أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-06-2015
2572
التاريخ: 12-08-2015
2079
التاريخ: 22-06-2015
2683
التاريخ: 27-1-2016
5340
|
سعيد بن حميد (1)
أبوه حميد بن سعيد فارسي الأصل، كان من أهل النباهة في بغداد ووجها من وجوه المعتزلة وكان يحسن نظم الشعر، ولا نعرف متى ولد له سعيد، ويبدو أنه عنى به عناية شديدة منذ نعومة أظفاره، فألحقه بكتّاب حفظ فيه شيئا من القرآن والفقه والحديث والنحو واللغة والأشعار والحساب، حتى إذا خطا خطوات في العقد الثاني من عمره دفعه إلى حلقات الدرس في المساجد، ويروى أنه عنى خاصة بأن يلحقه بحلقة ابن الأعرابي المتوفّى سنة 231 وأنه سمع منه أرجوزة في نحو عشرين بيتا وحفظها بمجرد سماعها، مما يدل على ذكائه وقوة ذاكرته. ولم يكتف سعيد بحلقة هذا العالم اللغوي الكبير، فقد مضى يختلف إلى حلقات العلماء من كل صنف، مكبّا عليها ناهلا منها متمثلا لما يقدّم فيها من غذاء أدبي وفكري، مما جعل المسعودي يقول عنه: «كان سعيد حافظا لما يستحسن من الأخبار ويستجاد من الأشعار متصرفا في فنون العلم، ممتعا إذا حدّث، مفيدا إذا جولس». ولعل ذلك ما جعل فضلا الشاعرة تعجب به، وتعقد بينها وبينه مودة ظلت فترة طويلة، وظلا يتبادلان فيها الرسائل الشعرية، على نحو ما مرّ بنا في حديثنا عن فضل. وكان قد ملأه الطموح بالنجاح في سامراء عاصمة الخلافة فتحول من بغداد إليها. ولا ريب في أن حلاوة محضره وعذوبة أحاديثه جعلتا كثيرين من أدباء عصره تشرئب أعناقهم إلى صحبته، وكانت فيه دعابة تجعل مجلسه خفيف الروح، مما جعل أبا على البصير وأبا العيناء نديمي المتوكل يألفانه ويختلفان إلى مجالسه، وتدور بينهما وبينه مداعبات ومعاتبات ومكاتبات، كما قال الرواة. ويبدو
ص624
أنه كان ينتظم بين كتّاب الدواوين لعهد المتوكل، إن لم يكن قد انتظم فيها قبل ذلك، وإنما يدفعنا إلى هذا الرأي ما اشتهر به من تعصبه على آل علي بن أبي طالب تعصبا شديدا حتى ليقول ابن المعتز. «كان سعيد من أشد الناس نصبا (عداء) لعلي وانحرافا عن آل الرسول عليه السلام» (2) ويقول المسعودي:
«كان يتنصّب ويظهر التسنن والانحراف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه وعن الطاهرين من ولده». ومرّ بنا في غير هذا الموضع موقف المتوكل من العلويين وأمره بهدم قبر الحسين في كربلاء وانحرافه عن علي و آله، وكأن سعيدا اعتنق أفكاره إما حقيقة وإما رياء للخليفة الموظف بدواوينه. على كل حال نظن في هذا الانحراف عند المتوكل وسعيد معا أنه كان يعمل في ظله، وأنه استحال بوقا من أبواقه. ويقول صاحب الفهرست إن له كتاب انتصاف العجم من العرب ويعرف بالتّسوية، والكتاب لم يصلنا، ولا ندري هل كان ينحرف عن العرب بدورهم انحرافا شديدا أو انحرافا خفيفا، على أن في كلمة ابن النديم أن الكتاب يعرف بالتسوية ما قد يشير إلى أنه لم يكن شديد العصبية فيه على العرب وأنه إنما كان يطالب بالتسوية بينهم وبين الأعاجم، والتسوية كما مرّ بنا في هذا الكتاب وكتاب العصر العباسي الأول لا تدخل في العصبية المنحرفة لدى بعض الأعاجم والمعروفة باسم الشعوبية.
وفي أشعاره ما يدل على أنه كان معتزليّا مثل أبيه على نحو ما نرى في قوله (3):
قد قلت بالعدل ولكنني … عدلت في الحبّ عن العدل
فقلت بالإجبار مستغفرا … لله من قولي ومن فعلي
فهو يؤمن بنظرية العدل على الله المعروفة عند المعتزلة، والتي تتيح للإنسان حرية الإرادة والاستطاعة، حتى يكون ثوابه وعقابه جزاء لما قدمت يداه، بينما يذهب أصحاب الجبر إلى أن كل شيء بقضاء وقدر وأنه لا مفر من الاستسلام للمقادير.
