الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أبو القاسم بن الجد
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص442-445
23-7-2016
2833
هو أبو القاسم محمد بن عبد اللّه بن الجد الفهري، من أسرة بني الجد، من بيوتات لبلة غربي إشبيلية و إشبيلية نفسها، و في كتاب المغرب ترجمات لغير فقيه و أديب من هذه الأسرة، و قد أكبّ في نشأته على كتب الفقه و الحديث و الأدب، و أخذ اسمه يلمع بين أقرانه في إشبيلية، فاختاره المعتمد بن عباد أميرها وزيرا لابنه الراضي حين ولاّه مدينة الجزيرة الخضراء في أقصى الجنوب، و ظل معه حين ولاّه مدينة رندة غربي مالقة إلى أن استنزله منها المرابطون سنة 4٨4و فتكوا به. و عاد أبو القاسم إلى بلدته: لبلة فولّوه خطّة الشورى و مقاليد الفتوى، و هو مع ذلك يساجل إخوانه و يراسلهم و يخطب مودتهم، و خاصة أبا بكر بن القصيرة رئيس الديوان بمراكش منذ سنة 4٨٧ ليوسف بن تاشفين ثم لابنه على. و يبدو أن ابن القصيرة استدعاه ليعمل معه في هذا الديوان، و لا نعرف تاريخ هذا الاستدعاء، و أكبر الظن أنه استدعاه منذ عهد يوسف بن تاشفين حتى إذا توفى ابن القصيرة سنة 5٠٨ أسندت إلى ابن الجد رياسة الديوان بمراكش إلى أن توفى سنة 5١5 للهجرة.
و قد استهل ابن بسام ترجمته بقوله: «قريع )1)وقتنا، و واحد عصرنا، ممن استمرى )2)أخلاف النظم و النثر، فدرّت له بالبيان أو بالسحر. . و رويدك حتى ترى الصبح كيف يسفر، و ثبج )3)البحر كيف يزخر. و هو على نباهة الذكر، و علو القدر، و شرف المحل من فهر(4) » . و تلا ابن بسام ذلك بطائفة من رسائله، و نقرأ من بينها رسالة كتب بها إلى صديقه رئيس دواوين المرابطين: ابن القصيرة، و قد تصادف أن كان على مسافة قريبة منه، و لم يتفق لهما لقاء، و فيها يقول:
«لم أزل-أعزك اللّه-أستنزل قربك براحة الوهم، من ساحة النجم، و أنصب لك شرك المنى، في خلس الكرى. و ما ظنك بي و قد نزلت على مسافة يوم، و طالما نفر عن
خيالي نوم، و دنوت حتى هممت بالسلام، و قد كان من خدع الأحلام. . و ما كان على الأيام لو غفلت قليلا، حتى أشفى بلقائك غليلا. . و لئن أقعدتني بعوائقها عن لقاء حر، و قضاء برّ فما تحيّفت (تنقصت) ودادي، و لا ارتشفت مدادي، و لا غاضت (نقصت) كلامي، و لا أحفت (استأصلت) أقلامي، و في الكتاب بلغة الوطر، و يستدلّ على العين بالأثر. . و إن فرغت للمراجعة و لو بحرف، أو لمحة طرف، وصلت صديقا، و بللت ريقا، و أسديت يدا، و شفيت صدى (عطشا) ، لا زالت أياديك بيضا، و جاهك عريضا، و لياليك أسحارا، و مساعيك أنوارا» .
و يبدو أنه كتب لابن القصيرة هذه الرسالة حين كان يتولى ديوان الإنشاء بمراكش للمرابطين، و قد تولاه منذ سنة 4٨٧ كما أسلفنا حتى وفاته سنة 5٠٨ و نراه فيها يشير -من طرف خفى-إلى تمنيه أن يستدعيه صديقه للعمل معه في ذلك الديوان، و لا تخفى سطور الرسالة مراده و أنه يأمل لو ردّ عليه بكتاب يحقق له أمنيته. و قد صاغ الرسالة صياغة بديعة، مع لطف الأخيلة و دقة المعاني و مع حسن الأداء. و لا نلبث أن نقرأ له رسالة في وصف مطر بعد جدب شديد، و فيها يقول:
«لما استرابت حياض الوهاد، بعهود العهاد )5)، و تأهّبت رياض النّجاد، لبرود الحداد، و اكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد(6)النّقع المثار، و تعطّلت الأنوار، من حلىّ الدّيمة المدرار، أرسل اللّه تعالى بين يدي رحمته ريحا بليلة الجناح، سريعة الإلقاح، فنظمت عقود السّحاب، نظم السّخاب (7)، و لم تلبث أن انهتك رواقها(8)، و انبتك )9)وشيكا نطاقها، و انبرت مدامعها تبكي بأجفان المشتاق، غداة الفراق، فاستغربت (10)الرياض ضحكا ببكائها، و اهتزّت رفات (11)النّبات طربا لتغريد مكّائها (12)، فيا برد موقعها على القلوب و الأكباد، و يا خلوص ريّها إلى غلل النفوس الصّواد (13)، كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشّفت رضابا (14)من الثّنايا العذاب، أو تحمّلت ماء الوصال، أو سرت على أنداء الأسحار و ريحان الآصال. فالحمد للّه على ذلك ما انسكب قطر، و انصدع فجر، و توقّد قبس، و تردّد نفس» .
