الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
ابن عمار
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص194-196
22-7-2016
2429
هو أبو بكر محمد بن عمار من قرية من قرى مدينة شلب يقال لها شنّبوس، و مر بنا ما ذكره ياقوت عن شلب و أن نظم الشعر كان يشيع على كل لسان بها، حتى لو طلب أحد إلى فلاح بها خلف محراثه قرض شيء من الشعر قرضه له توا في أي معنى يطلبه منه، فكان طبيعيا أن تهدى إلى الأندلس شاعرا فذا من شعرائها، و كأنما اختار القدر لها محمد ابن عمار الذي نشأ بشلب طفلا لأسرة متواضعة، و تعلم فيها العربية و الأدب على شيوخ متعددين منهم أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم، ثم رحل إلى قرطبة فأكمل فيها تأدبه، و استيقظت ملكته الشعرية على شيء غير قليل من ضنك العيش و بؤسه، مما جعل ابن بسام يقول عنه إنه «أحد من امترى (1)أخلاف الحرمان، و قاسى شدائد الزمان، و بات بين الدكة و الدكان و استحلس (2)دهليز فلان و أبي فلان» . و لم يكن له شيء يتكسب به سوى شعره، فطاف به في بعض مدن الأندلس مسترفدا، لا يبالي ممن أخذ و لا من مدح من سيد أو سوقة. و حدث أن عاد إلى شلب من بعض سفراته على دابة لا يجد علفها، فنظم مديحا في رجل من أهل السوق ظنا منه أنه يعطيه النوال الوفر، و إذا هو يسرّ إلى غلامه بكلام، فأتاه بمخلاة شعير، و فكّر في دابته و حاجتها إلى العلف، فاحتمل الغضاضة. و مضى يتقلب في بلاد الأندلس للمديح و الاستجداء إلى أن وفد على المعتضد (4٣٣-46١ ه.) أمير إشبيلية و مدحه بقصيدته الفريدة:
أدر الزّجاجة فالنسيم قد انبرى و النّجم قد صرف العنان عن السّرى (3)
و استحسنها المعتضد و أمر له بمال و ثياب و مركب و أن يكتب في ديوان الشعراء، و تعرف حينئذ على ابنه و ولى عهده المعتمد، و توثقت عرى المودة بينهما حتى أصبح المعتمد لا يستغنى عنه ساعة من ليل أو نهار. و ولى المعتمد على مدينة شلب من قبل أبيه فاتخذ ابن عمار وزيره في تلك الولاية و ساءت السمعة عنهما لعكوفهما على الخمر و الغناء، فأمر المعتضد بالتفريق بينهما و خروج ابن عمار عن بلده، فمضى يطوف بأمراء الطوائف، ففترة عند المعتصم بن صمادح أمير المريّة و فترة عند أبي عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية، و فترات أخرى عند غيرهما، إلى أن توفي المعتضد فاستدعاه المعتمد و قرّبه حتى أصبح أقرب إليه من حبل الوريد، و سأل المعتمد ولاية شلب: بلده و منشئه، فأجابه إلى أن اشتد شوقه إليه، فاستدعاه منها و اتخذه وزيره و مستشاره.
و طمح المعتمد إلى الاستيلاء على مرسية، و زيّن له ذلك ابن عمار، فأعدّ جيشا جرارا بقيادته و قيادة عبد الرحمن بن رشيق، و تكفل له ابن عمار بأخذها و إخراج ابن طاهر عنها، غير مراع له حرمة برّه القديم به كما أسلفنا. و نزل بالجيش على مرسية سنة 4٧١ و أخذها و أخرج ابن طاهر عنها، و تمادى في إنكاره للجميل إذ سوّلت له نفسه أن يستلبها من المعتمد و أن يعلن استقلاله بها، و دانت له هي و أعمالها، و جلس مجلس التهنئة للخواص و العوام و استقبل الشعراء يهنئونه و يمدحونه. و استعمل على الحصون خساس عبيده و أقطعهم الضياع و أقبل على اللهو و الخمر و المتاع، و عبثا حاول المعتمد بن عباد أن يرده عن غيّه، و له معه مراجعات شعرية كثيرة، و بدلا من أن يطلب الصفح هجاه و هجا زوجته الرّميكيّة قرة عينيه بقصيدة طارت شهرتها في الأندلس منها:
فيا عامر الخيل يا زيدها منعت القرى و أبحت العيالا (4)
