أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-10-2014
1725
التاريخ: 5-10-2014
1573
التاريخ: 5-10-2014
1461
التاريخ: 27-08-2015
1519
|
هكذا الأمر بشأن مِلك اليمين ، أقرّة الإسلام في ظاهر الحال ، ولكن قريناً مع تمهيدات تُزَعزع مِن دعائمه وتَجعله على شُرَف الانهيار .
جاء الإسلام ، والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم ، بل كان عُملةً اقتصاديّةً واجتماعيّةً مُتَداوَلة ، لا يَستنكرها أحد ، ولا يُفكّر في إمكان تغييرها أحد ؛ لذلك كان تغيير هذا النظام أو مَحوه أمراً يحتاج إلى تَدرّج شديد وزمن طويل ، وقد احتاج إبطال الخمر إلى بضع سنوات .
والخمر عادة شخصيّة قبل كلّ شيء ، وإنْ كانت ذات مظاهر اجتماعيّة ، وكان بعضُ العرب أنفسهم في الجاهليّة يتعفّفون عنها ، ويَرون فيها شرّاً لا يَليق بذوي النفوس العالية .
والرّقّ كان أعمق في كيان المجتمع ونفوس الأفراد ؛ لاشتماله على عوامل شخصيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ، ولم يكن أحد يَستنكره كما أسلفنا ، كذلك كان إبطاله في حاجة إلى زمن أطول ممّا تتَّسع له حياة الرسول ، وهي الفترة التي كان ينزل فيه الوحي بالتنظيم والتشريع ، فلو كان اللّه يعلم أنّ إبطال الخمر يكفي فيه إصدار تشريع ينفذ لساعته لَمَا حرّمها في بِضع سنوات ، ولو كان يعلم أنّ إبطال الرّقّ يكفي له مجرّد إصدار ( مرسوم ) بإلغائه لَمَا كان هناك سبب لتأخّر هذا المرسوم !
كان الرقيق في عُرف الرومان ـ وهم الأصل في استرقاق الأناسي ـ يُعدّ ( شيئاً ) لا ( بشراً ) ( شخصاً إنسانيّاً ) ! شيئاً لا حقوق له البتّة ـ كالبهائم والأمتعة ـ وإن كان عليه كلُّ ثقيل من الواجبات .
ولِنَعلم أوّلاً : مِن أين كان يأتي هذا الرقيق ؟ كان يأتي مِن طريق الغزو والنَهب والأسر ، ولم يكن الغزو لفكرة ولا لمبدأ ؛ وإنّما كان سببه الوحيد شَهوة الاستيلاء والاستثمار واستعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة المترفين ، فلكي يعيش الروماني عِيشة البَذَخ والترف ، يَسْتمتع بالحمّامات الباردة والساخنة ، والثياب الفاخرة ، وأطايب الطعام مِن كلّ لون ، ويَغرق في المَتاع الفاجر مِن خمر ونساء ورقص وحفلات ومَهرجانات ، كان لابدّ لكلّ هذا من استعباد الشعوب الأُخرى وامتصاص دمائها في سبيل هذه الشهوة الفاجرة ، كان الاستعمار الروماني ، وكان الرّقّ الذي نشأ من ذلك الاستعمار .
أمّا الرقيق فقد كانوا ـ كما ذكرنا ـ أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر ، كانوا يَعملون في الحقول وهم مصفَّدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم مِن الفِرار ، ولم يكونوا يُطعَمون إلاّ إبقاءً على وجودهم ؛ ليعملوا ، لا لأنّ مِن حقّهم ـ حتّى كالبهائم والأشجار ـ أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء ، وكانوا ـ في أثناء العمل ـ يُساقون بالسوط ، لغير شيء إلاّ اللذّة الفاجرة التي يَحسبها السيّد أو وكيله في تعذيب المخلوقات ، ثُمَّ كانوا ينامون في ( زنزانات ) مُظلمة كريهة الرائحة تَعيث فيها الحشرات والفئران ، فيُلقَون فيها عشرات عشرات قد يَبلغون خمسين في الزنزانة الواحدة ـ بأصفادهم ـ فلا يُتاح لهم حتّى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات .
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني ، ولا نحتاج أنْ نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ ، وعن حق السيّد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أنْ يكون له حقّ الشكوى ، ودون أن تكون هناك جِهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها ، فذلك لغو بعد كلّ الذي سردناه .
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها تختلف كثيراً عمّا ذكرنا ، من حيث إهدار إنسانيّة الرقيق إهداراً كاملاً ، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقّاً مقابلها ، وإنْ كانت تختلف فيما بينها ( الرومان والفرس والهند ) قليلاً أو كثيراً في مدى قَسوتها وبَشاعتها .
وإذا كان هذا شأن الرقيق في بلاد متحضّرة ، فكيف يا تُرى شأنه في أوساط متأخّرة ، في مثل الجزيرة المتوغّلة في جهالة العَماء والغيّ والفساد ، كان يعيش أحدهم على حساب دمار الآخرين وكان ذلك مَفخراً لهم ، يقول أحدهم :
أَبـحـنا حـيَّهم قـتلاً iiوأسـراً عدى الشَّمطاء والطفل الصغير !
وكفى لشناعة حالتهم الاجتماعيّة ، وأد البنات (1) وقتل الأولاد مخافةَ الإملاق (2) ، وأشنع من الجميع : التعيّش على حساب بِغَاء الفتيات (3) .
ففي مثل هذا المجتمع الذي يعيش الأسياد على حساب إكراه الفتيات ( الأرقّاء ) على البِغَاء وارتكاب الفحشاء ، جاء الإسلام ليُكافح ، فمن أين يُكافح ، وكيف يكافح ؟
جاء الإسلام ليرّد لهؤلاء البشر إنسانيّتهم المُغتَصَبة مُنذ عهد سحيق !
جاء ليقول للسّادة عن الرقيق : أنتم وهم سواء {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (4) ، وقال يوم الفتح
بمكّة : ( أيّها النّاس ، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عُبْيَةَ الجاهليّة (5) وتعاظمها بآبائها ، فالناس رجلان: بَرٌّ تقيٌّ ، كريم على اللّه ، وفاجر شقيٌّ ، هيّن على اللّه ، والناسُ بنو آدم ، وخَلَق اللّه آدم من تراب ، قال اللّه ) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (6).
ومعنى ذلك أنّ الناس كلّهم ـ الأسياد والعبيد ـ إخوة مِن وِلد أبٍ واحد وأُمّ واحدة ، ولا فضل فيمَن أصله مِن تُراب إلاّ بالأحساب .
جاء في رسالة الحقوق التي بعثها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى بعض أصحابه : ( وأمّا حقّ مَملوكك فأنْ تَعلم أنّه خَلقُ ربّك وابنُ أبيك وأُمّك ولحمك ودمك ... ) (7) .
وفي ذلك فَرضُ الأُخوّة ـ الأصيلة ـ بين السيّد وعبده المملوك له ، الأمر الذي له يكن يُطيقه مَنطق البشريّة آنذاك ، لكن الإسلام فرضه فرضَ حتمٍ .
جاء في مسائل على بن جعفر عن أخيه موسى ( عليه السلام ) : الرجل يقول لمملوكه : يا أخي و يا بني ، أيَصلح ذلك ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا بأس ) (8) ، أي لا حَزازَة بعد فرض المساواة في أصل النسب !
وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم : ( لا يَقل أحدكم : هذا عبدي وهذه أَمَتي ، وليقل : فتاي وفتاتي ) (9) ، وعلى ذلك يستند أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يَجري : ( احمله خلفك ، فإنّه أخوك وروحه مثل روحك ) (10) .
وقد فرض الإسلام على السّادة أن يُساووا بين أنفسهم والعبيد من غير أنْ يتفاضلوا عليهم.