ولعل في ذلك كله ما يصور شخصية سعيد وأنه كان مثقفا ثقافة واسعة، ثقافة بالعربية وبمواد المعرفة الأجنبية، وهيّأ له ذلك أن يصبح من كتّاب الدواوين
ص625
مبكرا. وما يزال يرقى فيها وأعين رؤسائها ترمقه وتلاحظه، إذ كان شاعرا بارعا وكاتبا نابغا.
وكانت أول حادثة لمع فيها اسمه البيعة للمنتصر بعد مقتل أبيه المتوكل سنة 247، فقد ذكر أن أحمد بن الخصيب وزير المنتصر قال له: ويلك يا سعيد! أمعك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة؟ قلت: نعم وكلمات، وعملت كتاب البيعة.
وهو كتاب طويل استهلّه بقوله (4):
«بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نيّاتكم لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرّين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولمّ الشّعث، وسكون الدّهماء، وأمن العواقب، وعزّ الأولياء، وقمع الملحدين. . . لا تشكّون ولا تدهنون (تمالئون) ولا تميلون، ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به».
وأكبر الظن ان صوت سعيد اتضح في هذه السطور القليلة، فهو يعنى أشد العناية باختيار لفظه، وهو لا يطيل عباراته، بل يجعلها قصيرة، حتى لتصبح كلمة مثل: «طوع واعتقاد ورضا»، ومثل «اجتماع الكلمة، ولمّ الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، ولمع الملحدين» فالكلمات تتعاقب، جزلة حقا، ولكنها خفيفة على الأفواه والشفاه، إذ لا تلبث أن تحملها حتى ترسلها. ويظل كاتبا لأحمد بن الخصيب طوال خلافة المنتصر، حتى إذا ولى الخلافة بعده المستعين لسنة 248 عزل ابن الخصيب من الوزارة، واستوزر مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وسرعان ما عزله واستوزر محمد بن الفضل الجرجرائي، فجعل رياسة ديوان الرسائل لسعيد بن حميد (5)، وبذلك أصبح الكاتب الأول في الدولة الذي تصدر عنه جميع رسائلها الديوانية، ومما كتبه حينئذ رسالة خطيرة عن محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أهل بغداد، وكان المستعين قد
ص626
نزلها سنة 251 بعدا عن سامرّاء مدينة الترك وبغيهم، فبايعوا المعتز، ونازلوا ابن طاهر ببغداد فهزمهم، حينئذ نراه يأمر سعيد بن حميد بكتابة رسالة تذكر الوقعة حتى تقرأ على أهل بغداد في مسجد جامعها، وهي رسالة طويلة طولا شديدا نقتطف منها بعض الفقر التالية:
«ساروا نحو مدينة السلام (بغداد) معلنين للبغي والاقتدار، مظهرين للغي والإصرار، فتأنّاهم أمير المؤمنين (المستعين) وفسح لهم في النّظرة، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد. . . وأن يبيّن لهم ما سلف من بلائه عندهم من أسنى المواهب، وأرفع الرّغائب، والاختصاص بسنىّ المراتب، والتقدم في المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغي وإصرارا. . . وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل. . .
وصدقهم أولياء الله (جنود المستعين وابن طاهر) في لقائهم بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرّة بعد كرّة، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسّهم ألم جراحها وكلمتهم (جرحتهم) الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمد لهم أبناؤها ظمأ إلى دمائهم، ولّوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصّنوا من عقابه بإنابة. . . فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود (موثق بالأغلال) يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه. . . فرقا أربعا تجمعها النار، ويشملها عاجل النكال عظة ومعتبرا لأولى الأبصار».
وواضح تقطيع العبارات وتقابل الكلم في الرسالة، وكأننا بإزاء حائك، يقيس ثيابا متماثلة مقدّرة على معانيها. وقد يتكامل التقطيع، فيظهر السجع، ولكنه ليس سجعا متكلّفا، فليس مردّه إلى محاولة صنعة، وإنما مرده إلى دقة التقطيع، حتى لتأخذ العبارات شكل سجعات متوالية. وما نزال نتنقل بين تقاطيع طريفة، حتى نصل مع سعيد إلى تقسيم الجيش الذي دارت عليه الدوائر أقساما أربعة:
ص627
فهم بين قتيل وغريق وأسير وفار على وجهه لا يلوى.
