أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015
1558
التاريخ: 3-12-2019
3926
التاريخ: 22-03-2015
4931
التاريخ: 23-03-2015
3625
|
:المدارس التي عنيت بهومر
ونحن مستطيعون أن نقسم هذه المدارس من حيث الزمن إلى ثلاثة أطوار
أولًا: ما قبل العصر الإسكندري. ثانيًا: العصر الإسكندري. ثالثًا: ما بعد العصر الإسكندري.
أ- ما قبل العصر الإسكندري:
لم تكن العناية بهومر وقصيدته قبل العصر الإسكندري عناية نقدية علمية، وإنما كانت على ضروب شتى من التناول اليسير الخفيف، فهي حينًا إشارة عابرة إلى هومر وشعره الملحمي، وهي حينًا ثانيًا اقتباس لبعض الأبيات أو المقطوعات من ملحمتيه، وهي حينًا ثالثًا شرح لبعض ما يغمض على السامعين من ألفاظه أو إشاراته القصصية، وهي حينًا رابعًا تفسير عام لمذهبه في التحدث عن الآلهة والأبطال. ولذلك رأينا أن نرتب هذه الضروب المتعددة من العناية بهومر قبل العصر الإسكندري في طوائف أربع، هي:
الشعراء أنفسهم: فنحن نجد أن أقدم ذكر لهومر -عثر عليه الباحثون حتى الآن- هو
إشارة وردت في قصيدة ضائعة للشاعر كالينوس Callinus1-
"في آخر القرن الثامن ومطلع القرن السابع قبل الميلاد"، ولم يكن الباحثون ليعرفوا ذلك لولا ما أورده الكاتب الجغرافي بوزانياس pausanias من ذكر لهذه القصيدة ومن قوله إن كالينوس قد أشار في قصيدته إلى أنه كانت قصائد أخرى غير الإلياذة والأوديسة تُعزَى إلى هومر، مثل المقطوعة البطولية (1)Thebais
(1/310)
ثم وجد الباحثون أن أول من اقتبس من هورم -ممن يُعرفون حتى الآن- هو الشاعر سيمونيد السيوسي Simonides of Ceos "الذي ولد في نحو سنة 556 ق. م" فقد اقتبس من الإلياذة 6: 148.
2- الفلاسفة: وقد عُني الفلاسفة منذ القرن السادس قبل الميلاد بشعر هومر، وثار بعضهم، في مطلع التأمل الفلسفي في اليونان، على التصوير الهومري للآلهة(2). فقد قال إكزينوفان Xenophanes of Colophon "إن هومر وهسيود قد نسبا إلى الآلهة كل عيب ونقص في الناس". ومن هنا نشأت المدرسة المجازية في تفسير هومر. وأقدم هؤلاء المجازيين هو ثياجن الريجيومي Theagenes of Rhegium، الذي وصل بين نوعين من المجاز انفصلا بعد ذلك هما: المجاز الخلقي "العقلي" والمجاز الحسي. وهكذا كانت Hera هي الهواء، وأفروديت هي الحب. وقد نما التفسير الخلقي في القرن التالي على يد أناكساجوراس Anaxagoras الذي فسر zeus بالعقل، وأثينا بالفن. أما التفسير الحسي فقد تطور على يدي Metrodorus of Lamsaeus. وقد كان شعر هومر ووصفه الآلهة سببًا من الأسباب التي دعت أفلاطون إلى أن يبعد الشعراء من جمهوريته.
3- المؤرخون: وقد عُني المؤرخون اليونانيون بهومر -منذ أن بدأ التاريخ عندهم. ومن هؤلاء هيرودوت Herodotus وثوسيديد Thucydides في القرن الخامس قبل الميلاد. وقيمة هيرودوت في أنه كان أول من شك -أو على الأقل من بين الأوائل السابقين إلى الشك- في نسبة بعض القصائد البطولية إلى هومر. فهو يرى -على أسس نقدية- أن المقطوعة البطولية التي تدعى Cypria ليست من نظم هومر، ولكنه لم يذكر الناظم الحقيقي. ونقده هذا يدل على أن السواد لم يكونوا يشكون في نسبتها إلى هومر، كما أن هيرودوت نفسه لم يكن يعرف رواية صريحة تنفي نسبة هذه المقطوعة إلى هومر. وقد شك أيضًا في نسبة قصيدة.