قال المعرور بن سويد الأسدي الكوفي ـ من كبار التابعين ـ : دخلنا على أبي ذرّ بالرّبذة ، فإذا عليه بُرد ، وعلى غلامه مثله ، فقلنا : لو أخذت بُرد غلامِك إلى بُردك ، كانت حلّةً ، وكسوتَه ثوباً غيره ! قال : سمعت رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) يقول : ( إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمَن كان أخوه تحت يده ، فليُطعمه ممّا يأكل ، وليُكسِه ممّا يلبس ، ولا يُكلّفه ما يَغلبه ، فإن كلّفه ما يَغلبه فليُعِنه ) (11) .
وروى إبراهيم بن مُحمّد الثقفي في كتاب الغارات بإسناده إلى مختار التمّار قال: أتى أميرُ المؤمنين ( عليه السلام ) سُوقَ الكرابيس ، فاشترى ثوبَينِ أحدهما بثلاثة دراهم ، والآخر بدرهمين ، فقال : ( يا قنبر ، خُذ الذي بثلاثة ! قال : أنت أولى به يا أميرَ المؤمنين ، تَصعد المِنبر وتَخطب الناس ، قال : يا قنبر ، أنت شابّ ولك شَرَه الشباب ، وأنا أستحيي مِن ربّي أنْ أتفضّل عليك ، لأنّي سمعت رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) يقول : أَلبسوهم ممّا تلبسون ، وأطعموهم ممّا تأكلون ) (12) .
وكان مِن مكارم أخلاقه ( صلّى اللّه عليه وآله ) الأكل مع العبيد ، وليكون سُنّة مِن بعده ، أي التنازل مع الأرقّاء ، لغرض الترفّع بهم (13) ، وكان يُجيب دعوة المملوك على خُبز الشعير ، ولا يترفّع عليه (14) .
وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى ابنه الحسن : ( وأُحسِن للمماليك الأدبَ ... ) (15) .
وهكذا كان يفعل ذرّيّته الأطياب : كان الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) إذا خلا جَمَعَ حشمَه كلَّهم الصغير والكبير ، فيحدّثهم ويأنس بهم ويُؤنِسُهم ، وكان إذا جَلس على المائدة لا يَدع صغيراً ولا كبيراً حتّى السائس والحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته (16) .
وفي حديث آخر : كان إذا خلا و نُصبت مائدته ، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه ، حتّى البوّاب والسائس (17) .
ومِن هنالك لم يَعد الرقيق شيئاً ـ كما حَسبه الرومان ـ وإنّما صار بشراً له روح كروح السّادة ، وقد رفعه الإسلام إلى مستوى الأُخوّة الكريمة ، لا في عالم المثال والأحلام فحسب ، بل في عالم الواقع كذلك .
* * *
وكان ( صلّى اللّه عليه وآله ) يُشدّد النكير على مَن أساء بعبده ويُؤكّد على وجوب الرِفق معهم ، قال رسول الله : ( أَلا أُنبِّئكم بشرِّ الناس : مَن سَافَر وَحَده ، وَمَنع رِفَده ، وضَرَب عبدَه ) (18) .
قال أبو مسعود الأنصاري : كنتُ أضرب غلاماً ، فسَمَّعني مَن خلفي صوتاً : ( اعلم أبا مسعود ، اعلم أبا مسعود ، إنّ الله أَقدرُ عليك مِنكَ عليه ) ، فالتفتُّ فإذا هو النبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) فقلتُ : يا رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) هو حرّ لوجه الله ، ( أَما لو لم تَفعل لَلَفَعَتكَ النارُ ) (19) .
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( مَن افترى على مَملوكٍ عُزّر ، لحُرمة الإسلام ) (20) .
وروى قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( مَن قَتل عبدَه قتلناه ، ومَن جَدع عبدَه جدعناه ، ومَن أخصى عبدَه أخصيناه ) (21) .
وروى الشيخ بإسناده الصحيح إلى السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي ( عليهم السلام ) ( أنّه قتل حرّاً بعبدٍ قتله عمداً ) (22) .
