الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
حازم القرطاجّني
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص249-255
24-7-2016
3698
هو من أفذاذ علماء الأندلس و أدبائها، رزق به أبوه محمد بن الحسن الأوسي الأنصاري قاضى قرطاجنة سنة 6٠٨ للهجرة، و عنى بتربيته فحفظ القرآن الكريم، و شبّ فأخذ يتلقى الآداب و العلوم في بلدته الواقعة على البحر المتوسط في الجنوب الشرقي للأندلس، و رحل منها إلى مدينة مرسية ليأخذ عن شيوخها، و مدّ رحلاته غربا إلى إشبيلية و لزم حلقات أستاذه الشلوبين بها مدة، و كانت فيه نزعة إلى الفلسفة فأوصاه بقراءة كتب ابن رشد، و لعل اطلاعه على تلخيصه لكتابي الخطابة و الشعر لأرسططاليس هو الذي وصله بالثقافة اليونانية النقدية مما يتضح أثره في كتابه منهاج البلغاء. و هاجر في أواخر العقد الثالث من حياته إلى مراكش لعهد الرشيد الموحدي و له فيه أمداح و نال منه صلات سنية. و أحسّ أن سلطان الموحدين يوشك على نهايته و أن لا أمل في دفعهم لمنازلة نصارى الشمال، فاتجه-مثل كثيرين من معاصريه الأندلسيين-إلى أبي زكريا الحفصي صاحب تونس، فعرف له فضله و قرّبه، و توفي فقرّ به منه ابنه المستنصر (64٧-6٧5 ه) و وظفه في دواوينه، و اتخذ تونس موطنا له حتى وفاته سنة 6٨4. و ذاع صيته فقصده طلاب العلم من كل مكان، فكان وقته موزعا بين العمل في ديوان المستنصر و بين محاضراته للطلاب و التأليف و نظم الشعر. و عنى الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة بالحديث عن شعره في مقدمته لكتابه منهاج البلغاء ملاحظا أنه يتناول في المقاطيع المأثورة له موضوعات الزهد و وصف الطبيعة و الخمر و النسيب و أنه قد يتصنع لذكر بعض المصطلحات العلمية في شعره أو لذكر بعض المحسنات البديعية. و يذكر له قصيدة و مقطوعة في رثاء الحسين ، كما يذكر له طائفة من المدائح في أبي زكريا الحفصي و ابنه المستنصر، و يذكر له مدحة في الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و سلم ضمنها أعجاز معلقة امرئ القيس على نحو ما يقول في فاتحتها:
لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
و أهم مدائحه مقصورته التي مدح بها المستنصر. و حاول الإسهام في صنع مختصر شعري للنحو على نحو ما نرى في ميميته النحوية التي نظمها من وزن البسيط و هي في مائتي بيت و تسعة عشر، و هو يستهلها بإطراء المستنصر الحفصي لإكرامه الوافدين على عاصمته من الأندلس، و يشيد بعدله و حسن سياسته و انتصاراته على أعدائه، ثم يأخذ في عرض المختصر الشعري للنحو، و يعرض فيه طائفة من مباحثه بادئا بتعريف النحو و الكلام و تقسيمه إلى اسم و فعل و حرف ثم يذكر أحكام الإعراب و البناء و العوامل و الفعل و أحكامه و نواصب الأفعال و نواصب الأسماء و النداء و الاستثناء و الخفض و أحرف النصب و علامات الإعراب و الابتداء و عنده تتوقف القصيدة. و كأنه كان يريد أن يصنع ألفية مثل ألفية ابن مالك و وجد الطريق شاقا فانصرف عنه. و أروع قصائد حازم الشعرية-دون ريب-مقصورته التي مدح بها المستنصر، و هي أرجوزة طويلة بل مسرفة في الطول، إذ تبلغ ألف بيت و ستة، و قد استهلها بالغزل منشدا:
