أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-7-2016
4159
التاريخ: 17-6-2017
2571
التاريخ: 29-12-2015
4051
التاريخ: 9-7-2019
2134
|
وإذا أردت أن تقف على الروح التي تكمن من وراء هذا الأديب الحيّ، والتي بعثت في الشرق الإسلاميِّ كله حيويةً دافقةً، وهزته هزةً عنيفةً أيقظته من نومه الطويل، وعرَّفته كيف يطلب حقه من الأقوياء العتاة، وكيف يدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت في السيد جمال الدين الأفغاني: من يدين له الشرق الإسلاميّ بيقظته القومية والفكرية في العصر الحديث.
رجل فرد، استطاع بما أوتي من عزيمةٍ جبارةٍ تنهار أمامها العروش, وتزلزل الممالك، وتتقوض الحصون، وبما أوتي من فكرٍ نيِّرٍ مشرقٍ ملهمٍ, ينقشع أمام ضوئه الوهاج حندس الجهل وغياهب الظلم، وبما أوتي من لسان ذرب طلق، حادٍّ مطواع، يدفعه شعورٌ متقدٌ، وعاطفةٌ متأججةٌ، وإحساسٌ مرهفٌ، وحماسةٌ عارمةٌ, فيلهب بهذا اللسان، وذاك الشعور كل ما ينصت إليه، فيحيل البليد نشيطًا، والجبان جريئًا، والخامل مقدمًا؛ استطاع هذا الرجل وحده بهذه القوة أن يخلق قادةً وزعماء، وأن يكوّن جيلًا من الناس يسيرون بأممهم إلى حيث أمل السيد وصوب، فكان بعمله أقوى من الحكومات القومية الفتية.
(1/261)
وهكذا يأبى الله إلّا أن يضرب للناس أمثلةً على بالغ قدرته، وعظيم إعجازه في كل جيل, وقد مَرَّ بك ما قاله الشيخ محمد عبده عن حالة مصر قبل أن يهبط واديها جمال الدين، وكيف أن بعثات محمد علي وإصلاحاته ونشاط إسماعيل وتقديراته، واطلاع بعض شباب مصر وشيوخها على حضارات الأمم الأوربية وغيرها لم يؤت ثمره، ولم يبعث في الأمة هذه الروح المتوثبة، ولم يحرك خامد العزائم، وينصب المثل العليا أمام الشعوب تهدف إليها في سيرها, وتحث الخطى نحوها، وإنما وجد ذلك كله على يد جمال الدين، فأي رجل كان هو؟
شعلة متقدة من الذكاء، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة, شديد الرغبة في الإصلاح، وإنهاض الأمم الإسلامية، وتحطيم الأغلال والقيود التي جعلتها في مسغبةٍ ومذلةٍ وجهلٍ ومرضٍ وانحلالٍ، كان ثورةً عنيفةً على الظلم، والطغيان والجبروت؛ قابله السلطان عبد الحميد الطاغية في "يلدز" فطلب منه أن يكف عن هجماته على شاه العجم، فال السيد: "إني لأجلك قد عفوت عنه"، فيرتاع السلطان لهذه الكلمة الجريئة، عفا "السيد" عن الشاه ذي الحول والسلطان، أجل؟ فالسيد أقوى منه بأسًا, وأعظم قدرًا, وأقدر على النكاية، إنه حربٌ شعواء تطوح بالتيجان, تدك العروش.
ويجلس جمال الدين بحضرة عبد الحميد، وهو يداعب مسبحته غير حافلٍ بمن تعودت الأبصار أن تخشع في مجلسه، وتطأطئ الرءوس فرقًا ورعبًا منه, ونبهه إلى هذا كبيرٌ من رجال الحاشية بعد مغادرة عبد الحميد للمجلس, فقال له: "إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء؟ " فيرتاع الرجل، ويهرب من سماعه هذه الكلمة التي لا يجرؤ أي إنسان أن يرفع بمثلها, أو بما هو أقل منها صوتًا في البلاد الإسلامية.
