الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
ابن خفاجة
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
317-321
22-7-2016
9860
هو أبو إسحق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد اللّه بن خفاجة، ولد سنة 45٠ للهجرة بجزيرة شقر بين شاطبة و بلنسية، و ماء نهرها يحيط بها من جميع جهاتها، و لذلك سميت جزيرة و في المغرب: أنها «عروس الأندلس المقلدة من نهرها بسلك، المتلفعة من جناتها بسندس، روض بسام، و نهر كالحسام، و بلبل و حمام» . و في هذه الجنة الفيحاء نشأ ابن خفاجة في أسرة علم و أدب و غير قليل من الثراء، و أقبل على الدرس و التزود بالآداب العربية، و تفتحت موهبته الشعرية، و غذاها غذاء شعريا رفيعا بأشعار عبد المحسن الصوري و الشريف الرضي و مهيار و المتنبي كما يقول في مقدمة ديوانه، و يضرب لتأثره بهم أمثلة تدل على أنه تأثر بالصوري في مزج الغزل بالطبيعة و بالشريف الرضي و مهيار في ذكر الظعائن و العيس و الأماكن الحجازية و النجدية و الطيف و الخيال و نسيم الصبا و أنفاس الخزامى، أما المتنبي فيقول إنه تأثر به في لفّ الغزل بالحماسة.
و يقول أيضا في مقدمة ديوانه إنه ظل في شبابه يتمثل هؤلاء الأربعة في شعره، متغنيا فيه بحب وجداني و بمتاعه من الخمر و الطبيعة الجميلة التي نشأ في حجرها. و لم يحاول حينئذ أن يفد على أمراء الطوائف مادحا، كما كان يصنع الشعراء من حوله لأنه كان مكفول الرزق بضيعة ورثها عن آبائه، و في الديوان مقطوعة سينية نظمها في زيارة للمعتصم بن صمادح دعت إليها مناسبة طارئة فنظمها، و ليس في الديوان وراءها مدحة لا في ابن صمادح و لا في غيره من أمراء الطوائف. و يذكر أن فترة الشباب و ما له فيها من منظومات في الغزل و الطبيعة و الخمر أعقبتها فترة انقطع فيها عن نظم الشعر، و يقول إنها كانت فترة طويلة، و أكبر الظن أنها كانت سنوات معدودة انتهت بانتهاء عصر أمراء الطوائف، و كأن هذا العصر كان عبئا غليظا على نفسه، كما كان عبئا غليظا على نفوس كثيرين من أهل الأندلس لانغماس أمرائه في الترف و المجون، حتى ضاعت طليطلة سنة 4٧٨. و نظن ظنا أن هذا الحادث الخطير هو الذي جعله يتوقف عن الشعر فترة، و أخذ يعود إليه الأمل في إنقاذ الأندلس حين دخلها المرابطون و انتصروا في الزلاقة انتصارهم الحاسم، و لعل إعجابه بهم هو الذي جعله يزور المغرب و مراكش و يعود منهما سنة 4٨٣ كما جاء في ديوانه، و لا يلبث يوسف بن تاشفين أن يجمع الأندلس تحت لوائه في نفس السنة فينتعش الأمل في نفس ابن خفاجة و يعود إلى نظم الشعر، و تلك هي الفترة الثالثة في حياته، و فيها ظل يدبج المدائح في أمراء المرابطين و قوادهم و رجالاتهم مستهلا ذلك-كما يقول في مقدمة ديوانه-بمديح إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أول ولاة المرابطين على شرقي الأندلس. و توالت بعد ذلك مدائحه فيه و في أخيه تميم والى غرناطة ثم مرسية بشرقي الأندلس لفترة قليلة و زوجته السيدة الحرة مريم و في علي بن يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين و في أبي بكر بن تيفلويت ممدوح ابن باجة. و في كل هذه المدائح و غيرها في تلك الفترة الثالثة من حياته لم يكن طالب نوال أو عطاء، و إنما كان-كما قال في مقدمة ديوانه «مصطنعا، لا منتجعا، و مستميلا، لا مستنيلا اكتفاء بما في يده من عطايا منّان و عوارف جواد وهّاب» . و نظن ظنا أنه عاش فترة في حياته الطويلة بأخرة، إذ امتدت إلى أكثر من ثمانين عاما، مفكرا في مصيره و في متاع الحياة الزائل و ما ينتظر الإنسان من العقاب و الثواب، و في هذه الفترة نظم طائفة من شعره في العظة و الاعتبار و التوبة و الابتهال و الاستغفار، و فيها جمع ديوانه، و عني كما يقول في مقدمته بتنقيحه و إصلاح بعض أشعاره «إما لاستفادة معنى، و إما لاستجادة مبنى» و عني بجانب ذلك بكتابة بعض كتب الحديث و السنن-كما ذكر في بعض شعره-تقربا للّه و رسوله. و كان في هذه الفترة الرابعة من حياته يخرج من جزيرته و يسير بين الوديان و الجبال و ينادي بأعلى صوته:
يا إبراهيم تموت، فيجيبه الصدى و يخرّ مغشيا عليه. و توفي سنة 5٣٣ عن اثنين و ثمانين عاما.