للّه ما قد هجت يا يوم النّوى على فؤادي من تباريح الجوى
و يطيل في غزله إلى خمسين بيتا ناسجا في أبياته أكثر المعاني التي ألمّ بها الغزلون من الحديث عن جمال صواحبهن و تصوير لحظات الفراق و التألم من الوشاة و ما يثير في نفوسهم هديل الحمام من شجى. و يتحول إلى مديح أسلاف المستنصر و مديحه في مائة و عشرين بيتا ذاكرا انتسابه إلى الفاروق عمر بن الخطاب، و هو انتساب يسمو إلى أعلى مرتقى، و ينشد:
مستنصر باللّه منصور به مؤيّد بعونه على العدا
ملك حكى ملك سليمان الذي لم يتّجه لغيره و لا ابتغى
و يشيد بعاصمة تونس و يشبهها بجنّة الخلد كما يشبه قناتي المياه اللتين تحملانه من جبل زغوان إلى تونس و اللتين جددهما المستنصر، بنهرين كبيرين، و كأن كل قناة إنما هي نفس الكوثر: نهر الفردوس. و يطيل في وصف جنات أبي فهر و القصبة بتونس، و يتحدث عن بأس المستنصر و خيله و جيشه و فتكه بأعدائه، و يقول إنه ليث كفاح و غيث سماح و بحر جود فياض، قد طابت به الأيام، و يعدد فواضله عليه و مآثره منشدا:
بلغت آراب المنى في دولة أولت يدى أسنى الأيادي و اللّها (1)
و الدّهر عيد و الليالي عرس و الدّهر أحلام كأحلام الكرى (2)
و كأنما تهيج تونس بمباهجها في نفسه الذكرى لمرابع شبابه و مراتع لهوه، و يتغنى بالحب، و يصف الكواكب و الشهب كما يصف لهوه و متاعه بالصيد، و كل ذلك في نحو ثلاثين بيتا.
و يعود بذاكرته إلى ماضيه متحدثا في نحو ثلاثمائة بيت عن المدن التي نهبها النصارى و التي كانت تكتظ بالعلماء و السادة الأعلام، مصوّرا كم نعم فيها مع خلاّنه من الشباب متنقّلين بين قصور و جسور على شواطئ الأنهار و قرى و ربى و مروج و بطاح، و يتغنى بمشاهد مدينة مرسية و نسائها الجميلات و كأنما يصف فردوسا مفقودا كان ملء عينيه و سمعه و قلبه، و من قوله:
نصيف من مرسية بمنزل ضفا به الدّوح على ماء صفا (3)
نقطع دنيانا بوصل الأنس في مغتبق في روضه و مغتدى (4)
و تتناجى بالمنى أنفسنا حيث تداعى الطّير منها و انتجى (5)
تقسّم الناس بها قسمين من بين خلىّ قلبه و مصطبى (6)
إذا اجتنى زهر الجمال وامق فيها اجتنى خلو بها زهر الرّبى (7)
و كم أغان كنظيم الدّرّ في تلك المغانى قد وشاها من وشى (8)
و كم حديث كنثير الزّهر في تلك المبانى قد حكاه من حكى
و هذه خطوط من اللوحة الباهرة التي رسم فيها مرسية و جناتها العطرة و نجوى الشباب هناك بالمنى في أنس موصول، و الناس قسمان محب وقع في شرك الهوى و خال منه يوشك أن يقع فيه، و بينما يجتنى المحبّ أزهار حبه من النظر أو من القبل يجتنى الخلىّ من مشاهد الطبيعة الخلابة، و الناس هناك كأنما لا يقضون أياما، بل يقضون أعيادا تكتظ بالغناء و الموسيقى و بأحلى سمر تهواه الأفئدة. و يطيل حازم في رسم تلك اللوحة و وصف كل ما وقف به من عشرات الأماكن التي كانت تلتقى فيها الأرواح و الأدواح، حتى إذا ودّع تلك الجنان ارتسمت في خياله قرطاجنة و خليجها و نزهاته مع صحبه في فلكها، متساقين فيها كؤوس الأنس في حدائق، منتشين فيها بأكؤس الأحداق و العيون الساحرة.