وروى أنّ علي بن الحسين ( عليه السلام ) ضَرَب مَملوكاً ثُمّ دخل إلى مَنزله فأخرج السوطَ ، ثُمّ تجرّد له ، قال : ( اجلد عليَّ بن الحسين فأبى ، فأعطاه خمسين ديناراً ) (23) .
وبذلك قد أصبح الرقيق كائناً إنسانيّاً له كرامة يَحميها القانون ، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل ، فأمّا القول فقد نهى الرسول السّادة عن تذكير أرقّائهم بأنّهم أرقّاء وأمرهم أنْ يُخاطبوهم بما يُشعرهم بمودّة الأهل ، وينفي عنهم صفة العبوديّة ، وقال لهم في معرض هذا التوجيه : ( إنّ الله ملّككم إيّاهم ، ولو شاء لملّكهم إيّاكم ) (24) ، فهي إذن مجرّد مُلابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً ، وكان من الممكن أن يكونوا سادةً لمَن هم اليوم سادة ! وبذلك يَغضّ من كبرياء هؤلاء ، ويَردّهم إلى الآصرة البشريّة التي تربطهم جميعاً ، والمودّة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض .
وأمّا الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل ، ( مَن افترى على مَملوك عزّر.. ) و ( مَن جَدَع عبدَه جدعناه... ) ، وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانيّة الكاملة بين الرقيق والسّادة ، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة مِن البشر ـ التي لا يُخرجها وضعُها العارض عن صفتها البشريّة الأصيلة ـ وهي ضمانات كاملة ووافية ، تبلغ حدّاً عجيباً لم يصل إليه قطّ تشريع آخر من تشريعات الرقيق في التأريخ كلّه ، لا قبل الإسلام ولا بعده ، إذ جعل مجرّد ضرب العبد ـ في غير التأديب ـ (25) مُبرِّراً قانونيّاً لتحرير الرقيق !! (26) .
بل وَرَفع مِن مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة ـ وهي أفضل عبادات الإسلام ـ ، جاء في ( قرب الإسناد ) للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ ( عليهم السلام ) قال : ( لا بأس بأن يَؤمّ المملوك إذا كان قارئاً ) (27) .
وليكون ذلك دليلاً على صلاحيّتهم لتصدّي جميع المناصب الرسميّة وغير الرسميّة في النظام الإسلامي وأن لا فَرق بينهم وبين الأحرار في ذات الأمر ، وهذا مِن المساواة في أفخم وأضخم شكلها المعقول ؛ ولذلك نرى الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) قد أَمّر زيداً مولاه على رأس جيش فيه كِبار الأنصار والمهاجرين ، فلمّا قُتل زيد ولّى ابنه أسامة قيادة الجيش وفيهم أبو بكر وعمر فلم يُعطِ الرقيق بذلك مجرّد المساواة الإنسانيّة ، بل أعطاه حقّ القيادة والرئاسة على الأحرار ، فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها .
وقد وصل الإسلام في حُسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ، حتى ولقد آخى الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) بين بعض العبيد وبعض أكابر الأصحاب من سادة العرب ، فآخى بين بلال بن رباح وأبي رويحة الخثعمي ، وبين مولاه زيد وعمّه حمزة (28) ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم والنسب .
كما وزوّج بنت عمته زينب بنت جحش مِن مولاه زيد ، والزواج مسألة حسّاسة جدّاً وخاصّة من جانب المرأة ، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحَسب والنَسب والثراء ، وتحسّ أنّ هذا يحطّ مِن شأنها ويغضّ من كبريائها ، ولكن الرسول كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك ، وهو رفع الرقيق من الوَهدَة التي دفعته إليها البشريّة الظالمة ، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش .
* * *
كلّ ذلك هي خَطرات واسعة لتحرير الرقيق روحيّاً بردّه إلى الإنسانيّة ، ومعاملته على أنّه بشر كريم ، لا يَفترق عن السادة مِن حيث الأصل ، وإنّما هي ظروف عارضة حدَّت مِن الحريّة الخارجيّة للرقيق في التعامل المُباشر مع المجتمع ، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كلّ حقوق الآدميّين .
