الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
ابن زيدون
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص281-283
22-7-2016
2333
هو أبو الوليد أحمد بن عبد اللّه بن زيدون المخزومي الأندلسي ولد بقرطبة سنة ٣٩4 في بيت علم و فقه، لأب فقيه كان من هيأة الفقهاء المشاورين لعهد الخليفة المستعين (٣٩٩-4٠٧ ه) و كان جده لأمه صاحب الأحكام بقرطبة، فهو من بيت حسب و نسب و ثراء، و عنى أبوه بتربيته إلى أن توفي سنة 4٠5 و ظل بعده ينهل من العلوم و المعارف بقرطبة و خاصة من الآداب العربية. و ليس لدينا أخبار واضحة عنه في شبابه إلا ما انعقد بينه و بين ولادة بنت الخليفة المستكفي من حب، و قد توفي أبوها سنة 4١6 و ما توافى سنة 4٢٢ حتى تسقط دولة الخلافة الأموية في قرطبة، و يتولى أبو الحزم جهور مقاليد الحكم و جعله حكما شوريا ديمقراطيا من خلال مجلس كان يرجع إليه في سياسته و تدبير شؤون حكمه. و أكبر الظن أن ابن زيدون كان ممن انتظموا حوله في حاشيته، و دسّ عليه حوالى سنة 4٣٠ أنه يشترك في مؤامرة ضد أبي الحزم جهور، و تصادف أن اتّهم بالاستيلاء على عقار لبعض مواليه، و زج به أبو الحزم في السجن، و استعطفه برسالته الجدية و بقصائد مختلفة، غير أنه ظل يصمّ أذنيه عنه إلى أن توسط له ابنه أبو الوليد-و كان صديقا له- فرد إليه أبو الحزم حريته. و توفى سنة 4٣5 و يخلفه ابنه أبو الوليد فيعهد لصديقه ابن زيدون بالنظر على أهل الذمة، ثم يتخذه وزيرا له، و يوفده في عدة سفارات إلى أمراء الطوائف، و تدبّر في سنة 44٠ مؤامرة ضد أبي الوليد و تفشل المؤامرة، و نجد ابن زيدون بعدها مضطربا و يرسل إلى المعتضد عباد أمير إشبيلية أن يلجأ إليه، و يرحب بمقدمه عليه سنة 44١ و يتخذه وزيرا له حتى وفاته سنة 46١ و يظل وزيرا لابنه المعتمد إلى أن يلبي نداء ربه سنة 46٣.
و ابن زيدون من أعلام الشعر و النثر في الأندلس، و له مدائح رائعة في أبي الحزم بن جهور و ابنه أبي الوليد و المعتضد عباد، و له أيضا مراث بديعة. غير أن القطعة الأرجوانية في حياته و شعره هي كلفه بولادة و ما نظمه فيها من غزل، و كانت أديبة شاعرة، و اتخذت لها مجلسا أو ندوة بقصرها تخالط فيها الشعراء و تساجلهم و تفوق أحيانا البارعين منهم، و فيها يقول ابن بسام: «كانت في نساء أهل زمانها واحدة أقرانها حضور شاهد، و حرارة أوابد، و حسن منظر و مخبر، و حلاوة مورد و مصدر، و كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، و فناؤها ملعبا لجياد النظم و النثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرّتها، و يتهالك أفراد الشعراء و الكتّاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، و كثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، و كرم أنساب، و طهارة أثواب» .
و ولادة-بذلك-تكون قد سبقت سيدات الصالونات الأدبية في فرنسا اللائي نسمع بهن بعدها بستة قرون أو سبع ممن كن يتخذن-على شاكلتها-ندوات يختلف إليها بعض الشباب و الكهول من الأدباء و المتفلسفة لما يمتزن به من رجاحة العقل و خفة الروح و القدرة على إدارة الحديث و المشاركة فيه مع شيء من الحسن و الجمال. و لو أن الأمور و الأحوال السياسية استقامت و اطردت استقامتها في الأندلس لوجدنا كثيرات مثل ولادة، لهن مثل مجلسها و منتداها على نحو ما مرّ بنا من حديث عن السيدة حواء زوجة حاكم إشبيلية المرابطي سير بن أبي بكر و ممدوحة الشاعر الأعمى التطيلي، و كما سنرى عما قليل مثيلتها حفصة الرّكونيّة في عهد الموحدين، و من المؤكد أن كثيرات من الشاعرات اللائي ترجم لهن المقري و اللائي يبلغن أربعا و عشرين كان لهن مجالس و منتديات على شاكلة ولادة. و هي ثمرة الحرية التي استمتعت بها المرأة في الأندلس و التي أشرنا إليها مرارا. و ينبغي أن نفرق دائما بين الحرية و المجون، فلم تكن ولادة و مثيلاتها في الأندلس ماجنات إنما كن سيدات فضليات قدن في المجتمع الأندلسي نهضة أدبية و فكرية، و قد أشار ابن بسام إلى عفة ولادة فقال «مع طهارة أثواب» ، كما أشار إلى استشعارها لكرامتها بقوله: «مع علو نصاب، و كرم أنساب» و كذلك كانت مثيلاتها من ذوات الحسب و النسب، على نحو ما صورنا ذلك عند السيدة حواء فيما أسلفنا من حديث.
