المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



تفسير آية (31-34) من سورة الأعراف  
  
18697   08:40 صباحاً   التاريخ: 7-5-2019
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأعراف /

قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 31 - 34] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 31 - 32] .

لما تقدم ذكر ما أنعم الله سبحانه على عباده ، من اللباس ، والرزق ، أمرهم في أثرها بتناول الزينة ، والتستر ، والاقتصاد في المأكل والمشرب ، فقال : {يا بني آدم} وهو خطاب لسائر المكلفين {خذوا زينتكم عند كل مسجد} أي : خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات والأعياد ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام . وقيل : عند كل صلاة .

روى العياشي بإسناده أن الحسن بن علي عليه السلام ، كان إذا قام إلى الصلاة ، لبس أجود ثيابه . فقيل له : يا بن رسول الله! لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : (إن الله جميل يحب الجمال ، فأتجمل لربي ، وهو يقول {خذوا زينتكم عند كل مسجد} فأحب أن ألبس أجود ثيابي) .

وقيل : معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم ، وإنما قال ذلك ، لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف ، على ما تقدم بيانه ، وكان يطوف الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، فأمرنا بلبس الثياب في الصلاة ، والطواف ، عن جماعة من المفسرين .

وقيل : إن أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة ، روي ذلك عن الصادق عليه السلام .

{وكلوا واشربوا} صورته صورة الأمر ، والمراد الإباحة ، وهو عام في جميع المباحات {ولا تسرفوا} أي : لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد : (لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله ، لم تكن مسرفا ، ولو أنفقت درهما ، أو مدا ، في معصية الله ، لكان إسرافا) .

وقيل : معناه لا تخرجوا عن حد الاستواء في زيادة المقدار . وقد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان ! فقال له علي : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه ، وهو قوله {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} ، وجمع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الطب في قوله : {المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء ، واعط كل بدن ما عودته} . فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ، ولا نبيكم لجالينوس طبا .

وقيل : معناه لا تأكلوا محرما ، ولا باطلا على وجه لا يحل ، وأكل الحرام وإن قل إسراف ومجاوزة للحد ، وما استقبحه العقلاء وعاد بالضرر عليكم ، فهو أيضا إسراف لا يحل ، كمن يطبخ القدر بماء الورد ، ويطرح فيها المسك ، وكمن لا يملك الا دينار ، فاشترى به طيبا ، فتطيب به ، وترك عياله محتاجين .

{إنه لا يحب المسرفين} أي : يبغضهم ، لأنه سبحانه قد ذمهم به ، ولو كان بمعنى لا يحبهم ، ولا يبغضهم ، لم يكن ذما ولا مدحا .

ولما حث الله سبحانه على تناول الزينة . عند كل مسجد ، وندب إليه (2) ، الأكل والشرب ، ونهى عن الإسراف ، وكان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس ، حتى إنهم كانوا يحرمون السمون والألبان في الإحرام ، وكانوا يحرمون السوائب والبحائر ، أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال :

{قل} يا محمد {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} أي : من حرم الثياب التي تتزين بها الناس ، مما أخرجها الله من الأرض لعباده ، والطيبات من الرزق ، قيل : هي المستلذات من الرزق . وقيل : هي المحللات ، والأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين .

{قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} قال ابن عباس : يعني إن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا ، فأكلوا من طيبات طعامهم ، ولبسوا من جياد ثيابهم ، ونكحوا من صالح نسائهم ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا ، وليس للمشركين فيها شيء . قال الفراء : مجازة هي للذين آمنوا ، مشتركة في الدنيا ، وهي خالصة لهم في الآخرة ، وهذا معنى قول ابن عباس . وقيل : معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم ، والأحزان ، والمشقة ، وهي خالصة يوم القيامة من ذلك ، عن الجبائي .

{كذلك نفصل الآيات} أي : كما نميز لكم الآيات ، وندلكم بها على منافعكم ، وصلاح دينكم ، كذلك نفصل الآيات {لقوم يعلمون} وفي هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة ، وأكل الأطعمة الطيبة من الحلال .

