الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
أبو البقاء الرُّندىّ
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص388-391
23-7-2016
2460
هو صالح بن أبي الحسن يزيد بن صالح بن شريف يكنى كنية مشهورة بأبي البقاء و كنية أخرى بأبي الطيب، و مسقط رأسه رنده إلى الغرب من مالقة، على قمة جبل سامق يشقها نهر و ينابيع و تحفّها وديان، مما جعلها-كما في المغرب-تعمّم بالسحاب و توشّح بالأنهار العذاب، و قد رزق أبوه به سنة 6٠١ و كان من أهل العلم، و لذلك سلكه المراكشي بين أساتذته، و ذكر منهم على بن جابر الدباج الإشبيلي الذي ظل يتصدر للإقراء بإشبيلية خمسين سنة، كما ذكر مواطن الدبّاج أبا القاسم بن الجد نزيل تونس.
و لم يتتلمذ لهذين العالمين فقط بل تتلمذ أيضا لابن الفخار الشريشي و لابن زرقون الغرناطي. و يذكر ابن الخطيب عن ابن الزبير صاحب كتاب صلة الصلة أنه تتلمذ له، و كل ذلك يدل على نهم في طلب العلوم و الآداب، و اتضح ذلك في جانبين عنده هما التأليف و نظم الشعر، أما التأليف فله فيه كتاب: «روضة الأنس و نزهة النفس» و يبدو أنه كان كتاب محاضرات و طرف أدبية، و سبق أن ذكرنا في الفصل الثاني أن له أيضا كتاب الوافي في نظم القوافي، و أن منه مخطوطة بالمكتبة التيمورية، و أنه في أربعة أجزاء أولها في فضل الشعر و طبقات الشعراء و عمل الشعر و آدابه و أغراضه، و ثانيها في محاسن الشعر و فنونه البديعية، و ثالثها في الإخلال و السرقة و الضرورة، و رابعها في حد الشعر و عروضه و قوافيه و أخباره تدل بوضوح على صلته الوثيقة بمحمد بن الأحمر مؤسس إمارة غرناطة، و هي صلة جعلته يكثر من مدائحه. و كان له بجانب هذين الكتابين المتصلين بالأدب شعره و نثره كتاب في علم الفرائض، و هو يدل-كما قال المراكشي-على أنه كان بجانب ثقافته الأدبية «فقيها فرضيا حافظا» أي محدثا و يقول إنه كان متفننا في معارف جليلة.
و يقول المراكشي إنه «كان خاتمة الأدباء بالأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام و منثوره» و إنه كتب إليه بإجازة ما رواه و ألّفه، و يذكر أن له في النثر مقامات بديعة في أغراض شتى، كما يذكر أن كلامه نظما و نثرا مدون، مما يدل على أنه خلف ديوان شعر كان معروفا في زمنه. و قد طارت شهرة أبي البقاء الرندي شرقا و غربا لقصيدته النونية التي نظمها بعد سقوط مدن الأندلس الكبرى في يد النصارى: قرطبة و إشبيلية و بلنسية و جيان و مرسية سوى ما في حيّز كل منها من مدن و معاقل و حصون مما تنخلع له القلوب و الأفئدة أسى و حزنا لهذا المصير المفجع، لا مصير المدن فحسب بل أيضا مصير السكان المسلمين من رجال و نساء و أطفال و وقوعهم أسرى في أيد لا ترحم، أيد استعبدتهم و أنزلت بهم أهوالا من العذاب لا تطاق. و كأنما ندب أبو البقاء نفسه عن أهل الأندلس يستصرخ المسلمين لنصرة إخوانهم في الدين و إنقاذهم من يد الكافرين الآثمين، و هو يستهل قصيدته بالحديث عن الدول التي دالت، و كأنما يتأثر في هذا الجزء من قصيدته بابن عبدون آملا أن تدول دولة النصارى الشماليين، ثم ما يلبث أن يتمثل الفواجع التي نزلت بقرطبة و أخواتها الأندلسيات، و يهتف:
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد و انهدّ ثهلان (1)
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية و أين شاطبة أم أين جيّان
و أين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان
و أين حمص و ما تحويه من نزه و نهرها العذب فيّاض و ملآن )2)
قواعد كنّ أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
إن المساجد قد صارت كنائس ما فيهنّ إلا نواقيس و صلبان
إن ما نزل بالأندلس و دهاها من الخطوب أمر يجلّ عن العزاء فيه، إنه لكارثة تهوى لها الجبال و تنهدّ في كل أرض إسلامية، فتلك مدن كبرى برمّتها ضاعت و ضاعت معها قرطبة دار العلوم و إشبيلية دار الغناء و الموسيقى، لقد سقطت أركان البلاد الأندلسية و قواعدها الأساسية، فهل يؤمل بعد ذلك بقاء لغرناطة و غيرها مما لا يزال في أيدي المسلمين، لقد أصبحت المساجد و ما كان يتلى فيها من قرآن كنائس تكتظ بالنواقيس و الصلبان، و يصرخ مستنفرا:
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السّبق عقبان
و حاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النّقع نيران)3)
و راتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عزّ و سلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم و أنتم يا عباد اللّه إخوان
و هو يصيح في فرسان المسلمين و أبطالهم من حملة السيوف المرهفة أن يسارعوا لنجدة الأندلس، و يعجب أن يرى المسلمين راتعين في ديارهم يعيشون في دعة و عزة و قوة، كأن ليس عندهم خبر عن الأندلسيين و ما أصابهم من محن و كوارث، لا تصيبهم وحدهم بل تصيب أيضا الحنيفية البيضاء في الصميم، فما هذا التقاطع و التنابذ و أنتم إخوان في الدين أخوّة أقوى من أخوة ذوي الرحم، إذ ليست أخوّة دم بل أخوة روح و قلب و فكر و فؤاد، و يصيح جزعا:
يا من لذلّة قوم بعد عزّهم أحال حالهم كفر و طغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم و اليوم هم في بلاد الكفر عبدان
و لو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر و استهوتك أحزان
يا ربّ أمّ و طفل حيل بينهما كما تفرّق أرواح و أبدان
و طفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنّما هي ياقوت و مرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة و العين باكية و القلب حزنان
و هو يلتاع لوعة محرقة لهؤلاء المسلمين الذين استذلهم الكفر و الطغيان بعد أن كانوا في الذروة من العز و الكرامة، لقد كانوا ملوكا و أمراء، فأصبحوا عبيدا، و إنهم ليبكون بكاء مرا، حين يرون أنفسهم-و قد فقدوا أعز شيء على نفوسهم، فقدوا حرياتهم-يباعون بيع العبيد. و يا للهول فكم من طفل فرّقوا بينه و بين أمه كما يفرّق بين الروح و البدن، إذ لن ترى ضناها و فلذة كبدها أبدا، و كم من سيدة فائقة الحسن فاتنة كأنما هي ياقوت و مرجان يرغمها إسباني جاف غليظ على المكروه البغيض، و هي محزونة تذرف الدمع مدرارا.
و القصيدة درة يتيمة رائعة، و لروعتها أخذت الأجيال التالية تزيد عليها أبياتا تندب بها البلاد التي سقطت في أيدي النصارى الشماليين بعد وفاة أبي البقاء الرندي سنة 6٨4 للهجرة. و تنبه لذلك المقري في نفح الطيب، إذ ذكر بعد إنشاده لها من رواية وثيقة أن بأيدي الناس منها زيادات ندبت فيها مدن الأندلس التي ظلت تسقط حتى عهد العرب الأخير و حتى استسلام غرناطة مع غروب الشمس العربية نهائيا في تلك الديار بعد أن ظلت ساطعة في سمائها ثمانية قرون طوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ( أحد: جبل بالمدينة مشهور. ثهلان: جبل بنجد.
٢( حمص: إشبيلية.
٣) النقع: غبار الحرب.