(1/311)
أخرى تدعى Epigoni ولكن حديثه عنها مقتضب غير قاطع(3). وأما قيمة ثوسيديد ففي أنه قدم لنا في تاريخه أمثلة على نوع من تفسير شعر هومر يحوِّل العنصر القصصي إلى حقائق تاريخية واضحة، وذلك حينما فسر ذهاب اليونانيين إلى طراودة، فهو يرى أن رؤساء اليونان لم يذهبوا إلى طروادة لأنهم وعدوا والد هيلانة أن ينتقموا لها. ولكنهم ذهبوا لأن قوة أجا ممنون ساقتهم واضطرتهم إلى ذلك. وقد نمى كالسثين Callisthenes "في نحو سنة 330ق. م" هذه الطريقة في التفسير تنمية كاملة، وخص، في كتابه تاريخ اليونان، الحرب الطروادية بكتاب مستقل. ويظهر هذا الاتجاه في مواطن متعددة من تواريخ المتأخرين التالين مثل: بوليبيوس polybius، وديودور Diodorus، وسترابو Strabo، وباوزان(4) pausanius.
4- الرواة المنشدون: وآخر هذه الطوائف، وربما أقدمها عهدًا، هم الرواة المنشدون، الذين كانوا يروون شعر هومر وينشدونه وهم ينتقلون بين البلاد المختلفة. ويصف لنا أفلاطون في إحدى محاوراته على لسان سقراط "هي: lon" أحد هؤلاء الرواة المتجولين واسمه إيون -وكان يعيش في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر أفلاطون أن إيون كان يشرح شعر هومر ويفسره، وأن بعض المنشدين المتنافسين كانوا ينشدون ولاء: يبدأ أحدهم من حيث انتهى الآخر. ويرى الدكتور جب(5) أنه لا بد إذن من أن تعقيبات إيون وشروحه كانت تُلقى مفصولة عن إنشاده، أو أنها كانت متصلة بالقطع التي كان هو يقوم بإنشادها حسب. ويتضح من محاورة أفلاطون أن شروح إيون وتعقيباته على هومر كانت تتخذ مظهر المعرض البلاغي الأدبي المتصل، وكان إيون يفخر بطلاقته وبثروة "آرائه عن هومر" كما يعبر إيون نفسه.
(1/312)
ب- العصر الإسكندري :
غير أن النقد الهومري بمعناه الدقيق الخاص لم يظهر إلا في الإسكندرية منذ مطلع القرن الثالث قبل الميلاد. وقد جُمعت مواده لأول مرة في المكتبات العظيمة مثل مكتبة الإسكندرية، ثم مكتبة برجامم، منذ مطلع القرن الثاني قبل الميلاد. وقد استقى الباحثون معلوماتهم عن هذه المواد من نسخة "الحواشي الهومرية - Homeric Scholia". ولا يعنينا من أبحاث هؤلاء الدارسين إلا إلمامة عابرة تفي بغرضنا، ومن أجل ذلك لن نشعب الحديث ولن نتتبع الباحثين فيما فصلوا فيه القول، وإنما سنختصر الإشارة اختصارًا يغني عن الإسهاب والتطويل(6).
تنقسم نسخ هومر في مكتبة الإسكندرية إلى قسمين: 1- النسخ التي تُعرف بأسماء محرريها وناسخيها. وأقدم نسخة من هذا القسم هي التي صنعها الشاعر البطولي أنتيماخ الكلاري Antimachus of Clarus في إيونيا "نحو سنة 410 قبل الميلاد". 2- وأما القسم الثاني فهي النسخ التي تُعرف بأسماء البلدان حسبُ. وهي نسخ: مساليا Massalia، وكيوس chios، وأرجوس Argos، وسينوب Sinope، وقبرص Cyprus، ويشار إليها مجموعة باسم "النسخ البلدانية". وليس من دليل على أنها كانت النسخ المعتمدة لاستعمال الجمهور، وأسماء مصححيها ومنقحيها غير معروفة. وبجانب هذين القسمين كانت نسخ توصف بأنها عامة أو شعبية، وهذه هي نفسها التي توصف بأنها غير دقيقة إذا ما قورنت بالنسخ الدقيقة أو العلمية. وهذه النسخ جميعها التي عرفها الإسكندريون لابد أنها كانت تعتمد على نص شائع أقدم منها نجهل مصادره. ويبدو لنا هذا من الاختلافات المحدودة والفروق الضيقة بين نصوص هذه النسخ، فلو لم تكن هناك أسس عامة لرواية منقولة لوجدنا في نسخ الإسكندرية فروقًا واسعة واختلافًا كبيرًا في ترتيب الأبيات.
