أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-10-27
232
التاريخ: 12-5-2019
2645
التاريخ: 1-6-2020
5718
التاريخ: 15-12-2020
7693
|
الاستقراء
إنّ دراسة التاريخ في منهجه وغايته، تعتمد على الاستقراء، والتمثيل، والقياس المنطقي، كالعلوم الأخرى؛ وذلك لوحدة الجامع في العلوم، فالاستقراء هو تتبع الجزئيات، والأمور المتشابهة؛ ليستفاد منها الكلّي العام ـ مثلاً ـ نلاحظ أنّ الفرس، والبغل، والحمار، وألف حيوان وحيوان آخر، يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ، فنستفيد من ذلك أنّ كلّ حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ، فنجعل ذلك قاعدة كلّية، فإنْ كان الاستقراء تامّاً بالنسبة إلى كلّ الحيوانات، فتكون القاعدة قطعية، وإن لم يكن الاستقراء تامّاً في كلّ المفردات وإنّما في كثير من المفردات، فيكون الاستقراء ناقصاً، وإنّما تأتي بنحو الكلّية من باب أن الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب إلاّ أن يتدخّل بداهة في الأمر، فيكون الاستقراء أيضاً قطعياً، ويسمّى الاستقراء المعلل.
مثلاً: إنّا نرى أنّ النار في العراق، وفي إيران، وفي مصر، وفي الشام، وفي الصين، وفي عشرات الأماكن الأخرى، تحرق اليابس الذي تلتقي به من خشب، أو عود، أو ورق، أو ما أشبه ذلك، فإنّا نقطع بأنّ النار تحرق اليابس مع أنّه ليس لنا استقراء تام. ولذا لا استثناء في ذلك إلاّ إذا كان الأمر مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى؛ لقوله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] (1)، كما حدث في قصّة إبراهيم (عليه السلام) .
أمّا بالنسبة إلى كلّ حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ، فقد رأينا استثناء ذلك في بعض أقسام من الحيوانات البحرية على ما ذكروه.
وبالقواعد الكلّية التي انتهينا إليها، نستطيع استيعاب العلوم المختلفة، فنرى أنّ العلوم تقوم على أساس الاستقراء. كما أنّ كثيراً من العلوم تستفيد من التمثيل، وكثيراً من العلوم تستفيد من القياس المنطقي، حيث تشكّل الصغرى والكبرى، وتكون النتيجة قطعية إذا كانت كلّ من الكبرى والصغرى قطعية، فنقول: زيد إنسان، وكل إنسان يموت، فزيد يموت، حيث إنّ الأصغر يدخل تحت الأكبر؛ بسبب الحدّ الأوسط المكرّر في كلّ من الصغرى والكبرى حسب الأشكال الأربعة التي ذكرها المنطقيّون والصناعات الخمسة وهي حسب المادّة، وأمّا القياس فهو حسب الصورة، وهذا كما يأتي في علوم الفيزياء، والكيمياء، والعلوم الإنسانية، يأتي أيضاً في فلسفة التاريخ؛ إذ العلوم لها جامع واحد من هذه الجهة؛ لأنّ منهج علم التاريخ، يعتمد على جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع التاريخية بهدف الوصول إلى أحكام كلّية على طبق ما ذكر في العلوم الطبيعية، إمّا على نحو القياس، أو على نحو الاستقراء، أو على نحو التمثيل. وقد أضاف بعض علماء الأصول الاستحسان، لكن الاستحسان ليس له ضوابط خاصّة، ولهذا فإنّ الفقهاء أسقطوا الاستحسان عن الاستدلال؛ لأنّه حسب ذوق العالم الذي يستحسن. ولذا فأحدهم يستحسن شيئاً، وأحدهم يستحسن شيئاً آخر. مثلاً: أحدهم يقول: إنّ الضبع كالظبي؛ ولهذا فهو حلال، والآخر يقول: إنّ الضبع كالكلب؛ ولذا فهو حرام، إلى غير ذلك من الأمثلة الموجودة في الفقه.
والنتيجة: لا يؤدّي الاستحسان إلى تأسيس أحكام كلية، فهو ليس منهجاً علمياً، وبالتالي لا يوجد قاعدة كلية. وهذا من جهة منهج العلم.