ولسعيد تحميدات طريفة كان يضعها بين يدي رسائله الديوانية، فمن ذلك تحميد كتب به في فتح نهض به القائد التركي وصيف، يستهله بقوله (6):
«أما بعد فالحمد لله الحميد المجيد، الفعّال لما يريد، الذي خلق الخلق بقدرته وأمضاه على مشيئته، ودبّره بعلمه وأظهر فيه آثار حكمته، التي تدعو العقول إلى معرفته، وتشهد لذوي الألباب بربوبيته، وتدلّ على وحدانيته، لم يكن له شريك في ملكه فينازعه، ولا معين على ما خلق فتلزمه الحاجة إليه، فليس يتصرّف عباده في حال إلا كانت دليلا عليه، ولا تقع الأبصار على شيء إلا كان شاهدا له بما رسم فيه من آثار صنعه، وأبان فيه من دلائل تدبيره، إعذارا بحجّته، وتطولا بنعمته، وهداية إلى حقّه، وإرشادا إلى سبيل طاعته. . . والحمد لله العزيز القهّار، الملك الجبّار، الذي اصطفى الإسلام واختاره، وارتضاه وطهّره، وأعلاه وأظهره، فجعله حجّة أهله على من شاقّهم (خالفهم) ووسيلتهم إلى النصر على من عند (مال) في حقهم، وابتغى غير سبيلهم».
والسجع كثير في هذا التحميد، وهو دليل على أنه ظهر ثمرة لكثرة التقاطيع في العبارات، وإحساس الكتاب بأنه لا بأس من استكمال هذه التقاطيع، ولكن لا على أساس الجور على المعاني، وإنما على أساس الوفاء بها. وسعيد يستوفي في أول تحميده صفات الله جلّ شأنه من خلق وتقدير وعلم وحكمة في تدبير الكون، مما يشهد بوحدانيته. ونحس أثر قراءته لمباحث المتكلمين حين يلمّ بالوحدانية إذ يقول:
لو كان هناك إلهان أو آلهة لتنازعت فيما بينها على السلطان، وأيضا فإن هذا يؤول إلى أن يكون هناك آلهة تعينه في الخلق وتساعده، ولو صحّ ذلك لأصبح الله محتاجا إليها وانتفت عنه ألوهيته، إذ يمسه الضعف والعجز من بعض الوجوه، ويعرض حجة على ربوبيته التأمل في خلق الإنسان وفي نظام الكون مما يهدى إلى طريق الرّشاد.
ولسعيد بجانب الرسائل الديوانية التي كان يكتبها في أثناء عمله بالدواوين رسائل إخوانية كثيرة، منها تهنئات بعيد النّيروز وشوق وعزاء واعتذار ودعوة إلى
ص628
مجالس الأنس وشكر وهجاء واستمناح لبعض الأشخاص وتوصيات، ونعم طائفة منها بادئين بتهنئاته في عيد النيروز، فمن ذلك رسالة إلى أبي صالح يزداد وزير المستعين (7):
«النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمر مصروف إليك، فما عسانا أن نهدي لك في هذا اليوم، وهو يوم سهّلت فيه العادة، سبيل الهدايا للسادة، وكرهت أن نخليه من سنّته فنكون من المقصّرين، أو ندّعي أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا فنكون من الكاذبين، فاقتصرنا على هدية تقضى بعض الحق، وتقوم عندك مقام أجمل البرّ، وهي الثناء الجميل، والدعاء الحسن، لا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمر بك الأعياد الصالحة، والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد، وتستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها. وقد بعثت الرسول بالسكّر لطيبه وحلاوته، والسّفرجل لفأله وبركته، والدرهم لبقائه عند كل من ملكه، ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مرّا على أعدائك، متقدّما عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك وتحسن أفنيتهم (ساحاتهم) بمثلك».
والرسالة تحمل أسلوب سعيد وما يميزه من التقطيعات المتوالية والمعاني المتقابلة، فالنفس يقابلها المال، والرجاء يقابله الأمر. ويسقط السجع سقوطا طبيعيّا، كأنه ثمر يسقط من شجرة مورقة. ويمسح على ذلك لطف الحضارة، وما يمتاز به أهلها من دقة الحسّ ورهافة الذوق، على نحو ما يتضح في المعاني التي تحملها الهدية، فالسكر رمز للحلاوة والسفرجل رمز للبركة والدرهم رمز لبقاء الوزير في عزّه.