(1/313)
وأقدم جهد في النقد الهومري في مدرسة الإسكندرية يرجع إلى فترة تتراوح بين 270و 150 قبل الميلاد، وقد قام به ثلاثة رجال: زينودوت Zenodotus، وأرستوفان Aristophanes، وأرستارخ Aristarchus.
أما زينودوت فقد كان قيمًا على مكتبة المتحف الإسكندري، ونشر نسخة منقحة لهومر ومعجمًا هومريًّا؛ ويبدو زينودوت -في هذا العصر من فجر العلم الجديد- رجلًّا موهوبًا ذا هدف نقدي، ولكنه تعوزه الطريقة النقدية الصالحة. فقد ألح على دراسة هومر ولكنه أخفق في إرساء هذه الدارسة على أسس سليمة، وأحد أسباب إخفاقه أنه لم يعن بالتمييز بين الاستعمال الشائع المألوف للألفاظ واستعمال هومر لها استعمالًا خاصًّا، ولم يميز كذلك تمييزًا كافيًا بين اللهجة والإيونية القديمة واللهجة الإيونية المتأخرة، فأوقعه اعتماده المطلق على إحساسه الشخصي بروح هومر في تصحيحات وتصويبات قاطعة. ومع ذلك فقد فتح أفقًا جديدًا ونال مصنفه شهرة واسعة.
وأما أرستوفان "في نحو 200 ق. م" فقد كان تلميذ زينودوت، وخلفه -في غير تعاقب- على منصب أمانة المكتبة. ونشر أيضًا نسخة منقحة من هومر. وكان يُعنى بدلالات النصوص المخطوطة عناية تفوق عناية زينودوت.
وأتاح له اطلاعه الواسع وعلمه الغزير أن يثبت في حالات كثيرة قراءات جرحها سلفه تجريحًا كان متسرعًا فيه.
وأما أرستارخ فكان تلميذ أرستوفان وخليفته في أمانة المكتبة، وظهر نشاطه في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. وينقسم ما قدمه للدراسة الهومرية إلى ثلاثة أقسام:
1- رسائل عن بعض المشكلات الهومرية ومواطن الاختلاف.
. تعقيبات متصلة على النص الهومري.2-
3-نسخ منقحة للنص الهومري. وقد استخدم في النص الهومري الذي نشره مجموعة من العلامات والرموز النقدية تدل القارئين، بنظرة واحدة، على البيت الذي يراه أرستارخ منحولًا زائفًا، وعلى البيت الذي يرى أنه في غير موضعه من ترتيب القصيدة، وعلى البيت الذي
(1/314)
يشتمل على أية إشارة وضحها في تعليقاته.
ويُعد أرستارخ أعظم العلماء الإسكندريين وخير ناقدي هومر من بين الأقدمين، وذلك لعدة عوامل منها: 1- أنه درس بعناية استعمال الألفاظ في هومر مدركًا أن نقد المادة يجب أن يعتمد على معرفة دقيقة باللغة. أما النحويون واللغويون الذين سبقوه فقد وجهوا عنايتهم إلى الألفاظ النادرة أو المهجورة خاصةً. ثم عمد أرستارخ إلى تحديد المعنى الهومري للألفاظ الشائعة المألوفة. 2- وقد كان للمصادر المخطوطة قيمة كبيرة عنده حينما صنع نسخته من النص الهومري. وحينما كانت الموازنات والمقابلات تسلمه إلى شك في قراءتين كان يستهدي "باستعمال الشاعر الخاص". فهو يبدو في الغاية من الحذر والحيطة، بعيدًا عن التسرع في تخطئة النصوص أو تصويبها. ولو قارناه بزينودوت لوجدناه يتحرج من القراءات التي تعتمد على الحدس والظن. 3- علق على مادة هومر، فوازن بين الأساطير عند هومر والأساطير نفسها عند غيره من الكتاب، وأظهر العناصر المميزة للحضارة الهومرية.