و يرسم للأماكن فيها لوحة لا تقل فتنة و جمالا عن لوحة مرسية. و يطيل في وصف حدائقها و أزهارها من بنفسج و سوسن و ورد و شقيق و خيرىّ و نرجس و ياسمين، و يصف كل ما يطوف بها من جبال و رياض و منازل أو مغان يقول من يراها تفديها مغاني الشّعب: شعب بوّان التي تغنى بها المتنبي، و يدعو لها بالسقيا و يندب جدّها العاثر و ما عفا فيها و في أخواتها من رسوم الهدى و معاهد الدين الحنيف. و قد استغرق ذلك كله من حازم نحو ثلاثمائة بيت، و كأنما أراد بما صور من تلك الفراديس أن يستثير المستنصر ليحاول إنقاذ الأندلس و يسترجع ما ضاع منها. و يشبب بمحبوبة له هناك باعدت بينه و بينها الأيام، و كأنما يتخذ من حبها الذي ضاع رمزا للأندلس الضائعة. و يلم بمديح المستنصر و كأنما استرد بإكرامه له شيئا مما ضاع منه. و يتحدث في نحو مائتي بيت عن هجرته من الأندلس إلى تونس و ما لقى فيها من المتاعب و المشاق التي احتملها في جلد و صبر، و يفكر في شؤون الحياة و في نفسه و خصاله و تسيل على لسانه عشرات من الحكم من مثل قوله:
ما أحدثت حادثة لي روعة و لا اعتراني جزع لما اعترى
و العيش طورا مشتهى مستمرأ و تارة مستوبل و مجتوى
و العيش محبوب إلى كل امرئ لا فرق بين الشيخ فيه و الفتى
قد يدرك الحاجة من لم يسع في طلابها و قد تفوت من سعى
إنّ احتياط المرء في أفعاله رأى يؤدّيه إلى سبل الهدى
و يطيل في الكلام عمن ضلوا نهج الرشد فكان في ذلك هلاكهم ممن تحدث عنهم التاريخ الجاهلي من مثل قصة النعمان و قتله لعدى بن زيد تسرعا، و قصة زرقاء اليمامة و تكذيب قومها لها حين حذرتهم أن جيشا قادما و لم يصدقوها فكان في ذلك حتفهم، و قصة الزبّاء في حصنها و كانت أمنع من عقاب في أعلى ذروة شاهقة، و كانت قد احتالت على جذيمة ملك الحيرة قاتل أبيها فقدم عليها و قتلته، و خلفه ابن أخته عمرو بن عدى، فدسّ لها أحد أتباعه، فجدع لها أنفه و شكا إليها عمرا فوثقت به و وعدها أن يفد عليها بتجارة كبيرة محملة على إبل كثيرة. و عاد مع إبل تحمل رجالا في جواليق أو صناديق، و فتحت له الحصن و هي تظنه يحمل بعض عروض التجارة، و دخلت الإبل و لفتها أنها تمشى مثقلة كأنها تحمل حديدا. و لم تتنبه. و خرج الرجال من الجواليق و استولوا على المدينة و قتلوها.
هكذا تقول الأسطورة العربية، و معروف أنها حاربت الرومان و ظفروا بها فأخذوها أسيرة إلى روما حيث قضت بقية أيامها، و حازم إنما يروى الأسطورة العربية ليبيّن ما حدث فيها من تغرير بالزباء و قصر نظرها و عدم احتياطها حين رأت الإبل تسير وئيدة من ثقل ما تحمل، يقول:
و غرّها جدع قصير أنفه فأمنته و هو مرهوب الشّدا (9)
و أوقر العيس رجالا و عبا بؤسا لها و أبؤسا فيما عبا (10)
و ارتاب في مشى الجمال لحظها و لم تحقّق عندما قالت: عسى (11)
و ما درت ما فوقها حتى غدت مقصدة بسهم دهى ما خبا (12)
و يتحدث عما تروى الأساطير و التاريخ عن رجالات العرب و ملوكهم الجبابرة في الجاهلية، و ينصح بالحزم في الأمور مع العزم، و يعرض كثرة من الأحداث عمن شبوا نيران الحروب و من أخطأهم الحظ مثل امرئ القيس في ثأر أبيه حجر. و يسوق أخبارا كثيرة عن رجالات الإسلام من مثل الجحّاف و إيقاعه بتغلب في معركة البشر و مصعب بن الزبير و قضاء عبد الملك بن مروان عليه و فقدان الخنساء لأخيها صخر و مراثيها فيه، و يتذكر حاله و غربته عن وطنه و ينشد:
إنّ ثواء المرء في أوطانه عزّ و ما الغربة إلا كالتّوى (13)