ويكتب برسالة مماثلة إلى الحسن بن مخلد وزير المعتمد على هذا المنوال (8):
«أيها السيد الشريف! عشت أطول الأعمار بزيادة من العمر، موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة، حتى تجدّد لك أخرى، ولا يمر بك يوم إلا كان مقصّرا عما بعده، موفيا على ما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة، فالتمست التأسي بهم في الإهداء، وإني إن
ص629
اهديت نفسي فهي ملك لك، لا حظّ فيها لغيرك، وإن رميت بطرفي إلى كرائم مالي وجدتها منك. . . وفزعت إلى مودتي فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة فرأيت إن أنا جعلتها هديتي لم أجدّد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا (هدية) ولم أقس منزلة من شكري بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكر مقصرا عن الحق، والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة، فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك برّا أتوصّل به».
والرسالة تحمل في جوهرها معاني الرسالة السابقة، وفيها نفس التلطف، وإن كان قد ازداد رقة في الدعاء وفي التعبير عن الاعتذار بالتقصير، فليس هناك ما يستطيع تقديمه حتى نفسه ومودته قدّمهما من قبل، ولم يبق في طاقته سوى الحمد والثناء والشكر الذي لا يماثله شكر، وتتوافر التقطيعات في الرسالة ويظهر السجع أحيانا في خفة وبدون أي تكلف لجهد أو عناء. ويكتب لصديق عزل عن عمله، مسليّا له (9):
«حفظك الله بحفظه، وأسبغ عليك كرامته، وأدام إليك إحسانه، إن سروري بصرفك أكثر من سرور أهل عملك بما خصّوا به من ولايتك. وقد كنت-أعزّك الله-فيما يربأ بك عنه بما أنت عليه في قدرك واستئهالك، ولكنا رجونا أن يكون سببا لك إلى ما تستحق، فطبنا نفسا بالذي رجونا. فالحمد لله الذى سلّمك منه، ونسأله تمام نعمه عليك وعلينا فيك، بتبليغك أملك وآمالنا فيك وشفع (قرن) ما كان من ولايتك بأعظم الدرجات، وأشرف المراتب، ثم خصّك الله بجميل الصّنع، وبلّغك غاية المؤملين. إن من سعادة الوالي-حفظك الله-وأعظم ما يخصّ به في عمله وولايته السلامة من بوائق (دواهي) الإثم، ونوائب الدنيا وشرها، والعاقبة مما يخاف منها، وقد خصّك الله منها-بمنّه وطوله (إنعامه) ما نرجو أن يكون سببا لك إلى نيل ما تستحق من المراتب، والله نسأل إيزاعك (إلهامك) شكر ما منّ به عليك، وتبليغك غاية أملك في جميع أمورك، برحمته وفضله».
والرسالة طريفة غاية الطرافة إذا عكس سعيد العزاء عن العمل، وجعله تهنئة
ص630
خليقة بأن تنصب لها أعلام السرور. ومضى يصوّر سروره وأنه يزيد على سرور أهل عمله حين جاءهم نبأ تولية هذا العامل عليهم. ويؤكد سروره بقوله إنه طاب نفسا، وقد أحسن اختيار هذه الكلمة. ثم أخذ يحمد له السلامة من هذا العمل ويعدّ ذلك نعمة ليس فوقها نعمة، ويدعو له بأن يبلغ أعظم الدرجات وأشرف المراتب، كما يدعو له بأن يعرف حق هذه النعمة ويشكر الله عليها أصدق الشكر، ويتمنى له أن يبلغ غاية آماله. وكأنما الرسالة ضرب من الحيل العقلية التي كانت تدور في المجالس، والتي كانت تعرض محاسن الشيء ومساوئه. فقد يكون حسنا وينقلب سيئا، وقد يكون سيئا وينقلب حسنا، ولا يرى فيه إلا الحسن، بفضل الذخائر العقلية التي حازها لنفسه العصر العباسي. وله من رسالة تعزية (10):
«إذا استوى المعزّى والمعزّى في النائبة استغنى عن الإكثار في الوصف لموقع الرزيّة. . .
