضلال، كذلك حقّت كلمة ربّك.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|