(1/262)
وُلِدَ السيد جمال الدين في قرية "أسعد أباد" من قرى "كندر"(1) ببلاد الأفغان, سنة 12454هـ-1839م, من أسرةٍ شريفةٍ تنتسب إلى الإمام الترمذي المحدث المشهور، وترتقي إلى الإمام الحسين بن علي -رضي الله عنهما، وانتقل به والده إلى "كابل" وهناك تلقى تعليمه، فدرس مبادئ العلوم العربية والتاريخ، وعلوم الشريعة، والعلوم العقلية؛ من منطق, وحكمة عقلية سياسية، وفلسفة، وكذلك العلوم الرياضية؛ من حساب, وجبر, وهندسة, وفلك، ودرس نظريات الطب والتشريح، ثم سافر إلى الهند، وهو في الثامنة عشرة من عمره، واطَّلَع على علوم الرياضة في الطرق الحديثة، وقَدِمَ الحجاز للحج، وقضى في رحلته إلى مكة سنة، فأفادته الرحلة خبرةً بالشعوب الإسلامية، وأحوالها الاجتماعية، ثم رجع إلى بلاده، واشترك في مؤامرة سياسيةٍ مكنت بعض الأمراء من التغلب على عرش الأفغان، فعظمت مكانته لدى هذا الأمير، ولكن عصفت الأحداث بأميره هذا، وحاول خلفه الانتقام من السيد جمال الدين، ففطن لمكايده, وغادر بلاده إلى الهند فمصر، ومكث بمصر أربعين يومًا، ومن ثَمَّ يمم نحو الآستانة, فذاع صيته بها، وعلت مكانته, حتى انتخب بعد مدة وجيزة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، ولكن آراءه الإصلاحية الجريئة، وأفكاره الحرة التي لم يألفها الناس في عصره, بعثت في نفوس رجال عبد الحميد الهلع، وتألب عليه كثير من علية القوم، ولا سيما شيخ الإسلام، فجاءه الأمر بمغادرة البلاد خشية أن يشعل في عرش عبد الحميد الحريق.
فقدم السيد جمال الدين مصر، ودخلها في مارس سنة 1871، ومكث بها ثماني سنوات, كانت خير السنين بركةً على مصر وعلى الشرق العربي والإسلامي، فقد حاول جمال الدين من قبل أن يغرس تعاليمه, وينفخ في الشعوب الشرقية من روحه؛ ولكن وجد أرضًا مجدبة، وشعوبًا ميتة لم تسمع لندائه, وما أن نزل مصر حتى فتحت له ذارعيها، وحببت له الإقامة به، والتف حوله لفيف من
(1/263)
أبنائها، من كل تواق للحرية، محب للعلم, حريص على نفع وطنه وإنهاض قومه، وتجاوبت روحهم وروحه, ووجدوا فيه المعلم الفَذّ, والمفكر الجريء, وصاحب العقل المستقيم، ووجد فيهم بررة، وعقولًا خصبة، ونفوسًا تتحرق شوقًا للحرية والعدل.
كانت هذه السنوات الثمان مليئةً بالأحداث، فقد غرقت مصر في ديونها التي اقترضها إسماعيل، وبدت مطامع إنجلترا وفرنسا جليّة، فأنشىء صندوق الدَّيْنِ, وفرضت الرقابة الثنائية, واستحالت هذه الرقابة إلى مشاركةٍ في الحكم، إذ دخل وزارة نوبار باشا وزيران أوربيان؛ أحدهما فرنسيّ, والآخر إنجليزيّ، يشرف الفرنسيّ على وزارة الأشغال, ويشرف الإنجليزي على وزارة المال(2)، وأيُّ احتلال أبشع من هذا؟ إن الذي يصرف المال قوَّام على شئون الدول، ومن يتولى الأشغال مهيمن على تقدم الأمة، فكان عجبًا ألا ينغمس السيد جمال الدين في السياسة من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، وهو الذي حاول من قبل أن يثل عرشًا، وينصب ملكًا، ويصلح من شئون عبد الحميد المستبد الطاغية.
جاء جمال الدين مصر وهذه ظروفها، ووجد من إسماعيل صدرًا رحبًا؛ لأنه رأى فيه العالم المشهور بفلسفته وعلمه، فوجوده بمصر ربحٌ لا يقدر، وهو في نظره أجل وأنفع من بعض المعاهد العلمية التي أنشأها؛ لأنه معهدٌ حيٌّ حنَّكَتُه التجارب, وأنضجته الحوادث، ولم يكن السيد قد عُرِفَ بآرائه السياسية المتطرفة, بل غلبت عليه الصبغة العلمية، ولم يكن إسماعيل يخشى على حكمه أحدًا، وهو الحاكم الذي لا يرجع في حكم، والذي يتصرف في أقدار البلاد دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس الشوى آلةً مطواعةً في يده، لا يجهر باعتراضٍ، أو يجرؤ على مخالفة، ثم إن إسماعيل كان يتحدَّى الدولة العثمانية في ذلك الوقت، ويتوق جهده إلى الاستقلال بأمر مصر، وقد رأى أن الآستانة قد ضاقت رحابها بالسيد جمال الدين, وخافت من آرائه وتعاليمه، فلتبرهن مصر على أنها أقوى من تركيا وأكرم نفسًا، وأقدر على هضم آراء جمال الدين من أي بلد في الشرق، ولم يكتف إسماعيل بهذا الترحاب, بل أجرى على السيد راتبًا شهريًّا زيادةً في إكرامه.