وأنا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون، إقرارا له بالهلكة، واغترافا بالمرجع إليه، وتسليما لقضائه، ورضا بمواضع أقداره، وأسأل الله أن يصلّى على محمد صلاة متصلة بركاتها، وأن يوفقك لما يرضيه عنك قولا وفعلا، حتى يكمل لك ثواب الصابر المحتسب وجزاء المطيع المتنجّز للوعد، ويرحم فلانا ويحله أعلى منازل أوليائه الذين رضى سعيهم، وتطول بفضله عليهم، إنه ولىّ قدير».
والحيلة أيضا في هذه الرسالة واضحة، فقد جعل وفاة الشخص شركة بينه وبين المعزّى، فهو أيضا حري بأن يعزّى فيه، وكأن المصيبة فيه مصيبة عامة، والحزن عليه لا يقف عند من أرسل له هذه الرسالة، بل يشمل كثيرين هو أحدهم.
وقد أخذ يحتال على أن يسلو عنه صاحبه، تسليما للقضاء، واعترافا بأن كل من عليها فان، ورضا بالمقادير، وإنه ليدعو الله أن يوفق صاحبه للصبر على المصيبة، حتى يحوز ثواب المحتسب الصابر، ويدعو للمتوفى أن يرحمه الله وينزله مع أوليائه وأصفيائه في الدرجات العلية. وله يهنئ بعض إخوانه بولاية (11):
«أنا أهنئ بك العمل الذي وليته، ولا أهنئك به، لأن الله أصاره إلى من يورده موارد الصواب، ويصدره مصادر الحجّة ويصونه من كل خلل وتقصير، ويمضيه بالرأي الأصيل، والمعرفة الكاملة. قرن الله لك كل نعمة بشكرها،
ص631
وأوجب لك بطوله المزيد منها، وأوزعك (ألهمك) من المعرفة بها ما يصونها من الفتن ويحوطها من النقص».
والرسالة مع إيجازها تبدأ بحيلة من حيل الفكر العباسي الخصب الحافل بما يلفت السامع ويروعه، وهي أن العمل هو الذي يهنّأ بهذا الوالي، لا أن الوالي هو الذي يهنّأ به، إمعانا في المدح والإطراء، فقد كان من حسن حظ هذا العمل أن صار بيد من يدبره على خير وجه ممكن في الإيراد والإصدار، ومن يصونه ويحفظه من أي خلل أو تقصير، مع الفكر الحصيف والمعرفة التامة. ويدعو له بالأمن في عمله والسلامة من الفتن والثورات، وهو خطاب مقتضب، ولكنه جامع شامل، مع اللفظ المنتقى والأسلوب المصفّى. وله من رسالة في ذم بعض الأشخاص وهجائه (12):
«رجل يعنف بالنعم عنف من قد ساءته بمجاورتها، ويستخفّ بحقها استخفاف من لا يخفّ عليه محملها، ويقصّر في الشكر تقصير من لا يعلم أن الشكر يرتبطها. . فكيف يتسع الصدر للصبر عليه؟ إن الله لا يخاف الفوت فهو يمهله، وإنه إن مات لم يخرج من سلطان الله جلّ وعزّ إلى سلطان غيره فيعاجله».
وهذه الكلمات على قصرها من ألذع الهجاء، وهل هناك شخص تسوؤه النعم سوى هذا الشخص الذي لا يعرف قدرها، بل إنه يعنف بها عنف عدوّ غاشم، وإنه ليستخفّ بحقوقها استخفاف من ثقل عليه النهوض بها وحملها، وهو لذلك كله يطّرح الشكر عليها اطراح الجاهل بأن الشكر هو الذى يكفل لها البقاء، وهو لا يدرى أنه مع طغيانه وبغيه على نعمة ربه سيلقى جزاءه، إنه يمهله، لأنه لا يعرف أنه لن يخرج حين يموت عن دائرة سلطانه. والكلمات والعبارات مختارة بدقة. وله في الدعوة إلى يوم أنس من رسالة (13):
«لا عذر في التخلف عنك، وإن حال الاشتغال بيننا وبينك، فإن كنت سامحت على العذر قبل الاعتذار، وسبقت إلى فضيلة الاغتفار، فلا زلت على كل خير دليلا، وإليه داعيا، وبه آمرا، وقد التقنا قبل وصول كتابك لقاء أحدث قطرا (دموعا منهمرة) وهاج شوقا، وأرجو أن تتسع لنا الجمعة بما بخلت به الأيام، فننال حظّا من محادثتك والأنس بك».
