المعتمد بن عباد
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص339-341
24-7-2016
2904
هو المعتمد محمد بن المعتضد عباد أمير إشبيلية، من سلالة النعمان بن المنذر اللخمي أمير الحيرة في الجاهلية رزق به المعتضد سنة 4٣١ و نشأ في الحلية و الزينة و الترف، و كان المعتضد أديبا مثقفا، فكان طبيعيا أن يعنى بتربيته و أن يحضر له المعلمين من فقهاء و علماء بالعربية و كانت فيه فطنة و ذكاء، و شبّ و تفتحت ملكته الشعرية. و رأى أبوه و هو لا يزال في بواكير شبابه أن يعهد إليه بحكم شلب في الجنوب الغربي للأندلس و كانت تتبعه، و نزل المعتمد فيها بقصر الإمارة المسمّى بقصر الشراجيب، و تعرّف عليه سريعا ابن عمار الشلبي، و كان شابا مثله و فيه مجون، فأغواه و أغراه بالخمر و المجون و السماع، و ترامت إلى أبيه أنباء لهوه، فاستدعاه في نحو العشرين من عمره إلى إشبيلية، و أخذ يدربه على الحكم. و تصادف أن تعرّف سريعا على فتاة تسمى اعتماد مولاة لرميك من أهل إشبيلية، فاستهوته بجمالها و بداهتها الشعرية على نحو ما مرّ بنا في غير هذا الموضع، فاقترن بها، و هي أم أبنائه، و له فيها كثير من أشعاره، و كان أبوه قد استطاع أن يستولي بجانب شلب على مدينة الجزيرة الخضراء الواقعة على زقاق جبل طارق و قرمونة في الشمال الشرقي لإشبيلية و لبلة و باجة في غربيها، و طمح إلى الاستيلاء على مالقة سنة 45٩ من يد باديس الزيري الصنهاجي أمير غرناطة، و أرسل إليها جيشا بقيادة المعتمد فاستولى عليها سريعا، و غرّه ذلك فأفضى إلى لهوه و خمره، و أرسل باديس إليه جيشا باغته و تشتت جيشه و عاد إلى إشبيلية مدحورا. و توفي المعتضد سنة 46١ فأمسك المعتمد بزمام الحكم، و جاءه ابن عمار فاستوزره و استطاع الاستيلاء على قرطبة في العام التالي لحكمه. و أخذ يكثر مع ابن عمار من مجالس الأنس و لياليه، كما أخذ يكثر من الاغداق على الشعراء فاجتمع ببابه منهم كثيرون عنى ابن بسام في الذخيرة بالترجمة لغير شاعر منهم. و بينما كان يغاور جيرانه من أمراء الطوائف المسلمين أبناء دينه كان يسالم ألفونس السادس ملك قشتالة و يؤدي إليه الجزية صاغرا كل عام، و حاول ألفونس أن يسلبه بعض ممتلكاته. و كان ضغط النصارى يشتد أيضا على المتوكل صاحب بطليوس في الغرب و على أمير غرناطة عبد اللّه بن بلقين، فأجمع أمرهم-مع الفقهاء-على استدعاء يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، و لبّاهم و كتب لهم معه النصر المؤزر في الزلاقة، و عاد يوسف إلى بلاده، و عاد المعتمد و غيره من أمراء الطوائف إلى اللهو و القصف و الانغماس في اللذات، فاستغاث الفقهاء و أهل الأندلس بابن تاشفين ثانية كي يخلص الأندلس من حكم هؤلاء الأمراء الذين مزّقوها في يد كل منهم مزقة مع ما يستنزفونه من طيباتها في الخمر و المجون. و عبر يوسف الزقاق، و استسلم سريعا أمير غرناطة، أما المعتمد فأبى الاستسلام و طلب من ألفونس السادس المهزوم في الزلاقة النجدة ضد ابن تاشفين و المرابطين. و كان ذلك جرما فظيعا و خطئا كبيرا لا يحق له بعده أن يظل أميرا في موطنه، و قاوم و لم تنفعه مقاومته فاستسلم، و أمر ابن تاشفين بنفيه مع أهله إلى المغرب، فنقلوا بالسفن من إشبيلية إلى طنجة، و منها إلى مدينة مكناس، و أخيرا إلى أغمات بالقرب من مدينة مراكش، و ظل بها مع أسرته، و فيها توفيت زوجته اعتماد الرميكية، و لم يلبث أن توفي سنة 4٨٨ للهجرة بعد نحو أربع سنوات قضاها في منفاه. و طبيعي لشاعر مثله أن يبكي إمارته و دولته و ما كان فيه من عز و سلطان و أبهة و حياة مرفهة، و اسمه ملء الآذان في الأندلس، و الشعراء يغدون عليه و يروحون بفرائد من أمداحهم، و هو يسبغ عليهم عطايا كأنها سحب غدقة منهلّة.