(1/264)
وأخذ هذا العقل المنظم الجبار يشع النور في كل مكان يحله صاحبه، فدروس منظمة يلقيها في بيته على صفوة مختارة من حوارييه, أمثال: محمد عبده, وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، وكانوا جميعًا طلبةً بالأزهر حينذاك، وكانت هذه الدروس: منطقًا وفلسفةً وتصوفًا وهيئةً، مثل كتاب "الزوراء" في التصوف, و"شرح القطب على الشمسية" في المنطق، و"الهداية" و"الإشارات" و"حكمة العين"، و"حكمة الإشراق" في الفلسفة، و"تذكرة الطوسي" في علم الهيئة القديمة، وهي كتب تمثل علمًا قديمًا دوَّنَها أربابها في العصور الأولى للدولة العربية، ولكن الروح التي درس بها جمال الدين هذه الكتب، والطريقة التي عرض بها هذه المباحث، والتعليقات التي كان يفيض بها عقب كل مقالة أو بحث، والاستطرادات التي تدعو إليها مقتضيات العصر وظروفه, هي التي حبَّبَت هذه الدروس وتلك الكتب لهؤلاء التلاميذ الأذكياء، وجعلت من دروس جمال الدين نبعًا صافيًا يغترف منه الطلبة علمًا وفلسفةً، ووطنيةً واجتماعيةً وحججًا قويةً لرد المارقين عن جادَّة الدين، ووجدوا فيه شخصية لا تترد في إصدار الأحكام العامة على القضايا المعروضة.
وبجانب هذه الدروس المنظمة, كان للسيد مجلس آخر بأحد المقاهي القريبة من حديقة الأزبكية، حيث يلتف حوله أنماط شتَّى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، ويجلسون إليه, ويطرحون عليه أسئلة في مختلف الموضوعات، وهو يجيب إجابات العالم المحقق "لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة, مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة, والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطرافٍ متعددةٍ من البلاد, خصوصًا في القاهرة(3)".
(1/265)
وفي هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحًا مشعةً تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة، وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبد السلام مويلحي, وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحق، وغيرهم, وفي هذه المدرسة العامة استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وأدواؤها ودواؤها، وانتقدت الحكام، وبثت التعاليم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شئون البلاد, مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد.
كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه أخصاء تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئًا على عصاه إلى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيماوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء من الليل.
ولم يكتف جمال الدين بهذه المدرسة العامة, ولا بالدروس الخاصة، بل حاول أن يسيطر على الحياة السياسية، فانضم إلى جماعة "الماسون" وبها الطبقة الممتازة من أبناء الأمة؛ لعله يستطيع أن يريهم النور، ويبصرهم حقيقة ما هم فيه، وما عليه بلادهم, وكيف يستطيعون نفعها بمالهم وجاههم؛ ولكن وجد المحفل الماسوني يأبى أن يقتحم ميدان السياسية، ويتعرض للمسائل العامة، والقضايا الهامة، فثارت ثائرته, وأخذ ينقد اعضاءه نقدًا لاذعًا، ويتهكم بهذه الكلمات الجوفاء التي اتخذوها لهم شعارًا مثل: "الحرية والمساواة ومنفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق" فكيف تتحقق معاني هذه الكلمات إذا لم يشغل المحفل "الماسوني" بالسياسة، ولما أخفق في بعث هذه النار في نفوسهم الميتة استقال، وكوَّن محفلًا آخر للشرق الفرنسيّ، وأخذ الأعضاء يزيدون حتى بلغ عدد ثلاثمائة عضو من نخبة الفكرين، ونظمهم شعبًا مختلفة: فشعبة للعدل، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجيش، وهكذا، حتى تدرس أحوال البلاد جميعها, وتعرف وجوه النقص، وما يتطلبه الإصلاح من أعمال.
(1/266)
وبذلك أراد جمال الدين أن يسيطر على عقول العلماء في بيته، على أفئدة المتعلمة غنيها وفقيرها بآرائه وتعاليمه، ويدفعها في الطريق التي رسمها.
أثره بمصر:
1- أراد في درسه النظاميّ أن يعوّدَ الطلبة حرية البحث، ويطلعهم على آفاقٍ جديدةٍ من التفكير وفهم العالم، وأن يُوجِدَ شخصياتٍ تبحث وتنقد وتحكم، وألَّا تقف عند حدّ هذا النص بعد ذلك، فإذا هو واضح كل الوضوح, وعلى العكس من ذلك كانت طريقة الشيخ محمد عبده، إذ كان يقرأ النص أولًا، ثم يعلق عليه بعد ذلك.
2- وأراد في مدرسته العامة أن يعلِّمَ الشعب كيف يسترد حرتيه المفقودة وكرامته المهدرة، وكيف يحاسب حكامه حسابًا عسيرًا على تصرفاتهم، وكيف يتنبه إلى دسائس المستعمرين الجشعين ونواياهم، وكيف يعيش هذا الشعب عيشةً تليق بالأناسي.