كما أنّ فلسفة التاريخ أيضاً تشابه العلوم الطبيعية والإنسانية من جهة غاية العلم وهي الغايات العملية في الطبيعية لأجل تسخير العلوم الطبيعية لصالح الإنسان، وأمّا بالنسبة إلى فلسفة التاريخ، فالهدف من ذلك تزويد الإنسان بأحكام تمكّنه من أن يفهم معنى الأحداث الحاضرة أو المستقبلية في ضوء خبرته بالماضي، وقد ذكرنا في موسوعة الفقه في كتاب الفقه المستقبل: إنّه كيف يمكن استمداد المستقبل من الماضي والحاضر؛ لأنّ الزمان يشبه بعضه بعضاً، والحضارات تشبه بعضها بعضاً، بحسب ما نستفيد من القياس، أو التمثيل، أو الاستقراء من الجهات المشابهة سواء كانت الحضارات صحيحة، أو باطلة، أو كانت أموراً اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو تربوية، أو غير ذلك، مستقيمة أو غير مستقيمة، مثل الاقتصاد الرأسمالي، أو الاقتصاد الشيوعي، أو الاقتصاد الاشتراكي، أو غير ذلك من اتحاد الاقتصاد.
وعلى أي حال: فإنّ فلسفة التاريخ منهج علمي يستفيد من منهج العلم ومن غاية العلم، كما أنّه يستفاد من ذلك احتياج العلم إلى الدين، وأنّه لا يمكن للعلم أو الدين أن يؤثر لوحده، فهما جناحان للحضارة الصحيحة، وقد أضحت غاية العلم خدمة أغراض الدين، فإنّ العلم بدون الدين لا يتمكّن أن يخدم الإنسان، بل كثيراً ما يكون العلم آلة للهدم بيد الإنسان، كما رأيناه في هذين القرنين بالنسبة إلى البلاد الغربية، وقبل ذلك كان دين المسيحية دون وجود أي دور للعلم، فأفسدت الكنيسة إفساداً لا مثيل له.
وفي هذين القرنين، وبعد أن أضحى العلم بدون وجود الدين، أفسد العلم إفساداً لا مثيل له، حتّى انتهى إلى صنع القنبلة الذرّية المدمرة.
ومن هذه التجارب الأخيرة التي مرّت على العالم في القرون الوسطى، والنهضة الصناعية إلى اليوم، استقرأ المؤرّخون النظرة الأخروية التي تجعل غاية التاريخ عالم الدنيا، وعالم الآخرة، على ما قاله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 201، 202] (2)، فالاستعمار، والاستثمار، وقتل الأبرياء، والسيطرة على الأفراد والشعوب ونهب مواردها وخيراتها، ما هي إلاّ نتيجة أنّ العلم صار بيد أناس لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
وعلى أي حال: فتجرد العلم عن الأخلاق، والإنسانية، والعدل، والإنصاف؛ يولد الظلم، والقهر، والاستبداد، وكلَّ ما هو سوء.
ولذا ورد في رواياتنا (فأحببْ لغيرك ما تحبّ لنفسك) (3)، و (من نادى يا للمسلمين فلم يجيبوه فليسوا بمسلمين) (4)، و (ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه) (5)،و (اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً)(6)، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تبيّن هذا الأمر بعد القرآن الحكيم، الذي فيه إشارات كثيرة إلى هذه الجهة.
ولذا نشاهد أنّ الغرب بعد ابتعاده عن الدين خلال القرون الماضية، وبعد أن رأى الآثار السلبية للعلم عندما تجرد عن الإيمان، أخذ يقترب منه رويداً رويداً حتّى تنبأ أحد فلاسفة بريطانيا أنّه لا تمرّ مائة سنة القادمة إلاّ والبريطانيون يدخلون في دين الإسلام كافّة.
_______________
(1) سورة الأنبياء: الآية 69.
(2) سورة البقرة: الآيات 201 ـ 202.
(3) نهج البلاغة: الكتاب 31، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص 84 ب31، وفي الأمالي للصدوق: ص 323، ومصادقة الإخوان: ص40، والاختصاص: ص27 (بالمعنى).
(4) فقد ورد في الجعفريات: ص88 (من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من المسلمين، ومن شهد رجلاً ينادي يا للمسلمين ؛ فلم يجبه، فليس من المسلمين)، وفي وسائل الشيعة: ج15ص141 ب59 ح20169 وج16 ص337 ب18 ح21702: (من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)، وفي الكافي (أصول): ج2 ص163 ح1 (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين، فليس بمسلم).
(5) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156 ب2 ح3568، وسائل الشيعة: ج17 ص76 ب28 ح22025.
(6) مجموعة ورام: ج2 ص 234، مستدرك الوسائل: ج1 ص 146 ب25 ح220، بحار الأنوار: ج44 ص 139 ب22 ح6.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|