ولكن الإسلام لم يكن ليَكتفي بهذا المقدار ؛ لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر ، وهي التحرير الكامل لكلّ بشرٍ ! وكلّ الذي تقدّم كان تمهيداً للبلوغ إلى هذه الغاية ، والتي كان النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) يترقّبها ، إمّا في حال حياته أو فيما بعد ، ترقّباً غير بعيد .
قال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( ما زالَ جبرائيل يُوصيني بالمَماليك حتّى ظننتُ أنّه سَيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا ) (29) .
وبالفعل جَعل وسيلتَينِ كبيرتَينِ : هما العِتق والكتابة إلى التحرّر التامّ ، هذا فضلاً عن رفضٍ مطلقٍ لأسباب الاسترقاق ـ والتي كانت متفشّية وعن طُرق معادية ـ والنهب والأسر والإغارة الغاشمة ، كان الإسلام يَرفضها رفضاً باتّاً ؛ وبذلك انسدّ ـ شرعيّاً ـ باب الاسترقاق نهائياً منذ ذلك الحين .
ويَكفيك نموذجاً عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي ، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي تبنّاه الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله ) :
كانت أمّه سُعدى بنت ثعلبة من بني معن مِن طيء ، أرادت أنْ تزور قومَها فاصطحبت ابنها زيداً وهو لم يَبلغ الثمانية من عمره ، فما أنْ وردت القوم إلاّ وأغارت عليهم خيلُ بني القين ، فنهبوا وسلبوا وأسروا ، ومِن جملة الأُسارى زيد ، فقَدِموا به سوق عكاظ ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، فوهبته خديجة للنبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) بمكّة قبل البعثة ، وكان زيد قد بلغ الثمانية .
وكان أبوه قد وَجَدَ لفَقدِه وَجدَاً شديداً ، قال فيه :
بـكيتُ عـلى زيـدٍ ولم أدرِ ما iiفعل أحـيٌّ يُـرجّى أم أتـى دونه iiالأجلُ
فـو الله مـا أدري وإن كـنتُ iiسائلاً أَغـالَكَ سهلُ الأرضِ أَم غالَك iiالجبلُ
فـيا ليتَ شِعري هل لك الدهر iiرجعة فَـحسبي مِن الدنيا رُجوعُك لي iiعللُ
تُـذكرنِيه الـشمسُ عـند iiطـلوعِها ويَـعرض ذِكـراه إذا قـاربَ iiالطفلُ
وإنْ هـبّتْ الأرواحُ هـيّجنّ iiذِكـره فـياطول مـا حـزّني عليه ويا وجلُ
سأعملُ نصّ العيش في الأرض جاهدا ولا أسـأم الـتَطواف أو تـسأم iiالإبلُ
حـيـاتي أو تـأتـي عـليّ مـنيّتي وكـلّ امـرئ فـانٍ وإنْ غرّه iiالأملُ
... إلى آخر أبيات له تُنبؤك عن شديد حُزنه الذي لم يَزل يُكابده ...
ثمّ إنّ أُناساً مِن كلب ( قوم زيد ) حجّوا فرأَوا زيداً فعرفهم وعرفوه وقال لهم : أبلغوا عنّي أهلي هذه الأبيات ، فإنّي أعلم أنّهم جَزَعوا عليّ فقال :
أَحـنّ إلـى قـومي وإنْ كنتُ نائياً فـإنّي قـعيدُ الـبيت عندَ iiالمشاعرِ فـكفّوا مِـن الوَجد الذي قد شَجاكُمُ ولا تعملوا في الأرض نصّ الأباعرِ فـإنّي بـحمدِ الله فـي خير أُسرةٍ كـرامٍ مـعدٍّ كـابراً بـعد iiكـابرِ |
فانطلق الكلبيّون فأَعلَموا أباه ووصفوا له موضَعه وعند مَن هو ، فخرج حارثة وأخوه كعب لفدائه فَقَدِما مكّة فدخلا على النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فقالا : يا ابن عبد المطّلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن سيّد قومه ، جئناك في ابننا عندك فامنُن علينا وأَحسِن إلينا في فدائه ! فقال : ( مَن هو ) ؟ قالا : زيد بن حارثة ، فدعاه وخيّره فاختار البقاء في كَنَف رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) ورضيا بذلك .