ص632
وهو يعترف بأنه مقصر وخليق بالاعتذار لتخلفه عن زيارة صديقه، ويعتذر بكثرة أعماله، ويتلطف معه، فيجعله قبل عذره قبل تقديمه وغفر له تقصيره.
وانظر كيف عبّر عن مدى تأثرهما عند اللقاء بقوله إنه لقاء أحدث قطرا. ودائما لا تفوته الكلمة الموجزة المعبّرة أدق تعبير وأقواه. ومن رسالاته عن فضل محبوبته وقد ظن بها الظنون وأنها تعثّرت في حبال غيره (14):
«أصبحت-والله-من أمر فضل في غرور، أخادع نفسى بتكذيب العيان، وأمنّيها ما قد حيل دونه. والله إن إرسالي إليها-بعد ما قد لاح من تغيّرها-لذلّ، وإن عدولي عنها-وفي أمرها شبهة-لعجز، وإن تصرّى عنها لمن دواعي التلف».
والقطعة محبوكة العبارات، وقد عمد فيها إلى بيان حالته النفسية إزاء تغيّر فضل عليه، متصورا ثلاثة مواقف، فهو إن راسلها كان ذلك ذلاّ له وهوانا ما بعده هوان، وهو إن انصرف عنها ولا يزال مشتبها في أمرها لم يتبين بالضبط قطيعتها له كان ذلك عجزا منه وتقصيرا، وهو إن أخذ نفسه بالصبر عنها كان ذلك فوق طاقته وأدّى به إلى التلف والهلاك. ودائما نحسّ عنده دقة التعبير، وكأن الكلمات سهام تصيب مرماها. وله فصول بديعة تدور في كتب الأدب من مثل قوله في رسالة لصديق مصوّرا مودته (15):
«إني أهديت مودتي إليك رغبة، ورضيت بالقبول منك مثوبة، فصرت بقبولها قاضيا لحق، ومالكا لرقّ، وصرت-بالتسرع إلى الهدية و التخير للمثوبة-مرتهن اللسان بالرضا، واليدين بالوفا».
وانظر تصويره لمودته بأنها هدية أهداها لصاحبه، ودائما تردّ الهدايا، وهو لا يريد لها ردّا ولا جزاء سوى قبول الصديق لها، ويقول إنك إن قبلتها أصبحت ناهضا بحق ومالكا لعبد، جعل رقّه في يديك وحريته طوع مشيئتك، وكل ذلك كناية عن مدى إخلاصه في أخوته وصداقته. وهو يصوّر نفسه، وقد قدّم الهدية وتخيّر جزاءها مودة صديقه بل قبوله لها، قد أصبح لسانه مرتهنا بحرمتها ويداه مقيدتين بالوفاء لها ونفسه مستعبدة له. ولا تعرف بالضبط السنة التي توفى فيها سعيد، وأكبر
ص633
الظن أنه عاش إلى أواسط عصر المعتمد (256 - 278 هـ). ولعل في كل ما قدمنا ما يصور مهارته البيانية في الرسائل الإخوانية والديوانية، فقد كان يعنى أشد العناية باختيار ألفاظه وتقطيع عباراته حتى لينتهي التقطيع أحيانا إلى السجع، كما كان يعنى بمعانيه وجلب ما يروق منها بدقته وطرافته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في ترجمة سعيد ورسائله الفهرست ص 185 والأغاني (طبعة الساسي) 17/ 2 ومروج الذهب 4/ 61 وابن خلكان وكتاب رسائل سعيد بن حميد وأشعاره ليونس أحمد السامرائي (طبع بغداد) وجمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت.
(2) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 426.
(3) كتاب رسائل سعيد بن حميد وأشعاره ص 141.
(4) انظر الطبري 9/ 235 وما بعدها.
(5) الطبري 9/ 264.
(6) جمهرة رسائل العرب 4/ 295.
(7) العقد الفريد 6/ 282 وديوان المعاني 1/ 95.
(8) عيون الأخبار 3/ 39، والعقد الفريد 6/ 281 وديوان المعاني 1/ 94.
(9) جمهرة رسائل العرب 4/ 287.
(10) جمهرة رسائل العرب 4/ 292.
(11) جمهرة رسائل العرب 4/ 289.
(12) صبح الأعشى للقلقشندي 9/ 219.
(13) زهر الآداب 3/ 361.
(14) الأغاني (طبعة الساسي) 21/ 119.
(15) جمهرة رسائل العرب 4/ 297.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|