وروى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد ، عن عمه عمر بن علي ، عن أبيه زين العابدين بن الحسين بن علي عليهم السلام ، أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا ، فإذا أصاف (3) تصدق به ، ولا يرى بذلك بأسا ويقول : {قل من حرم زينة الله} الآية .

وبإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال : (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، وعليه جبة خز ، وطيلسان خز ، فنظر إلي ، فقلت : جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه؟

فقال : وما بأس بالخز ؟ قلت فسداه إبريسم ! قال : لا بأس به ، فقد أصيب الحسين عليه السلام وعليه جبة خز ، ثم قال : إن عبد الله بن عباس ، لما بعثه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخوارج ، لبس أفضل ثيابه ، وتطيب بأطيب طيبه ، وركب أفضل مراكبه ، فخرج إليهم ، فوافقهم قالوا : يا بن عباس ! بينا أنت خير الناس ، إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم؟ فتلا هذه الآية {قل من حرم زينة الله} إلى آخرها .

فالبس وتجمل ، فإن الله جميل يحب الجمال ، وليكن من حلال) . وفي الآية دلالة أيضا على أن الأشياء على الإباحة لقوله : {من حرم} فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل .

* {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 33 - 34] .

ثم بين سبحانه المحرمات ، فقال : {قل} يا محمد {إنما حرم ربي الفواحش} أي : جميع القبائح والكبائر ، عن الجبائي ، وأبي مسلم (ما ظهر منها وما بطن) أي : ما علن منها ، وما خفي . وقد ذكرنا ما قيل فيه في سورة الأنعام ، ومعناه لم يحرم ربي إلا الفواحش لما قد بينا قبل أن لفظة {إنما} محققة لما ذكرنا فيه ، لما لم يذكر ، فذكر القبائح على الاجمال .

ثم فصل للبيان ، فقال : {والإثم والبغي} فكأنه قال : حرم ربي الفواحش التي منها الإثم ، ومنها البغي ، ومنها الإشراك بالله . وقيل : إن الفواحش هي الزنا ، وهو الذي بطن منها ، والتعري في الطواف ، وهو الذي ظهر منها ، عن مجاهد .

وقيل : هي الطواف فما ظهر منها : طواف الرجال بالنهار ، وما بطن : طواف النساء بالليل . والإثم : قيل هو الذنوب والمعاصي ، عن الجبائي . وقيل : الإثم ما دون الحد عن الفراء . وقيل : الإثم الخمر عن الحسن ، وأنشد الأخفش :

شربت الإثم حتى ضل عقلي               كذاك الإثم يذهب بالعقول

وقال آخر :

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا (4)         وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

والبغي : الظلم والفساد ، وقوله {بغير الحق} تأكيد كقوله : {ويقتلون النبيين بغير حق} . وقيل : قد يخرج البغي من كونه ظلما ، إذا كان بسبب جائز في الشرع ، كالقصاص {وأن تشركوا بالله} أي : وحرم الشرك بالله {ما لم ينزل به سلطانا} أي : لم يقم عليه حجة ، وكل إشراك بالله فهو بهذه الصفة ، ليس عليه حجة ، ولا برهان {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي : وحرم القول على الله بغير علم .

ثم بين تعالى ما فيه تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تأخير عذاب الكفار ، فقال {ولكل أمة أجل} أي : لكل جماعة ، وأهل عصر ، وقت لاستئصالهم ، عن الحسن . ولم يقل لكل أحد لأن ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر . ووجه آخر وهو : إنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم ، بإتيان الرسل . وقال الجبائي :

المراد بالأجل هنا أجل العمر الذي هو مدة الحياة ، وهذا أقوى ، لأنه يعم جميع الأمم {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} أي : لا يتأخرون {ساعة} عن ذلك الوقت {ولا يستقدمون} أي : لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت . وقيل ، معناه لا يطلبون التأخر عن ذلك الوقت للأياس عنه ، ولا يطلبون التقدم عليه ، ومعنى {جاء أجلهم} : قرب أجلهم ، كما يقال جاء الصيف : إذا قارب وقته .

_______________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 244-248 .

2 . [وأباح] .

3 . أي دخل في الصيف .

4 . الخنى : - محركة - الفحش في الكلام .