وكان ( صلّى اللّه عليه وآله ) قد عَزم على تبنّيه ، فتبنّاه على ملأ مِن قريش ، فأصبح مولاه عن رضا نفسه (30) .
فيا تُرى هل مِن المعقول أنّ شريعةً ـ كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانيّة ـ تُقرّر مِن رقّيّةٍ مِثل زيد ، بهذا الشكل الفضيع المشجي الذي تَمجّه النفوس الأبيّة فضلاً عن العقول الحكيمة ؟!
كلاّ ، لا يُقرّره أبداً ، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة ، دين الإنسانيّة المُتحرّرة ، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر ، ويُحلّ لهم الطيّبات ويُحرّم لهم الخبائث ويَضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (31) .
قالوا :
وهنا يَخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر : إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخُطوات كلّها نحو تحرير الرقيق ، وَسَبق بها العالم كلّها مُتطوِّعاً غير مُضطرّ ولا مضغوط عليه ، فلماذا لم يَخطُ الخُطوة الحاسمة الباقية ؟ فيُعلن في صراحة كاملة إلغاء الرّقّ مِن حيث المبدأ ، وبذلك يكون قد أسدى للبشريّة خدمةً لا تُقدّر ، ويكون هو النظام الأكمل الذي لا شُبهةَ فيه ، والجدير حقّاً بأن يصدر عن الله الذي كرّم بني آدم ، وفضّلهم على كثير ممّن خلق ؟! (32) .
قلت : ليس يخفى على ذوي اللّبّ أنّ الإسلام قد جفّف منابع الرّقّ كلّها ـ كما
ذَكَرنا ـ فيما عدا مَنبعاً واحداً لم يكن مِن المصلحة تجفيفُه آنذاك ، وذلك هو رقّ الحرب ؛ لملابسات سوف نَذكُرُها ، وعليه فقد أعلن ـ لكن في غير صراحة ـ إلغاء نظام الرّقّ مِن حيث المبدأ ، وإن كان التشديد عليه بحاجة إلى توفّر شرائط لم تكن مؤاتية حينذاك ، كما أشرنا إليه وسنشير .
وينبغي أنْ نُدرك حقائق اجتماعيّة وسيكولوجيّة وسياسيّة أحاطت بموضوع الرّقّ ، وأخّرت هذا الإعلان ( الصريح ) المُرتَقب ، وإن كان يَنبغي أنْ نُدرك أنّه تأخّر في الواقع كثيراً جدّاً عمّا أراد له الإسلام ، وعمّا كان يُمكن أنْ يَحدث لو سار الإسلام في طريقه الحقّ ، ولم تُفسده الشهوات والانحرافات .
يجب أنْ نذكر أَوّلاً أنّ الإسلام جاء والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم كما أسلفنا ، وكان إبطاله في حاجة إلى زمن ، ويكفي الإسلام على أيّ حال أنْ يكون هو الذي بدأ حركة التحرير في العالم ، وأنّه في الواقع جفّف منابع الرّقّ القديمة ، لولا مَنبع جديد ظلّ يَفيض بالرّقّ من كلّ مكان ، ولم يكن بوِسع الإسلام يومئذٍ القضاء عليه ؛ لأنّه لا يَتعلّق به وحده ، وإنّما يَتعلّق بأعدائه الذين ليس له عليهم سلطان ، ذلك هو رقّ الحرب .