و يشيد به ابن بسام و غير ابن بسام إشادة رائعة، و أهم موضوع استنفد أكثر شعره و اشتهر به وصف الطبيعة حتى سماه الأندلسيون الجنّان نسبة إلى جنان الأندلس و تصويره لها تصاوير بديعة، و علّل هو نفسه لهذه النزعة في ص ٢٩٠ بديوانه قائلا:
«إكثاره في شعره من وصف زهرة و نعت شجرة و جرية ماء ورنة طائر ما هو إلا [إما] لأنه كان جانحا إلى هذه الموصوفات لطبيعة فطر عليها و جبلّة، و إما لأن الجزيرة كانت داره و منشأه و قراره، و حسبك من ماء سائح، و طير صادح، و بطاح عريضة و أرض أريضة، (1)فلم يعدم هنالك من ذلك ما يبعث مع الساعات أنسه، و يحرّك إلى القول نفسه، حتى غلب عليه حب ذلك الأمر، فصار قوله فيه عن كلف (2)لا تكلف، مع اقتناع، قام مقام اتساع، فأغناه عن تبذل و انتجاع» . و من قوله في وصف روض صباحا:
و كمامة حدر الصباح قناعها عن صفحة تندى من الأزهار (3)
في أبطح رضعت ثغور أقاحه أخلاف كلّ غمامة مدرار (4)
و حللت حيث الماء صفحة ضاحك و الطّلّ ينضح أوجه الأشجار
متقسّم الألحاظ بين محاسن من ردف رابية و خصر قرار (5)
و الصور تتراكم في القطعة، فالصباح يكشف قناع الظلام عن الأكمام فتبدو أزهارها النّديّة و ثغور الأقاح ترضع من أخلاف الغمام الدارّ و الماء يضحك و الطل يرش أوجه الأشجار، و ألحاظه موزعة بين النظر إلى ردف جميل بأزهاره لرابية و خصر بديع برياحينه لقرار. و يقول في وصف عشية:
و عشىّ أنس أضجعتني نشوة فيه يمهّد مضجعي و يدمّث (6)
خلعت علىّ به الأراكة ظلّها و الغصن يصغى و الحمام يحدّث
و الشمس تجنح للغروب مريضة و البرق يرقى و الغمامة تنفث (7)
و هو يقول إنها عشية جميلة انتشى فيها بمنظرها، إذ كان يستظل بأراكة في مقعد ممهد لطيف، و الحمام يحدّث و الغصن يرهف السمع إليه، و الشمس تجنح للوداع و قد اصفرّ وجهها و شحب لفراق هذا المنظر، و شعل البرق كأنها رقى تريد أن ترقيها و الغمامة تنفث كما ينفث الراقي في العقد. و من قوله في إحدى خمرياته:
و أراكة ضربت سماء فوقنا تندى و أفلاك الكؤوس تدار
حفّت بدوحتها مجرّة جدول نثرت عليه نجومها الأزهار
و كأنّها و كأنّ جدول مائها حسناء شدّ بخصرها زنّار (8)
زفّ الزجاج بها عروس مدامة تجلى و نوّار الغصون نثار (9)
و قد جعل ابن خفاجة الأراكة التي جلس مع ندمائه تحتها سماء، و مضى يستتم الصورة، فالكؤوس تدار و كأنها النجوم تدار في الأفلاك، و الجدول و ما حوله من الأزهار كأنه المجرة بما حولها من النجوم، و كأن الأراكة و ما بجانبها من الجدول حسناء شدت حزاما إلى خصرها. و هذا زجاج الكؤوس يزفّ المدامة إلى الشاربين و يجلوها عليهم، و ما النوار و الأزهار إلا نثار الدراهم و الدنانير يلقى به المحبون في هذا العرس الكبير.
و واضح ما يتميز به شعر الطبيعة عند ابن خفاجة من بث العواطف و المشاعر في عناصر الطبيعة، بحيث يصبح لكل عنصر أحاسيسه التي يشترك بها مع غيره من العناصر.