و كل ذلك امّحى و زال، و كأنه كان حلما و استيقظ منه على اليأس و البؤس، و يبكي و يظل يبكي و يذرف الدمع مدرارا، منشدا:
غريب بأرض المغربين أسير سيبكى عليه منبر و سرير
و تندبه البيض الصّوارم و القنا و ينهلّ دمع بينهنّ غزير
فياليت شعري هل أبيتنّ ليلة أمامي و خلفي روضة و غدير
بمنبتة الزّيتون مورثة العلا تغنّى قيان أو ترنّ طيور
بزاهرها السّامي الذّرى جاده الحيا تشير الثريّا نحونا و نشير
لقد أصبح غريبا و أسيرا منفيا في المغرب و إن منبر خطابته و عرش إمارته ليبكيانه و تبكي شجاعته السيوف و الرماح، و يتقاطر دمع غزير، و يتساءل هل يمكن أن ينعم ليلة بما كان فيه من بساتين و رياض بإشبيلية بلدة الزيتون و العز و العلا و القيان المغنيات الجميلات و الطيور الصادحات حول قصوره: الزاهر و الثريا و غيرهما مما تأنق في بنيانه. لقد تحولت كل هذه المباهج التي نعم بها المعتمد في إشبيلية إلى متاعس في أغمات، و حانت منه التفاتة فرأى قمريّة تنوح بفننها و أمامها و كر أو عشّ به حمامتان، و كأنها تبكي أليفها فقال:
بكت أن رأت إلفين ضمّهما وكر مساء و قد أخنى على إلفها الدّهر
بكت لم ترق دمعا و أسبلت عبرة يقصّر عنها القطر مهما همى القطر
و ناحت و باحت و استراحت بسرّها و ما نطقت حرفا يبوح به سرّ
فما لي لا أبكي؟ أم القلب صخرة و كم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحدا لم يشجها غير فقده و أبكى لألاّف عديدهم كثر
و هو يقول إن القمرية بكت حين رأت إلفين في وكر، بينما هي فقدت إلفها، فهي تبكيه بدمع مترقرق في جفونها لا يبلغ تعبيره في الحزن و الشجا القطر مهما همى و سال. و يقول كأنما نواحها أراحها من سرها الدفين سر حزنها على إلفها الذي فقدته، و يخاطب نفسه لماذا لا أبكي ؟ هل أنا صخرة؟ و مع ذلك فالصخر تتشقق منه-و تجري به-الأنهار و المياه الغزيرة، و لقد بكت واحدا شجاها و أحزنها فقده، و حرى بي أن أبكي ألاّفي و خلاّني الذين يخطئهم العد. و يمر به سرب قطا فيهيج وجده و يحرّك شوقه، و يتمنى لو كان مثله حرا ينطلق كما شاء، و يدعو له منشدا:
ألا عصم اللّه القطا في فراخها فإنّ فراخي خانها الماء و الظّلّ
فهو يدعو لكل قطاة أن يعصمها اللّه في فراخها فلا تصاب بظمأ و لا بمسغبة و لا بعناء كما أصيب أولاده من بنين و بنات. و للمعتمد أشعار أخرى كثيرة تصور لوعته لفقده ملكه و حرقة فؤاده على فلذات كبده.