و أفحش فيها غاية الفحش و لم يفكر في العواقب، و بينما كان سادرا في خمره و لهوه أخذ عبد الرحمن بن رشيق يستبدل العبيد من ولاته ببني إخوته و أخواته حتى صارت مرسية و أعمالها في يده، حينئذ انتهز فرصة خروجه لرؤية حصن من حصونه، و أغلق أبواب مرسية في وجهه. و عرف أن لا سبيل إلى دخولها فولّى وجهه نحو سرقسطة و أميرها المؤتمن بن المقتدر بن هود (4٧4-4٧٨ ه.) و استقبله على مضض منه لما فعل بالمعتمد ولىّ نعمته، و أرسل إليه قصيدة يستعطفه بها استهلها بقوله:
علىّ و إلا ما نواح الحمائم وفي و إلا ما بكاء الغمائم
و أخذ يذكّره بأيامه معه و يسترحمه، لعله يرق له، و لكن ذنبه كان عظيما. و لم يلبث أن رغّب المؤتمن في الاستيلاء على حصن شقورة شمالي مرسية من يد أميرها عتاد الدولة عبد اللّه بن سهل، فعرف عتاد الدولة كيف يخدعه و يودعه سجنه، و أرسل إلى المعتمد و غيره من الأمراء هل لأحد فيهم رغبة في شراء هذا الخائن الآثم الكنود؟ فأرسل إليه المعتمد ابنه الراضي بمال و خيل، و تسلّمه من عتاد الدولة سنة 4٧٧ و حاول أن يستلين قلب الراضي ببعض شعره فلم يصغ إليه، و نظم في طريقه إلى المعتمد قصيدة يستعطفه بها افتتحها بقوله:
سجاياك-إن عافيت-أندى و أسمح و عذرك-إن عاقبت-أجلى و أوضح
و لم ينفعه عند المعتمد تذلـله فيها و تضرعه، و كان بقرطبة، فكان يحضره كل ليلة راسفا في قيوده و يوبخه على سوء فعله، و انحدر به إلى إشبيلية، و أودعه غياهب السجون إلى أن استثارته عليه زوجته الرميكية فأجهز عليه، و رثاه عبد الجليل بن وهبون ببيت مفرد هو قوله:
عجبا لمن أبكيه ملء مدامعي و أقول: لا شلّت يمين القاتل
و بدون ريب كان ابن عمار انتهازيا و صوليا لا يرعى صداقة و لا عهدا، أما شعره ففي الذروة من شعر الأندلسيين و فيه يقول الفتح في القلائد: «مقذف حصا القريض و جماره و مطلع شمسه و أقماره» و يقول ابن بسام: «شعره غرّب و شرّق، و أشأم في نغم الحداة و على ألسنة الرواة و أعرق. . و هو يضرب في أنواع الإبداع بأعلى السهام، و يأخذ من التوليد و الاختراع بأوفر الأقسام» و يطيل في الإشادة به، و يقول ابن الأبار في ترجمته: «من بديع صنيعه إتلاف أشعاره المقولة في الامتياح و قصائده المصوغة في الانتجاع و محو آثارها فما يوقف منها اليوم على شيء سوى أمداحه في المعتضد و ما لا اعتبار به لنزوله» و يتيمته-بحق-و فريدته مدحته الرائية في المعتضد عباد التي ذكرنا مطلعها، و فيها يصف روضا كأنه حسناء تكتسى بوشى الزهر الأنيق، و تتقلّد بجوهر الندى النفيس، و يخرج إلى المديح فينشد:
عباد المخضرّ نائل كفّه و الجوّ قد لبس الرداء الأغبرا (5)
أندى على الأكباد من قطر النّدى و ألذّ في الأجفان من سنة الكرى (6)
أيقنت أنى من ذراه بجنّة لما سقانى من نداه الكوثرا (7)
فاح الثّرى متعطّرا بثنائه حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا
و ما يزال ابن عمار يفجأ قارئ مدحته بهذه الصور و المعاني البديعة، و مما يفجأ قارئه به تصويره لإطاحة المعتضد بالملوك و دقّه لأعناق كماتهم و شجعانهم إذ يقول:
أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
و صبغت درعك من دماء كماتهم لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
و ابن عمار لا يبارى في روعة التصاوير و الأخيلة و روعة الأداء و حسن الصياغة، و كأن مدينة شلب و قراها الشاعرة ظلت تمخض الشعر فيها حتى أنتجت رحيق شعره الصافي البديع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) امترى: حلب. الأخلاف: الضرع.
2) استحلس: لزم. الدهليز: المدخل بين الباب و الدار.
3) السرى: المسير ليلا.
4) القرى: طعام الضيوف.
5) الجو قد لبس الرداء الأغبر: كناية عن الجدب.
6) الكرى: النوم. سنة الكرى: الغفوة في أوله.
7) ذراه: كنفه. الكوثر: نهر في الجنة.