و لعل صوت ابن الجد اتضح، فهو صوت يفيض بألحان عذبة يأخذ بعضها بتلابيب بعض لما تتميز به من عذوبة و رشاقة، و هو صوت يتخايل أو يتجسد في تصاوير متتابعة، فيمتع النفس بنغماته و أخيلته البديعة. و له من رسالة يخطب فيها وداد أديب و أخوّته:
«إن كانت المداخلة بيننا لم يفتح لها باب، و لا علقت بها أسباب، و لا رمى لنا في محصّبها (15)جمار، و لا عطف بنا نحو كعبتها اعتمار، فقد جمعتنا في معرّف )16)المعرفة معارف، و ضمّتنا من معالم العلم معاهد و مآلف، و وشجت (17)بيننا من أواصر الأدب أنساب، و ضربت علينا في مدارج الطلب قباب، و لا غرو من تداني القلوب على تنائي الديار، و ائتلاف النفوس مع اختلاف النجار )18)، فربما ألّف تشاكل الشيم و الأخلاق، بين مستوطن الشام و ساكن العراق. على أني لا أدعي رتبتك في فنون العلم و الآداب، و من يضاهي محل الفرقد (19)، بمنبت الغرقد، لكني و إن لم أعدّ في رعيلك، فعندي من بضائع الكلم ما ينفق في سوقك، بقيت حلية للدهر فائقة، و غرّة في وجد الزمن رائقة» .
و عذوبة الكلم و حلاوة الصوت و سلاسة الجرس و نعومته، كل ذلك تغرق الآذان في أنغامه مع ما يسوق من أطياف و خيالات رائعة. و كان فيه ميل إلى الدعابة، مما جعله يعارض أبا الحسين بن سراج في رقعته التي مرت بنا و التي شفع فيها عند بعض ذوي الجاه و الثراء لرجل يسمى الزريزير مستعيرا له بعض الصفات المتصلة بالطيور كالريش و العش و الشّكير و التحسير، و على غرار رقعة ابن سراج يقول في رقعته:
«لئن سمّى بالزّريزير، لقد صغّر للتّكبير، و لما طار ببلاد الغرب و وقع، و زقا في أكنافها و صقع )20)، و عاين ما اتفق فيها هذا العام من عدم الزيتون، في تلك البطون، و المتون، و لم يجد بها قرارا، أزمع عنها فرارا. و استخفّه هائج التذكار، نحو تلك الأوكار، حيث يكتسى ريشه حريرا، و يحتشى جوفه بريرا(21)، و يحتسى قراحا نميرا(22)، فخذه إليك، نازلا لديك، ماثلا بين يديك، يترنّم بالثناء، ترنم الذّباب في الروضة الغنّاء. و لن يعدم في جنابك حبّا نثيرا، و خصبا كثيرا، و عشّا وثيرا(23) » .
و الدعابة لطيفة و الصياغة بديعة، و يقول ابن بسام في ختام ترجمته له إن كلامه أبهى من النجوم و أبهر، و أسرى من النسيم و أسير» لما يشيع به من صياغة تأخذ بمجامع القلوب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) قريع: سيد.
2) استمرى أخلاف النظم: احتلب ضرعه.
3) ثبج البحر: وسطه.
4) فهر: قبيلة قرشية.
5) العهاد: المطر.
6) إثمد: كحل. النقع: الغبار.
7) السخاب: القلادة من الأزهار.
8) الرواق: مقدم البيت
9) انبتك: انقطع
10) استغرب في الضحك: بالغ فيه
11) رفات: حطام
12 (المكاء: طائر له تغريد حسن
13 (ريها: شربها حتى الامتلاء. الغلل: جمع غلة: شدة العطش الصوادي. العطشى.
١4) الرضاب: الريق المرشوف.
١5) المحصب: موضع رمى الجمار بمنى.
16) المعرف: الموقف بعرفات، و الاستعارة واضحة.
17) وشجت: تشابكت.
18) النجار: الأصل و الحسي.
19) الفرقد: النجم القطبي: الغرقد شجر قصير فروعه شائكة.
20( زقا: صاح. صقع: ذهب في كل وجه.
2١) البرير: ثمر الأراك.
2٢) يحتسى: يتجرع. قراحا نميرا: ماء صافيا زاكيا.
23) وثيرا: وطيئا.