نشأ النحو في العراق صدر الإسلام لأسبابه نشأة عربية على مقتضى الفطرة، ثم تدرج به التطور تمشيا مع سنة الترقي، حتى كملت أبوابه، غير مقتبس من لغة أخرى لا في نشأته ولا في تدرجه وقد اختلف العلماء في أول ما وضع منه على رأيين:
أحدهما: أن أول ما وضع من أبوابه هو ما وقع اللحن فيه، ثم استمر الوضع فيما بعده على هذا النمط، وذلك ما ذهب إليه جمهور النحاة اعتدادا بالروايات المستفيضة التي اقترن فيها الوضع باللحن، إلا أن تعيين الباب الموضوع أولا منوط بالرواية التي قوي سندها من بين الروايات.
والآخر: أن أول ما وضع منه ما كان أقرب إلى متناول الفكر في الاستنباط، لأن وضعه مبني على أساس من التفكير في استخراج القواعد من الكلام لداعي انتشار اللحن، فالموضوع أولا ما كثر دورانه على اللسان ثم ما يليه وهكذا، ولذا قيل: إن الموضوع أولا الفاعل ثم ردفه المفعول ثم المبتدأ والخبر وهكذا. وما تقدم هو ما أطبق عليه علماؤنا خلفا بعد سلف. وزعم بعض المستشرقين: أن علم النحو منقول من لغة اليونان لأن وضعه في العراق إنما كان بعد اختلاط العرب بالسريان وتعلم ثقافتهم، وللسريان نحو قديم ورثوه عن اليونان(1). وزعم بعض منهم آخر رأيا ثالثا، فيه بعض موافقة ومخالفة لكل من الرأيين المذكورين، وافق الرأي الأول فيما وضع منه ابتداء فقط، والثاني فيما أحدث فيه بعد دور التكوين من تنظيم في التقسيم والتعريف والتعليل. قال ليتمان:
ص12
"اختلف الأورباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون ليس كذلك، وإنما كما تنبت الشجرة في أرضها كذلك نبت علم النحو عند العرب، وهذا هو الذي روي في كتب العرب من زمن، ونحن نذهب في هذه المسألة مذهبا وسطا.
وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق تعلموا أيضا شيئا من النحو(2)... وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف فيه، قال سيبويه: فالكلم: "اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فينقسم فيها الكلام إلى "اسم وكلمة ورباط" وهذه الكلمات ترجمت من اليوناني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات "اسم وفعل وحرف" فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت"(3).
تلك هي الأقوال الثلاثة، والمعول عليه منها الأول، إذ الثاني مجرد اختراص لا سر له إلا الولوع بالانتقاص للعرب، والثالث لا يناهض الأول فيما خالفه فيه فإنه غير مسلم أن يكون علماء العرب عيالا على غيرهم فيما يتصل بتنظيمه بعد اهتدائهم إلى اختراعه وابتكاره.
___________________________
(1) هذا غير صحيح لأن النحو السرياني هو بقايا من النحو العربي والكلداني والآشوري وكلها سابقة للحضارة اليونانية إضافة إلى أن اللغة اليونانية هي بنت الكنعانية الفينيقية العربية القديمة.
(2) إن صح هذا فمعناه أن بضاعة العرب ردّت إليهم.
(3) محاضرات ليتمان.