فقد كان العرف السائد يومئذٍ هو استرقاق أسرى الحرب أو قَتلَهم ، وكان هذا العرف قديماً جدّاً مُوغلاً في ظُلمات التأريخ يَكاد يرجع إلى الإنسان الأَوّل ، ولكنّه ظلّ مُلازماً للإنسانيّة في شتّى أطوارها .
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال ، ووقعت بينه وبين أعدائه الحروب ، فكان الأسرى المسلمون يُستَرَقَّون عند أعداء الإسلام ، فتُسلب حرّياتهم ، ويُعامل الرجال منهم بالعَسْفِ والظلم الذي كان يومئذٍ يجري على الرقيق ، وتُنتَهك أعراض النساء ... عندئذٍ لم يكن في وِسع الإسلام أنْ يُطلق سَراح مَن يقع في يده مِن أسرى الأعداء ، فليس مِن حُسن السياسة أنْ تُشجّع عدوّك عليك بإطلاق أَسراه ، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامُون الخَسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء ، والمعاملة بالمِثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه ، أو هي القانون الوحيد .
وممّا هو جدير بالإشارة هنا أنّ الآية الوحيدة الّتي تعرّضت لأَسرى الحرب ، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] ، لم تَذكر الاسترقاق للأسرى ، حتّى لا يكون هذا تشريعاً دائماً للبشريّة ، وإنّما ذَكرت الفِداء أو إطلاق السَّراح بلا مقابل ؛ لأنّ هذا وذاك هما القانونان الدائمان ، اللّذان يريد القرآن للبشريّة أن تَقصُر عليها معاملتها للأسرى في المستقبل القريب أو البعيد ؛ وإنّما أخذ المسلمون بمبدأ الاسترقاق ، خضوعاً لضَرورة قاهرة لا فكاك منها ، وليس خضوعاً لنصٍّ في التشريع الإسلامي .
إذن فلم يَلجأ الإسلام إلى هذا الطريق ، ولم يَسترقّ الأسرى لمُجرّد اعتبارِهِ أنّهم ناقصون في آدميّتهم ؛ وإنّما لجأ إلى المعاملة بالمِثل فَحَسب ، فعلّق استرقاقه للأسرى على اتّفاق الدول المُتحاربة على مبدأ آخر غير الاسترقاق ، ليَضمن فقط ألاّ يقع الأسرى المسلمون في ذلّ الرّقّ بغير مقابل .
ومع هذا فلم يَكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى ، فحيثما أَمِن لم يسترقّهم ، وقد أطلق الرسول بعضَ الأسرى بِلا فِداء ، كما وأخذ مِن نصارى نجران جزيةً وردّ إليهم أسراهم ولم يَعهد أنّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) استرقّ الأسرى ـ كما كان عليه عُرف ذلك اليوم ـ وليَضرب بذلك المَثل لما يُريد أن تهتدي إليه البشريّة في مستقبلها ، حين تتخلّص مِن وراثاتها الكريهة ، وتستطيع أنْ تستعيد إلى حظيرتها أصالتها الكريمة .
__________________________________
10. إحياء علوم الدين ، للغزالي ، ج 2 ، ص 220 .
11. بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 141 ، رقم 11 .
12. المصدر : ص 143 ـ 144 ، رقم 19 .
13. المصدر : ص 140 .
14. المصدر : ج 16 ، ص 199 و 222 ، رقم 19 .
15. المصدر : ج 74 ، ص 216 و 233 .
16. عيون أخبار الرضا للصدوق ، ج 2 ، ص 157 ، باب 40 ، رقم 24 .
17. المصدر : ج 2 ، ص 183 ، باب 44 ، رقم 7 .
18. بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 141 .
19. المصدر : ص 142 .
20. المصدر : ج 76 ، ص 119 ، رقم 15 .
ومِن الأئمّة الأربعة ذهب أبو حنيفة لوحده إلى الاقتصاص ؛ للعموم ولأنّ المسلمين تتكافأ دماؤهم ، النسائي ، ج 8 ، ص 18 ، والفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ، ص 287 ـ 288 .