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . قال المفسرون : كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة نساء ورجالا ، وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسما ، ولا ينالون من الطعام إلا ما يقيم الأود تعظيما للحج ، فنزلت هذه الآية ، وان النبي (صلى الله عليه وآله) قال : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فنودي بقوله في الموسم ، ومن روايات هذا الباب ان امرأة جميلة من العرب نزعت ثيابها ووضعت يدها على فرجها وطافت ، ولما صوبت إليها الأنظار أنشدت وهي تطوف :

اليوم يبدو بعضه أو كله         *        وما بدا منه فلا أحله

جهم من الجهم عظيم ظله       *        كم من لبيب عقله يضله

وناظر ينظر ما يمله الجهم العبوس ، تريد أن فرجها عظيم في مكانه ، له هيبة وصيانة ، ولا أحد يستطيع الوصول إليه ، وانه يضجر من ناظره ويكرهه .

وأيا كان سبب النزول فان اللَّه حرم نظر الأجنبي إلى عورة غيره رجلا كان أو امرأة ، وأوجب ستر العورتين في الصلاة والطواف . . والمراد بكل هنا العموم البدلي ، دون العموم الاستغراقي ، ومثلنا للفرق بين العمومين في التعليق على الآية السابقة ، والمقصود هو الحث على النظافة والتطهير من الأوساخ والأحداث ، والتزين بجميل الثياب في صلاة الجمعة والجماعة والأعياد والطواف ، حيث يجتمع الناس ، فلا ينفر بعضهم من ريح بعض ومنظره ، والتجمل حسن حتى للفقير يتجمل حسب وضعه وحاله ، وفي الحديث : ان اللَّه جميل يحب الجمال .

{وكُلُوا واشْرَبُوا} هذا رد على من حرم بعض المآكل والمشارب {ولا تُسْرِفُوا} في الأكل والشرب ، ولا في التزين باللباس والمظهر {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وفي الآية 27 من الإسراء : {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ} .

وفي الحديث : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء ، وعوّدوا كل جسم ما اعتاد . . وقال الإمام علي المرتضى ( عليه السلام ) : كم أكلة منعت أكلات .

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} . ظاهر اللفظ الاستفهام ، ومعناه المبالغة في نفي التحريم ، وانه من وساوس الشيطان ، لا من وحي الرحمن ، وإضافة الزينة إليه تشعر بالحل ، أما لفظة الطيبات فتدل بذاتها عليه ، لأن كل ما هو محرم فهو خبيث وليس بطيب ، والزينة تشمل جميع أنواعها من مسكن وملبس ومركب وأثاث ، وتشمل الطيبات جميع المأكولات والمشروبات ، والتمتع بالطيب والنساء ، والصوت الجميل والمنظر الجميل ، وكل ما لذ وطاب مما لم يرد النهي عنه في الشريعة ، واتفق علماء الإسلام قولا واحدا على ان كل شيء حلال ، حتى يرد فيه نهي ، واستدلوا بحكم العقل بأنه لا عقاب بلا بيان ، وبقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) : الناس في سعة ما لا يعلمون . وقوله : ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم .

وقوله : كل شيء مطلق ، حتى يرد فيه نهي .

{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} . أي ان الذين آمنوا الآن وفي هذه الحياة سوف يتنعمون غدا بزينة اللَّه والطيبات من الرزق وحدهم لا يشاركهم فيها أحد من الذين كفروا وأشركوا ، أما في الحياة الدنيا فيتنعم بها الجميع المؤمنون والكافرون . {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} من تتبع آي الذكر الحكيم يرى ان اللَّه سبحانه يطلق كلمة العالم على من علم أحكام اللَّه وعمل بها ، وأيضا يطلقها على من يرجى منه ان يعلمها وينتفع بها إذا فصلت له ، والمراد بقوم يعلمون هنا هم النوع الثاني الذين ينتفعون ببيان حكم الزينة والطيبات وغيرها ، ويصيرون بمعرفة حكم اللَّه علماء بالدين ، ويستدلون بآيات اللَّه سبحانه على حلاله وحرامه .

وبعد أن أنكر سبحانه على من حرم الزينة والطيبات بيّن أصول المحرمات ، وهي :

1 - {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ} . تقدم بيانها عند تفسير الآية 151 من الأنعام ، فقرة الوصايا العشر ، رقم 4 .