و يذكر طائفة من الجاهليين و الإسلاميين الذين فارقوا أوطانهم و حنّوا إليها حنينا ملتاعا، راجين أن يشتفوا بجرعة أو جرعات من مياهها. و يعود إلى ذكر الأحداث فيذكر جيش أبرهة حين غزا مكة قبيل الإسلام و كيف أن اللّه قضى على كيده فأرسل على جيشه طيرا جماعات دمرته تدميرا. و يذكر قصة هدهد سليمان و بلقيس ملكة سبأ و سدّ مأرب و انقضاضه و كيف أن اللّه أنقذ البشرية بإرساله نبي الهدى الذي أضاءت بنوره الآفاق، و يشيد بخلفائه و بفتح الأندلس، و بانتصار الموحدين في موقعة الأرك سنة 5٩١. و يقول إن الأندلس أصبحت بعد هذا التاريخ فريسة للثوار، و عمّ طوفان فتنة انجلى عن ضياع جواهر الأندلس الكبرى: قرطبة و إشبيلية و مرسية، و أصبحت لسان الحال تملى شجوها، و بكى كلّ ما هنالك و بكت حتى الأنهار بمدمع هام و أنّت الوديان و بثّت شكواها الثغور و المدن، و انتثرت الأندلس كحبّات عقد في حجور نصارى الشمال، و احتووا كل ما بتلك الديار من ذخائر الدين الحنيف، و يستثير بكل ذلك حفيظة المستنصر و يهيب به أن ينجد الأندلس و يسترجعها من براثن الإسبان منشدا:
و لو سما خليفة اللّه لها لافتكّها بالسّيف منهم و افتدى
ففي ضمان سعده من فتحها دين على طرف العوالي يقتضى (14)
فقد أشادت ألسن الحال به حىّ على استفتاحها حىّ على
أثأى العدا ما كان مرءوبا بها و هو الذي يرجى به رأب الثّأى (15)
ما زال يملى الملوان نصره و سيفه يختطّ ما يملى الملا (16)
و يمضى في استصراخه لإنقاذ الأندلس بكل ما يستطيع من كلم مثير، و يهتف بهتاف المسلمين في كل أذان: «حىّ على» استفتاحها أي أقدم أقدم و يا خيل اللّه اركبي الطريق، فقد فتق الأعداء ما كان ملتئما بها، و هو الذي يرجى به لأم ما انفتق، و إنه لمعوّد النصر. و ما تزال انتصاراته تتوالى و ما يزال يمليها على الأيام، و يستثير حميته، و يتصور كأن جيشه يوشك أن ينقض على الأعداء فيسحقهم، و يقول إن طاعته من طاعة اللّه، و يتمنى على ربه العفو و الرضا، و ينصح الإنسان أن لا يغتر بعمره و أن يعمل لآخرته قائلا:
لا تله في وجودك الأوّل عن وجودك الثاني و نهنه من لها (17)
و يقول إن للنفس وجهين: وجها يشدّها إلى عالم القدس و النور أو عالم الكمال الأعلى و وجها يشدّها إلى عالم الدنيا و شهوات الحياة، و العاقل من حرص على التمسك بسنن السنة و الاقتداء بأهلها و أن لا يأخذ من الآراء إلا ما وافق أقوال اللّه في فرقانه و أن يحرص على صنع الخير و العمل الصالح. و يتحدث عن قصيدته أو مقصورته و ما بذل فيها من جهد في تخير الألفاظ و المعاني، و هي-كما رأينا-مجموعة من لوحات بديعة تخلب القارئ بروعتها البيانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
١) الأيادي: النعم. اللها: العطايا.
2) الكرى: النوم
٣) نصيف: نقضى الصيف. ضفا الدوح: نما الشجر و كثر.
4) مغتبق: مكان الغبوق و هو شرب العشى، مغتدى: مكان الغدوّ في الصباح.
5) انتجى: تناجى.
6) خلىّ: خال من الحب. مصطبى: محب مغرم.
7) وامق: محب. خلو: خلىّ.
8) وشى: زين و زخرف.
9) الشدا: الحدّ، شبه قصيرا بالسيف القاطع.
10) أوقر العيس: حمّل الإبل. عبأ: هيأ.
11) قالت عسى أي أنها شكّت و لم تتحقق من شكها و ريبتها و لا ظنت بعض الظنون.
12) دهى: دهاء و مكر. خبا هنا: أخطأ.
١3) ثواء: إقامة. التوى: الهلاك.
14) العوالي: الرماح.
15) أثأى العدا: أكثر من القتل فيهم و الجراحات. . مرءوبا: ملتئما. رأب الثأى: إصلاح الصدع و الفتق.
16) الملوان: الليل و النهار. الملا هنا: الخلق الكريم.
17)نهنه: ازجر.