3- وأراد في ميدان السياسة أن يغيِّرَ هذا الحكم المطلق الذي يستبد فيه الحاكم بأمته ويستهين بشعبه، ويتصرف في أموالهم وأرواحهم تصرُّفَ السيد في حر ماله وعبده، وأراد أن يشترك الشعب في حكم نفسه بنفسه، وأن ينوب عنه ممثلون نيابيون يَرْعَوْنَ مصالحه, ويسهرون على إسعاده.
وقد كان له في السياسة كذلك مقصدٌ أسمى من هذا، وعنه عَبَّرَ الشيخ محمد عبده بقوله: "إنه كان يسعى لإنهاض إحدى الدول الإسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام بشئونها، حتى تلحق بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه, وللدين الحنيف مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنجليز شئون يطول بيانها(4)".
(1/267)
4- وقد استعان على تحقيق هذه الأهداف -وإن لم تتحقق كلها, ولا سيما السياسية منها- بتكوين جماعةٍ من الكهول والشبان حبب إليهم الكتابة، ورسم لهم خطتها، وأوحى لهم بالمعاني الجديدة التي يكتبون فيها, وشجعهم على إنشاء الجرائد، ويكتب فيها بنفسه, ويطلب إلى من يتوسم فيه المقدرة والمنفعة أن يكتب فيها، ومن مقالاته في جرائد أديب إسحاق, ما كان يوقعه باسم "مظهر بن وضاح".
وطلب إلى الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني وغيرهما أن يشتركا في تحرير جريدة "التجارة" التي أنشأها أديب إسحق، وفي هذه الجريدة كتب السيد جمال الدين مقالين؛ أحدهما: "الحكومات الشرقية وأنواعها", والثاني بعنوان: "روح البيان في الإنجليز والأفغان"، وكان لهذين المقالين صدًى بعيد، ولكن جريدتي أديب إسحق "مصر والتجارة" ضايقتا رياض باشا بروحهما الجديدة وأسلوبهما الملتهب، وأفكارهما الجريئة, فأغقلهما كما مر بنا(5).
وقد تدخل كذلك في تحرير "الوقائع المصرية"، وطلب إلى الكُتَّاب أن يدبجوا مقالاتهم في موضوعات معينة تمس حياة الأمة في صميمها، فيقول الشيخ محمد عبده: "إن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، ولا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته إلّا نصح الأمة له بالقول والفعل".
وتراه يحرض الصفحيّ اليهوديّ "يعقوب بن صنوع" على إصدار جريدته التهكمية "أبي نضارة" ويشجعه على الاستمرار في النقد الذي يلدغ به إسماعيل.
وقد كان لهذه المقالات أثران؛ أحدهما: تنبيه الأذهان إلى المسائل الحيوية, وتعويد الناس الجرأة على الحكام, ومطالبتهم بالنصفة والعدل، وتبيان مكايد الأجانب وجشعهم، وثانيهما: تكوين جيل من الكُتَّابِ متمكن من اللغة, قدير على الإسهاب وشرح المعضلات, من غير لجوءٍ إلى المحسنات والزخارف، وخبير بتفتيق المعاني وتوليد الأفكار، متحرر من السخافات والجمود، ومتبعًا في ذلك سنن أستاذه جمال الدين الذي يقول عنه الشيخ محمد عبده: "له سلطة على دقائق
(1/268)
المعاني وتحديدها وإبرازها في الصورة اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها, كل مضوع يُلْقَى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صُنْعُ يديه, فيأتي على أطرافه, ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع".
ويقول في موضع آخر: "كان أرباب العلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف إلّا عبد الله باشا فكري، وخيري باشا، محمد باشا سيد أحمد -على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على تخصص فيه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شكالها، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري، لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلّا أخذ عنه, أو عن أحد تلاميذه, أو قَلَّدَ المتصلين به".
وقد مر بك ما تميز به أسلوب هذا النثر في موضوعات الثلاثة: الاجتماع، والأدب، والسياسة.
__________
(1) هكذا روى جمال الدين عن ولادته، أما الفرس: فيدَّعون أنه وُلِدَ بالقرب من حمدان بإيران, ويرجع تفضيله الانتساب إلى الأفغان، كما يقول الأستاذ بروان "الثورة الفارسية ص 402. هامش" إلى أن جمال الدين كان سنيًّا عربيًّا, وأنه أراد الهروب من الجنسية الفارسية الشيعية التي كان يشك في قيمتها.
(2) عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي ج2 ص90.
(3) من ترجمة الإمام الشيخ محمد عبده, له.
(4) تاريخ الأستاذ الإمام, ج1 ص34.
)5) راجع ص92 من هذا الكتاب.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|