2 - {والإِثْمَ} وهو كل ما يعصى اللَّه به من قول أو فعل ، وعطف الإثم على الفواحش من باب عطف العام على الخاص ، نحو قوله تعالى : {كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ} [النساء - 163] .

3 - {والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الظلم ، وفي الحديث : لو بغى جبل على جبل لجعل اللَّه الباغي منهما دكا . وقال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من سلّ سيف البغي قتل به .

4 - {وأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} وليس بعد الكفر والشرك ذنب ، والشرك ضد التوحيد الذي يتلخص بقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وتقدم الكلام عنه في الوصايا العشر الآية 153 من الأنعام .

5 - {وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} ومن ذلك ما كان عليه أهل الجاهلية الذين أشارت إليهم الآية 28 الأعراف : {وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أَمَرَنا بِها} . ولا رذيلة أقبح من القول بلا علم ، ولا فرق بين الافتراء على اللَّه ، وبين الشرك به من حيث الحكم ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله .

{ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} . المراد بالأمة هنا الجماعة ، كما في الآية 23 من القصص : {ولَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} . . بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة 28 ان المشركين يفعلون الفواحش ، ويقولون : اللَّه أمرنا بها وذكر في الآية 31 ما أحل اللَّه ، وفي الآية 33 ما حرم ، بعد هذا قال : ولكل أمة أجل . أي لكل جماعة ، ومنهم المشركون الذين افتروا على اللَّه الكذب - أجل معين في هذه الحياة ، ثم يردون إلى اللَّه ، فينبئهم بما كانوا يعملون . .

وفي هذا تهديد ووعيد للمشركين ومرتكبي الفواحش ولأهل البغي والإثم ، ولكل من قال على اللَّه بغير علم .

{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ} تقدم تفسيره في الآية 145 من آل عمران ، فقرة الأجل محتوم ج 2 ص 171 .

__________________________

1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 320-323 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف : 31] إلى آخر الآية . 

قال الراغب : السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان ، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، انتهى . 

أخذ الزينة عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد ، وهو إنما يكون بالطبع للصلاة والطواف وسائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزين الجميل للصلاة ونحوها ، ويشمل بإطلاقه صلوات الأعياد والجماعات اليومية وسائر وجوه العبادة والذكر . 

وقوله : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف : 31] إلخ ، أمران إباحيان ونهي تحريمي معلل بقوله : {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف : 31] والجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الإشارة إليه ، وهي كما تقدم خطابات عامة لا تختص بشرع دون شرع ولا بصنف من أصناف الناس دون صنف . 

ومن هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم : أن قوله : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف : 31] إلخ يدل على بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جميع البشر ، وأن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة . 

نعم تدل الآية على أن هناك أحكاما عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر ، وأما شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب والقرينة العقلية قائمة . 

قوله تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف : 32] هذا من استخراج حكم خاص - بهذه الأمة - من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله : {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف : 26] وقوله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف : 28] الآية . 

والاستفهام إنكاري ، والزين يقابل الشين وهو ما يعاب به الإنسان فالزينة ما يرتفع به العيب ويذهب بنفرة النفوس ، والإخراج كناية عن الإظهار واستعارة تخييلية كأن الله سبحانه بإلهامه وهدايته الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعة ويستدعي انجذاب نفوسهم إليه وارتفاع نفرتهم واشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة وقد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم . ولو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزين بها قط ولا تنبه للزوم إيجادها لأن ملاك التنبه هو الحاجة . 

لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد وهم يعيشون بالإرادة والكراهة والحب والبغض والرضى والسخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه وما يستقبحونه من الهيئات والأزياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم ويزين ما يشين منهم وهو الزينة بأقسامها ، ولعل هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله : {لعباده} . 

وهذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني ، وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات وتترقى وتتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع وتلاشت أجزاؤه من حينه لأن معنى بطلانها ارتفاع الحسن والقبح والحب والبغض والإرادة والكراهة وأمثالها من بينهم ، ولا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ فافهم ذلك . 