و كان ممن اختلف إلى مجلس ولادة أو منتداها الفتى الشاعر النابغ ابن زيدون، و ظل مواظبا على ذلك أياما و شعر أنها تؤثره، فوقعت في قلبه كما وقع في قلبها، و اتصل بينهما الود، و يروى أنها كتبت إليه بعد طول تمنع لما أولع بها:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسّرّ
و بي منك ما لو كان بالشمس لم تلح و بالبدر لم يطلع و بالنجم لم يسر
و اتصل بينهما اللقاء في منتداها و في حدائق قرطبة، تغمرهما نشوة الحب، و تارة ينشدها من أشعاره فيها و تارة ينشدها من أشعار الغزلين من أمثاله، و حدث أن غاب عنها لأمر عرض له، فكتبت إليه:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرّق سبيل فيشكو كلّ صبّ بما لقى
تمرّ الليالي لا أرى البين ينقضي و لا الصبر من رقّ التشوّق معتقى
غير أنها لم تلبث أن تبدلت، فأذاقته بعد نعيم حبها و قربها جحيم هجرها و بعدها، و يقال إن سبب هذا الهجر أنها لا حظت مغازلته لإحدى جواريها، و يقال: بل لأنه نقد لها بعض شعرها، و سواء كان هذا أو ذاك هو السبب فإن ابن زيدون أخطأ في حقها أو في حقّ شعرها خطأ كبيرا. و يقال إنها صبت إلى أديب نابغ ثرى ممن كانوا يختلفون إلى منتداها هو ابن عبدوس و صبا إليها، فطار صواب ابن زيدون، و كتب إليه رسالته الهزلية ساخرا منه كما كتب إليه قصائد مهددا متوعدا، غير أن ولادة لم تصفح عنه، و ظل مبعدا محروما.
و غزله فيها يصور ثلاث مراحل: مرحلة وصله، و مرحلة هجره، و مرحلة يأسه، و غزل المرحلة الأولى فيه بهجة و فرحة، إذ ينعم بقرّة عينه و يسعد سعادة لا حدود لها. أما غزل المرحلة الثانية ففيه الشكوى و الحرقة و الالتياع العميق و الحسرة على فردوسه المفقود. بينما غزل المرحلة الثالثة غزل المبتئس الباكي النادب لحظه. و غزله يعدّ في الذروة من الغزل العربي و خاصة غزل المرحلتين الثانية و الثالثة، لما يصور فيهما من لوعاته المحرقة الممضة، و من أروع قصائده الغزلية في صاحبته قافيته التي يستهلها بقوله:
إني ذكرتك بالزّهراء مشتاقا و الأفق طلق و مرأى الأرض قد راقا
و هو يذكر منتداها في قصرها بضاحية الزهراء و ما تموج به من رياض و بساتين، و تغمره اللوعة و اللهفة على لقائها و يشرك الرياض التي طالما جلسا معا خلالها و تجوّلا بين أشجارها و أزهارها و طيرها و مياهها في أحاسيسه و مشاعره، و كأنها تشاركه همومه، و أروع من هذه القصيدة قصيدته:
أضحى التّنائي بديلا من تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت سودا و كانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنا و ما يخشى تفرّقنا و اليوم نحن و ما يرجى تلاقينا
يا جنّة الخلد أبدلنا بسلسلها و الكوثر العذب زقّوما و غسلينا(1)
و القصيدة تكتظ بالحنين و بلوعات قلب محترق و زفراته، و لعل يأسه من ولادة هو الذي دفعه إلى مغادرته قرطبة مسقط رأسه إلى إشبيلية، لعله يستطيع أن ينسى حبه أو يسلوه، و يقول صاحب الصلة إنها عمرت عمرا طويلا و لم تتزوج قط، و توفيت سنة 4٨4 بعد أن خلدت اسمها في تاريخ الشعر العربي و تاريخ المرأة الأندلسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