وكل ما نعرفه عن مصنف أرستارخ وصلنا عن طريق بعض العلماء الذين تلوه مثل: ديدم Didymus وأرستونيخ Aristonichus أما ديدم فنحوي إسكندري كتب -بعد وفاة أرستارخ بنحو 120 سنة- رسالة عن النسخة المنقحة التي صنعها أرستارخ، وكان هدفه أن يقوي القراءات التي اختارها أرستارخ، وأن يستخلص فكرة واضحة كاملة عن آرائه وتعليلاته من كتاباته الكثيرة عن هومر. وأما أرستونيخ فنحوي إسكندري أيضًا معاصر لديدم وإن كان أصغر منه سنًّا. وقد كتب رسالة عن العلامات النقدية التي استخدمها أرستارخ في الإلياذة والأوديسة، وسرد -في رسالته هذه- آراء أرستارخ عن الأبيات الشعرية التي وُضعت أمامها العلامات المختلفة. وأشهر علماء الإسكندرية -بعد هؤلاء- هيروديان Herodian، ونيكانور Nicanor في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد.
(1/315)
وأما المدرسة الأخرى فقد قامت في مدينة برجامم pergamum في ميسيا Mysia حينما أنشأ إيومين الثاني Eumenes 2 في أوائل القرن الثاني ق. م المكتبة العظيمة التي صارت تنافس مكتبة الإسكندرية. ومن أشهر علماء هذه المدرسة كريتس crates الذي كان معاصرًا لأرستارخ وأمينًا لمكتبة برجامم.
ومن أشهر نسخ الإلياذة التي وصلت إلى الباحثين الأوربيين هي النسخة التي تدعى codex Venetus ورقمها 454 في مكتبة القديس مارك في مدينة البندقية. وقد كتبها أحد النساخ في القرن العاشر الميلادي فجعل نص الإلياذة متنًا ثم جعل له حواشي عُرفت باسم الحواسي الهومرية Homeric Scholia وأهم ما تحويه هه الحواشي مصدران؛ الأول: ما يسمى بالمختصر The Epitome وقد قام بصنعه أحد دارسي الإلياذة "في نحو سنة 200-250 ميلادية" فاستخلص مقتطفات من أعمال الكتاب الأربعة الإسكندريين: ديدم، وأرستونيخ، وهيروديان، ونيكانور. وهذا المختصر هو المصدر الرئيسي الذي استقى منه الباحثون معلوماتهم المفصلة عن آراء أرستارخ. وأما الجزء الثاني من الحواشي فيبدو أنه مجموعة كبيرة من التعقيبات مختارة من عدة مصنفين ثم جمعت معًا في آخر القرن الثالث الميلادي. وهذا الجزء الثاني -إذا ما قورن بالمختصر- لا يُعنَى مثله بنقد النصوص، غير أنه يفوقه في التأويل والتفسير المجازيين، وفي الأساطير ونقد الأسلوب الشعري.
ج- ما بعد العصر الإسكندري: (7)
وقد واصل العلماء والدارسون جهودهم في دراسة القصيدتين الهومريتين، ولكن هذه الدراسات كانت في مجموعها تدور في فلك يكاد يكون واحدًا لا تعدوه؛ إلى أن جاء فردريك أغسطس ولف في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأصدر كتابه المعروف باسم "المقدمة" prolegomena سنة 1795. وتقوم دراسته على أربع نقاط رئيسية: 1- أن القصيدتين الهومريتين لم تدونا إلى في نحو
(1/316)
سنة 550 ق. م أي بعد نظمهما بقرون كثيرة، وقد بقيتا خلال هذه القرون تتناقلان بالرواية الشفهية، فاعتورتهما تغييرات وتبديلات كثيرة عمد إلى بعضها الرواة عمدًا وجاء بعضها مصادفة. 2- وقد تعاورتهما -حتى بعد أن دونتا- تغييرات أخرى جديدة عمد إليه المصححون والمراجعون عمدًا، أو قام بها النقاد العلماء الذين توخوا صقلهما وجعلهما متسقتين مع صور تعبيرية أو أصول فنية معينة. 3- أن للإلياذة وحدة فنية، وتفوقها في ذلك أيضًا الأوديسة، ولكن هذه الوحدة لا ترجع في جلها إلى القصيدتين الأصليتين وإنما إلى ما أضافته إليهما المعالجة المصنوعة في عهود تالية. 4- أن القصائد الأصلية التي ضمت وجمعت حتى صارت ما نعرفه من ملحمتي الإلياذة والأوديسة لم ينظمها كلها شاعر واحد بعينه.