ثم الطيبات من الرزق - والطيب هو الملائم للطبع - هي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه ، أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه كأنواع المطعم والمشرب والمنكح والمسكن ونحوها ، وقد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق ويستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته وهذا هو الطيب والملاءمة الطبيعية . 

وابتناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به ، وما جهز بشيء ولا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شيء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شيء من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم . 

فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم والمشهية للمعدة ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة ، وأهمها الفكر السالم الحر وعلى هذا القياس . 

والتعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شيء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون ، ويسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة ، وينال غاية غير غايته وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره ، ويصوره له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن . 

والله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبينها لهم من طريق الإلهام الفطري ، ولا تلهم الفطرة إلا بشيء قامت حاجة الإنسان إليه بحسبها . 

ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة والتكوين . 

ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الإنكاري أن هناك أقساما من الرزق طيبة ملائمة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده ، ولا يشعر بها ولا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها وإلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه ، ولا دليل على إباحة شيء من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية والفقر التكويني إليه كما سمعت . 

ثم يذكر بالاستفهام الإنكاري أن إباحة زينة الله والطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل والقضاء الفطري . 

وإباحة الزينة وطيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها والوسط العدل بين الإفراط والتفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة ، وقد قال الله سبحانه في الآية السابقة : {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف : 31] وقال فيما قبل ذلك : {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف : 29] . 

ففي التعدي إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط من تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط ، وفساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر والبحر وتنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق ، وهو الإنسان إذا جاوز حد الاعتدال ، وتعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد ولا يلوي على شيء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية ويذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله ، ومن هذا القليل الأمر الإلهي بضروريات الحياة كالأكل والشرب واللبس والسكنى وأخذ الزينة . 

قال صاحب المنار ، في بعض كلامه - وما أجود ما قال : - وإنما يعرفها - يعني قيمة الأمر بأخذ الزينة مع بساطته ووضوحه - من قراء تواريخ الأمم والملل ، وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات ، والقبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار وجبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا ، وأن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر والزينة إيجابا شرعيا . 

ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم ولتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الإسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى وإيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الأوروبية فيهم . 

بل أقول : إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون ويتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد . 

هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين - ويسمونهما سبيلين وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الأسفل فقط وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه ، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب ، والأكل في الأواني ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه ، ولكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا وزينة لأن المسلمين كانوا حكامهم ، وقد كانوا ولا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما وعملا وتأثيرا في وثني بلادهم . 

وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية ، ومنهم نساء مسلمي سيام اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الإسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم . 

فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام ولو لا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية ، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول : ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني ، وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف : 31] انتهى . 

ومما يناسب المقام ما روي : أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان! فقال له علي : قد جمع الله الطب كله في نصف آية وهو قوله : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف : 31] وجمع نبينا الطب في قوله : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء ، وأعط كل بدن ما عودته فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا . 

قوله تعالى : {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الأعراف : 32] لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم والمؤمنين جميعا كما يعمهم جميعا ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف : 31] ولازمه أن تكون الزينة وطيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعا ، مؤمنهم وكافرهم . 

فقوله : {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف : 32] إلخ ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة والمزية ، وإذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة ، ولازم ذلك أن يكون قوله : {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف : 32] متعلقا بقوله : ﴿آمَنُوا﴾ قوله : {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف : 32] متعلقا بما تعلق به قوله : {لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الأعراف : 32] وهو قولنا كائنة أو ما يقرب منه ، ﴿وخالصة﴾ حال عن الضمير المؤنث وقدمت على قوله : {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لتكون فاصلة بين قوليه : {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} والمعنى : قل هي للمؤمنين يوم القيامة وهي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة . 

وبهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم : إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم والمنغصات والمعنى : هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة ، وهي خالصة يوم القيامة من ذلك . 

وذلك أنه ليس في سياق الآية ولا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها ويكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص . 