و تتراكم هذه الأحاسيس في شعره و تتراكم معها تصاوير الطبيعة، مما جعل بعض الأندلسيين من موطنه يعيب عليه كثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد، و هي ليست كثرة معان إنما هي كثرة تصاوير، و هي ليست عيبا بل هي حسنته و فضيلته، إذ أحس بعناصر الطبيعة إحساسا عميقا، و هو إحساس تفرّد به لا بين شعراء الأندلس وحدهم بل بين شعراء العربية جميعا، بحيث يعد أكبر شعراء الطبيعة عند العرب في مختلف عصورهم، و جعله إحساسه بها ينقل أوصافها إلى المديح فيقول في أبي بكر بن تيفلويت والي سرقسطة:
و جلا الإمارة في رفيف نضارة جلت الدّجى في حلّة الأنوار
متقسّم ما بين شمس دجنّة طلعت و بين غمامة مدرار
أرج النّدىّ بذكره فكأنه متنفّس عن روضة معطار
فهو قد جلا الإمارة فيما يشبه رفيف البساتين من الري و النضارة، حتى لكأنما أسبغت على الليل الداجي حلة من الأنوار، و ما أروع طلعته كأنها طلعة شمس من دجنّة مظلمة تضيء للأبصار، و كأنما يداه غمامة ما تزال تهمى بالنوال على العفاة و الزوار، و إن ذكره في النّدىّ ليملؤه بأريجه العطر، حتى لكأنه يتنفس عن روض فائح العطر. و كما يمزج الطبيعة بالمديح يمزجها بمراثيه كقوله في رثاء صديق عزيز:
في كلّ ناد منك روض ثناء و بكل خدّ فيك جدول ماء
و لكل شخص هزّة الغصن النّدى تحت البكاء و رنّة المكّاء
و هو يقول-مخاطبا صديقه-إن كل ناد تحول إلى روض ثناء عليك و كل خد هطلت عليه الدموع الكثيرة حتى استحال كل شخص بأنينه و انهمار دموعه إلى ما يشبه هزة الغصن الندىّ و رنة طائر المكاء الصغير يبكي أليفته.
و لم نتمثل حتى الآن بشيء من شعر الطبيعة الذي نظمه في الفترة الأخيرة من حياته، فترة التأمل في مصيره و ما ينتظره، مثل أقرانه الذين رثاهم مرارا، من الموت و العدم، و لعل خير قصيدة تصور هذه الفترة قصيدته البائية المعنونة في الديوان بأنه قالها في الاعتبار، و هو يفتتحها بوصف سّراه في الليل و كيف أن وجوه الموت كانت تتجلى له دائما، و كأنما يصف رحلته الطويلة في الحياة، و يلتقى في سراه بجبل ضخم شاهق شامخ و يقيم معه حوارا ينطقه فيه بما يدور في نفسه، إذ يقول له: كم آوى إلىّ و استوطنني من فتّاك و نسّاك و كم مرّ بي من غادين و رائحين و راكبين و راجلين، و كلهم عصف بهم الموت، يقول:
و ما كان إلا أن طوتهم يد الرّدى و طارت بهم ريح النّوى و النّوائب
و ما خفق أيكى غير رجفة أضلع و لا نوح ورقى غير صرخة نادب
فحتى متى أبقى و يظعن صاحب أودّع منه راحلا غير آيب
فسلّى بما أبكى و سرّى بما شجى و كان على ليل السّرى خير صاحب
فالجبل مثله محزون لما يرى من مصير الناس جميعا صالحين و طالحين إلى الموت و الفناء و فقدان الحياة. و كل شيء يشترك مع الجبل و مع ابن خفاجة في الإحساس بهول هذا المصير حتى ليرتجف الأيك و الشجر و ينوح الورق أو الحمام فزعا لهذا المصير المفجع لكل الناس. و يستطيل الجبل و ابن خفاجة بقاءهما بعد رحيل كل الصحاب. و يقول إن الجبل سرّى عن نفسه لأنه وجد عنده نفس الحزن و نفس الشجا إزاء ما يشعر به من تلاحق الفواجع بالناس و أن كل من على الأرض كركب واقفين ينتظر كل منهم دوره للرحيل إلى الدار الباقية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
١) أريضة: كثيرة النبات.
2) كلف: هيام.
٣) كمامة: أكمام و هي جمع كم بكسر الكاف: برعوم الزهرة.
4) أخلاف جمع خلف بكسر الخاء: حلمة
5) الردف: العجز بضم الجيم. خصر الإنسان: وسطه. قرار: منخفض من الأرض.
6) يدمث: يمهد و يوطأ بتشديد الطاء.
٧) تنفث: تنفح.
8) زنار: حزام يشد في الوسط.
9) النثار: ما ينثر على العروس في الزفاف من الدراهم و الدنانير.