وجميع أدلة نظرية ولف في جوهرها خارجية، فهي مبنية على اعتبارات تاريخية معينة تتصل بالحضارة الإغريقية المبكرة وبتطور الفن الشعري. وقد وصف لنا -في مقدمة طبعته للإلياذة- ما أحس به حينما كان ينفلت من عقال نظريته إلى قراءة القصيدتين قراءة جديدة. فحينما كان يغمر نفسه في تيار القصة البطولية الذي ينساب انسياب النهر النمير كانت جميع أدلته تتطاير من رأسه، وكان الاتساق والانسجام الشاملين في القصيدتين يؤكدا نفسيهما بقوة لا تقاوم، وكان ولف يحس بالألم والغضب لأن شكوكه حرمته نعمة الإيمان بهومر واحد. ومع ذلك فقد ذكرنا قبل صفحات أن ولف لم ينكر وجود شخص هومر نسب إليه أنه بدأ نسج القصيدة ومضى فيه إلى غاية محدودة، بل إنه نسب إليه القسم الأكبر من النسيج. ومن هنا جاءت مرونة نظرية ولف التي أشرنا إليها من قبل، وجاء اختلاف فهم تلامذته لهذه النظرية وذهابهم مذاهب متفرقة مع أنهم يصدرون عن مصدر واحد. والحق أنه من المجحف بحق ولف، حينما يقوم عمله، أن يظهر بمظهر الناقد الهادم حسب: فإن فضله على الدراسات الهومرية كبير، ولا يسع هؤلاء الذين يختلفون معه في نتائجه
(1/317)
الأساسية اختلافًا واسعًا إلا أن يُقروا بأنه كشف القناع عن عدة مظاهر تصلح أساسًا لنظرية سليمة، وأنه أول من بدأ دراسة القصيدتين دراسة علمية(8).
غير أن العنصر التحليلي في نظريته هو الذي لفت الأنظار؛ لأنه حينما نشرها كانت تبدو في موقف متميز تميزًا كبيرًا من الاعتقاد القديم بأن ناظم القصيدتين شاعر بعينه هو هومر الواحد. ومن هنا جاء الربط بين عمله والاتجاه إلى الهدم الصرف، وهو اتجاه بعيد عن روحه(9).
ومما هو جدير بالذكر أن ولف كتب على "المقدمة" رقم1 وذكر في ص24 منها أنها "القسم الأول pars prima"، غير أن الجزء الثاني -وهو الذي كان يجب أن يبحث في أصول نقد النصوص الهومرية-لم يطبع قط(10). وبذلك لم يواصل هذا الناقد العظيم السير في نظريته حتى يصل بها إلى مرحلة الكمال، فلم يعرض قط -في تخطيط عام- نظامًا أو نهجًا للأغاني والأناشيد المجزأة التي تجمع منها -وفقًا لنظريته- إطار كل قصيدة من هاتين القصيدتين وهيكلها. وإخفاقه في هذا العمل، أو تغاضيه عنه -في خلال حياة طويلة بعض الطول، وفي أوجه نشاطه بعد طبع "المقدمة" "طبعت المقدمة سنة 1795 وتوفي ولف سنة 1824"- أمر يجعلنا نشك في أنه كان يؤمن بإمكان هذا التشريح والتقطيع اللذين تتضمنهما نظريته(11).
وقد ساعد على ذلك التأثير الواسع الذي كان لنظرية ولف، وخاصة في عقول الشبان الألمان، عدة دوافع منها(12): أن الثورة الفرنسية كانت آنذاك في إبانها، وكان الجو مفعمًا بالتناقض والبدع. وأهم من ذلك أن هذه النظرية ظهرت في وقت أثار فيه الاهتمام الواسع، في بقاع مختلفة من أوربا، الكشف عن قدر
(1/318)
صالح من الشعر الشعبي وفيه دليل على الحيوية الظاهرة في هذا الشعر حتى حينما يُجهل ناظمه وتكون مميزاته غير واضحة المعالم، وكان ذلك الشعر أيضًا على غير مثال أدبي سابق، وإنما كانت وسيلة نقله الرواية الشفهية. فكأنما كان هذا الشعر مثلًا يوضح النظرية الولفية في افتراضها الأساسي. وأوضح ما يصف لنا ميزات القرن الثامن عشر والفرق بينه وبين القرن التاسع عشر ما ذكره جوته(13) Gothe فقد كان جوته تحت تأثير السحر الولفي، وقد وصف ما جاء في كتابه "المقدمة" بأنه "قطعي وحتمي وذاتي"، ثم تأرجح رأيه إلى أن استقر أخيرًا على الرأي القديم حينما استطاع أن يتثبت من "وجود هومر ثانية"، وكان ذلك بعد أن انتهت "أعمال القرن الثامن عشر القائمة على التمزيق والتقطيع"، وابتدأت روح "التنسيق والترتيب" -كما كان يسميها هو نفسه- في القرن التاسع عشر.
ولم يكن جوته وحده هو الذي تأثر بسحر النظرية الولفية ثم نفض عن نفسه هذا السحر، بل إن آخرين كانوا مثله، ومن أهمهم نيتش(14) Nitzsch فقد خلف لنا اعترافًا ذا قيمة بعد أن اختبر بنفسه أعاصير الخصومة في المشكلة الهومرية، فبعد أن ألف كتابًا بذل فيه جهدًا ضخمًا يدعم تعدد التأليف -مما يوضح ويفسر نظم قصيدتين ملحمتين في مثل هذا الطول- عاد فرد على نفسه واعترف بوحدة التأليف في الملحمتين!
ومع ذلك فإن ألمانيا في القرن التاسع عشر بقيت في أغلبها ولفية، وبالرغم من نشوء نظريات مضادة لنظرية ولف، وردود العلماء عليه في حياته وبعد وفاته، فإن جمهرة العلماء في ألمانيا ما زالوا ولفيين حتى يومنا هذا(15). وأما في
(1/319)
إنجلترا وفرنسا فلم يكن أثر النظرية الولفية في الأوساط العلمية في هذين البلدين قويًّا كما كان في ألمانيا(16).
وبعد؛
فلم نقصد إلى هذا الموضوع لذاته حتى نشعب الحديث في أجزائه ونتتبع تفصيلاته، وإنما اتخذناه معبرًا نجتازه إلى الحديث عن الشك في الشعر العربي الجاهلي. وحسبنا ما قدمنا ففيه غناء إذا ما أردنا أن نستبين وجوه الشبه بين المراحل التي مرت بها الدراسات الأوربية والدراسات العربية القديمة والحديثة للشعرين الهومري والعربي الجاهلي .
(1/320)
__________
جب، هومر: 85و 88.(1)
جب، هومر: 88، 89.(2)
جب، هومر: 85؛ وألان، هومر: 70.(3)
جب، هومر: 90.(4)
المرجع السابق: 80.(5)
(6)المعلومات التالية عن علماء مدرسة الإسكندرية ملخصة من كتاب الدكتور جب عن هومر من ص91 إلى ص102.
. جب، هومر: 103 وما بعدها.(7)
W. D. Geddes, the problem of the Homeric Poems, p.9(8)
جب، هومر 157.(9)
المرجع السابق: 107 في الهامش.(10)
جديس، مشكلة القصدتين الهومريتين: 10.(11)
المرجع السابق: 9.(12)
جديس، مشكلة القصيدتين الهومريتين: 12-13.(13)
المرجع السابق: 14 في الهامش.(14)
المرجع السابق: 13.(15)
المرجع السابق: 15.(16)
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|