وكذا ما في قول بعض آخر : إن قوله : {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بما تعلق به قوله {لِلَّذِينَ آمَنُوا} والمعنى : هي ثابتة للذين آمنوا بالأصالة والاستحقاق في الحياة الدنيا ، ولكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم وإن لم يستحقها مثلهم ، وهي خالصة لهم يوم القيامة - أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع {خَالِصَةً} [الأعراف : 32] بالرفع على أنها خبر والباقون بالنصب على الحالية - وذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة ، والأوامر المحرضة لإصلاح الحياة بأخذ الزينة والارتزاق بالطيبات والقيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق والأنفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات والفنون المستخدمة في الرقي في المدنية والحضارة ، ومعرفة قدرها والشكر عليها . 

كل ذلك من طريق الوحي والنبوة . 

وجه فساده : أنه إن أراد أن ما ذكره من الأصالة والتبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية أجنبية عن الدلالة على ذلك ، وإن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها وأن ذلك بالأصالة والتبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على اشتراك الطائفتين معا في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة والتبعية . 

بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله : ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ - إلى أن قال - وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 34- 35] ، خلاف ذلك وأن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به . 

وقد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال : {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 32] . 

قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف : 33] إلى آخر الآية ، قد تقدم البحث المستوفى عن مفردات الآية فيما مر ، وإن الفواحش هي المعاصي البالغة قبحا وشناعة كالزنا واللواط ونحوهما ، والإثم هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الإنسان في حياته وذلة وهوانا وسقوطا كشرب الخمر الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك ، والبغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم ، ووصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله : {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف : 33] . 

وكان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة وطيبات الرزق داعيا لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك ، ولا يشذ عما ذكره شيء من المحرمات الدينية ، وهي تنقسم بوجه إلى قسمين : ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الأول ، وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران ، والقسم الأول منه ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق ، ومنه غيره وهو إما ذو قبح وشناعة فالفاحشة ، وإما غيره فالإثم ، والقسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه . 

قوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف : 34] إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة : {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف : 25] نظير الأحكام الآخر المستخرجة منها المذكورة سابقا ، ومفاده أن الأمم والمجتمعات لها أعمار وآجال نظير ما للأفراد من الأعمار والآجال . 

وربما استفيد من هذا التفريع والاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقا : {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} [الأعراف : 25] إلخ ، راجع إلى حياة كل فرد فرد وكل أمة أمة ، وهي بعض عمر الإنسانية العامة ، وإن قوله قبله : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف : 24] راجع إلى حياة النوع إلى حين وهو حين الانقراض أو البعث ، وهذا هو عمر الإنسانية العامة في الدنيا .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 79-86 .

 

تفسير الأمثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 31-32]  .

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها .

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عند ما يذهبون إلى المساجد {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}  .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، ومشط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضا أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات الإنسانية والملكات الأخلاقية ، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها .

وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر ، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة ، فإنّ ذلك لا يدل على الانحصار ، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة (2) .

وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين (3) ، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية .

وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان ، إلّا أنّه ينطوي ضمنا على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة ، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراة من دون ساتر يستر عوراتهم ، كما أنّه يتضمن ـ أيضا ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثيابا وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل ، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية ، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين ، في حين أننا مكلّفون ـ طبقا للآية الحاضرة ، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا .

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أخرى ، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة ، ويقول : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} .

ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية ، يمكن أن يسيء استخدام هذين التعليمين ، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل ، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ ، لهذا أضاف مباشرة قائلا : {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّا بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف ، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك ، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة ، فهو عند الحث على الاستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فورا من سوء استخدامها ، ويوصي برعاية الاعتدال .

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الرّد ـ بلهجة أكثر حدّة ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والاجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد ، وسببا للتقرب إلى الله فيقول : أيّها النّبي {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ

إذا كانت هذه الأمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح ، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها ؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق ، وبين التعاليم الدينية ؟!

ثمّ أضاف للتأكيد : {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة ، وإن كان الآخرون ـ أيضا ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك ، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل ، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب ، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط ، ويحرم منها الآخرون حرمانا كليّا .

وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم ؟ أنّ الحرام هو ما يورث مفسدة ، لا ما هو نعمة وموهبة .

هذا وقد احتمل أيضا في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا ، إلّا أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب) .

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد : {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

- {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 33] .