22. تهذيب الأحكام ، ج 10 ، ص 192 ، رقم 757 ، والاستبصار ، ج 4 ، ص 273 ، رقم 1035 ، ووسائل الشيعة ، ج 29 ، ص 98 ، رقم 9 ، وحمله الشيخ على مُتعوّد القتل ، وفي الخلاف ( ج 2 ، ص 342 ) كتاب الجنايات ، مسألة 4 : لا يُقتل حرّ بعبد ، وذلك إجماع الأصحاب .
23. بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 143 ، رقم 16 .
24. ذكره أبو حامد الغزالي في كتاب ( إحياء علوم الدين ) ( ج 2 ، ص 219 ) في الكلام عن حقوق المَملوك ، وراجع : المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني ، ج 3 ، ص 444 .
25. وللتأديب حدود مَرسومة لا يتعدّاها ، ولا يتجاوز على أيّ حالٍ ما يؤدّب السيّد أبناءه .
قال زرارة بن أعين : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أصلحك الله ، ما ترى في ضَرب المَملوك ؟ قال : ( ما أتى فيه على يديه ـ أي من غير تقصير ـ فلا شيء عليه ، وأمّا ما عصاك فيه فلا بأس ) ، فقلت : كم أضربه ؟ قال : ( ثلاثة ، أربعة ، خمسة ) ، رواه البرقي في المحاسن ، ج 2 ، ص 465 ، باب 11 ، رقم 2613/ 86 ، والبحار ، ج 71 ، ص 141 ، رقم 10 .
26. قال أبو جعفر الباقر ( عليه السلام ) : ( إنّ أبي ( علي بن الحسين ( عليه السلام ) ضَرب غُلاماً له قَرعةً واحدةً بسوطٍ وكان بَعثه في حاجة فأبطأ عليه ، فبكى الغلام وقال : الله يا علي بن الحسين ، تَبعثني في حاجتك ثُمّ تضربني ؟ قال: فبكى أبي وقال [ لي ]: يا بُنيّ ، اذهب إلى قبر رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) فصل ركعتين ثمّ قل : اللّهم اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين . ثمّ قال للغلام : اذهب ، فأنت حرّ لوجه الله ) ، قال أبو بصير : فقلت له : جُعلت فداك ، كان العتق كفّارة الضرب ؟ فسكت ! البحار ، ج 71 ، ص 142 ، رقم 12 .
وكان رجل من بني فهد يَضرب عبداً له وهو يَستعيذ بالله ولم يُقلع عنه حتّى إذا أبصر رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) استعاذ به فأقلع عنه ، فقال له النبي : ( يتعوّذ بالله فلا تُعيذه ، ويتعوّذ بمُحمّد فتُعيذه ؟! والله أحقّ أن يُجار عائذه مِن مُحمّد ! فقال الرجل : هو حرّ لوجه الله ، فقال النبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) : والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لو لم تُعتقه لسَفَعَتْ وجهَك حرّ النار ) ، بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 143 ، رقم 15 ، وإحياء علوم الدين ، ج2 ، ص 220 ) .
وقال الزهري : متى قلتَ لمَملوكِك : أخزاك الله ، فهو حرّ ، المصدر : ج 2 ، ص 220 . والآثار من هذا القبيل كثير.
27. بحار الأنوار ، ج 85 ، ص 43 ، نقلاً عن قرب الإسناد ، ص95 ، ط نجف ، وللمجلسي هنا (45) بيان وافٍ .
28. راجع: السيرة لابن هشام، ج 2 ، ص 151 ـ 153 .
29. أورده الصدوق في الأمالي ، المجلس السادس والستون ، ص 384 ، وفي كتابه ( مَن لا يحضره الفقيه ) ، ج 4 ، ص 7 .
30. راجع : تمام القصّة في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة زيد ، ج 2 ، ص 224 ـ 225 .
31. من الآية ( 157) من سورة الأعراف .
32. سؤال طرحه سيد قطب و أجاب عليها بما جاء مُلخَّصاً هنا ، ( شبهات حول الإسلام ، ص 39 ) .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|