المحرمات الإلهية :

لقد شاهدنا مرارا أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم ، تحدث فورا عن ما يقابله ، من الأمور القبيحة والمحرمات ، ليكمّل كلّ واحد منهما الآخر .

وهنا أيضا تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم ، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة .

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال : يا أيّها النّبي {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} .

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح والسوء لا جميع الذنوب ، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ما ظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أتي به سرّا ، ويحرّمونه إذا كان ظاهرا مكشوفا .

ثمّ إنّه عمّم الموضوع ، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم . والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته ، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن . وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم .

ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى «الخمر» واستدلوا لذلك بالشعر المعروف .

شربت الإثمّ حتى ضلّ عقلي                   كذاك الإثمّ يصنع بالعقول (4)

 

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة ، بل أحد مصاديقه .

ومرّة أخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام ، فيقول : {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ} أي كل نوع من أنواع الظلم ، والتجاوز على حقوق الآخرين .

و «البغي» يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء ، ولكن يراد منه غالبا الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين ، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساويا لمفهوم الظلم .

ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوثة بوصف «غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي» .

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال : {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} فهو أيضا محرّم عليكم .

ومن الواضح أنّ جملة {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} للتأكيد ، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول ، وكلمة «السلطان» تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه .

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} .

ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (28) من نفس هذه السورة أيضا .

ولقد أكّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيرا ، ومنع المسلمون بشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم أنّه قال : «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض» . (5)

ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيدا في أوضاع المجتمعات البشرية ، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات ، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشئ من بث الشائعات ، والقول بغير علم ، والشهادة بغير الحق ، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل .

- {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 34] .

 

لكلّ أمّة أجل :

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة ، يعني فناء الأمم وزوالها ، ويلقي ضوءا أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة ، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة .

فيقول أوّلا : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} .

ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .

أي أنّ الأمم والشعوب مثل الأفراد ، لها موت وحياة ، وأنّ الأمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض ، وتحل مكانها أمم أخرى ، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان ، بل تشمل الجماعات والأقوام والأمم أيضا ، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر انحرافها عن جادة الحق والعدل ، والإقبال على الظلم والجور ، والانغماس في بحار الشهوات ، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية .

فعند ما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة ، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر ، وتسقط في النهاية .

إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى ، مثل حضارة بابل ، وفراعنة مصر ، وقوم سبأ ، والكلدانيين والآشوريين ، ومسلمي الأندلس وأمثالها ، توضح الحقيقة التالية ، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة .

ويجب الالتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية ، فربّما تكون بمعنى لحظة ، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن ، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم .

 

الرد على خطأ :

رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها ، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أسس خاتمية رسول الإسلام صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله ‌وسلم ، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها ، وبمعونة من تفسيرها بالرأي ، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها .

ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا . فقالوا : إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أمّة أجلا ونهاية ، والمراد من الأمّة الدين والشريعة ، ولهذا فإنّ للدّين الإسلامي أمدا ونهاية أيضا! .

إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الاستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة الأمّة في اللغة ، ثمّ في القرآن الكريم .

يستفاده من كتب اللغة ، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم ، والتي تبلغ 64 موضعا ، إنّ الأمّة في الأصل تعني الجماعة .

فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا : {وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص ، 23] أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم .

وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران ، 104] .

كما نقرأ أيضا : {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف ، 164] . والمعنيون بالأمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل .

ونقرأ حول بني إسرائيل : {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً} [الأعراف ، 160] .

من هذه الآيات يتّضح جيدا أنّ الأمّة تعني الجماعة ، ولا تعني الدين ، ولا أتباع الدين ، ولو أنّنا لا حظنا استعمالها في أتباع الدين ، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة .

وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية ، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون ، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب ، بل الأمم هي الأخرى تموت ، وتتلاشى وتنقرض .

وأساسا لم تستعمل لفظة الأمّة في الدين أبدا ، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقا .

_________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 350-360 .

2. للاطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2 ، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نور الثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19 .

3. المصدر السابق .

4. التبيان عند تفسير الآية المبحوثة ، وتاج العروس مادة «إثم» .

5. عيون أخبار الرضا عليه السلام ، طبقا لرواية تفسير نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 26 .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .