الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
ابن الدباغ
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص437-439
22-7-2016
3778
هو أبو المطرف عبد الرحمن بن فاخر المعروف بابن الدباغ الوزير الكاتب، نشأ بسرقسطة، و عمل بدواوينها و قرّبه المقتدر بن هود أميرها (4٣٨-4٧5 ه) حتى أصبح من وزرائه، و أحسّ منه جفوة، و خشى أن يسطو به و يبطش، فخرج عنه، و نزل بالمعتمد بن عباد في إشبيلية، فأجزل قراه، و خصّه بحظ من دنياه، و جعله مكان سرّه و نجواه. و سفر بينه و بين المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس حين كان بيابرة.
و حدثت مشادة بينه و بين ابن عمار قرينه في وزارة المعتمد، و بلغه أنه قدح فيه بمجلس المعتمد، و خشى مغبّة ذلك، فلحق بالمتوكل أمير بطليوس فرحب به، و يبدو أنه لم يكن موطّأ الكنف في العشرة، إذ لم يلبث أن فسد ما بينه و بين وزير المتوكل أبي عبد اللّه بن أيمن، و اشتعلت بينهما نار ملأ الأفق شعاعها، و أخذ بأعنان السماء-كما يقول ابن بسام-ارتفاعها، فكرّ راجعا إلى سرقسطة، و بعد فترة قليلة قتل ببستان من بساتينها.
و يبدو أن ابن الدباغ كان شديد الضجر بالناس كثير الظنون بهم أو قل سيئ الظنون، فنبا به مقامه عند المقتدر بن هود ثم عند المعتمد و المتوكل بن الأفطس، و ربما دفعه إلى ذلك تشاؤم شديد جبلت عليه نفسه. و هو من كتاب عصر أمراء الطوائف النابهين، و فيه يقول ابن بسام: «فيما انتخبته من نظمه و نثره ما يشهد بفضله، و يدل على نبله» . و مضى ابن بسام يعرض طرائف من رسائله امتدت إلى نحو ستين صحيفة، جميعها غرر و درر، و أكثرها في ذم الزمان و معاصريه و تعذر آماله فيه، من ذلك قوله في بعض رسائله:
«كتابي و عندي من الدهر ما يهدّ أيسره الرّواسي، و يفتّت الحجر القاسي. . و من أقلّها قلب محاسني مساوى، و أوليائي أعادى، و قصدي بالبغضة من جهة المقة(1)،
و اعتمادي بالخيانة من حيث الثقة. . و قد غيّر عليّ حتى شرابي، و أوحشني حتى ثيابي، فها أنا أتّهم عياني، و أستريب من بياني، و أجني الإساءة من غرس إحساني. .
و ما أصنع؟ و قد أبى القضاء إلا أن أقضي عمري في بوس و لا أنفكّ من نحوس. .
لست أشكو إلا زماني و قعوده بجدّي (2)، و قبيح آثاره عندي، يخصّني بمزية حرمان، و يتوخّاني بفضلة عدوان، و يجعلني نصب سعيه، و غرض رميه، و مكان أذايته و بغيه. .
ما أجد إلا من يثلب، و لا أمرّ إلا بمن يتجهّم و يقطّب. . و سبحان من جعل الدنيا دار كرب و محنة، لكل ذي لبّ و فطنة، و مقام تنعّم و ترف، لكل ذي خسّة و نطف (3). . و ما أظن أن لدجى حالي انبلاجا، و لا لكربة نفسي انفراجا، و لا إخال غمرات الهمّ تنجلي، و لا مدد النحوس تنقضي، و من كانت له من الدنيا حظوة يصطفيها، و مكانة يستقر فيها، فليس لي منها إلا أن أرى كيف تنقسم رتبها و تتناوب، و تتنازع نعمها و تتجاذب، و تغتنم فوائدها و تتناهب، حتى كأني جئت على العدد زائدا، و لم أكن عند القسمة شاهدا، و ما أقول هذا قول ساخط، و لا أيأس من رحمة اللّه يأس قانط، و لكن ربما استراح العليل في أنّة، و استغاث المتوجع إلى رنّة (4)، و خفّف عن المصدور نفث (5)، و نفّس من وجد المكروب بثّ (6)» .
و هو يطيل في مثل ذلك صادرا عن قريحة أدبية خصبة، و كأنما سيول الكلام العذب تفد عليه من كل صوب، و هو يختار أسلس الألفاظ و أحلاها في الجريان على الألسنة و مصافحة الأسماع و القلوب، مما يصور براعة أدبية حقيقية، إذ يمتع دائما بألفاظه و معانيه الألسنة و الآذان و الأذهان. و له من تهنئة:
«قد كنت-أعزّك اللّه-متمنيا لهذه الأيام، كما يتمنّى في المحل (7)صوب الغمام، و منتظرا لظهورك فيها، كانتظار النفس أعذب أمانيها، و لما أطلعت طلائعها السعود، و استمرّ بك الارتقاء و الصعود، قلت لنفسي بشراك، و أسعفك الدهر بمناك، و سرّك في بعض أعزّتك و أرضاك، و أذني في الإصغاء، إلى ما يطرأ من الأنباء، و كلما قيل فرع )8)من الجاه ذروة، و استجدّ من العزّ كسوة، سرت العزّة في خلدي (9)، و طالت)10)على النّوب يدى»
و بهذا البيان الخلاب لا نزال نقرأ في رسائل ابن الدباغ معجبين، و نأسى لمصيره، و كان حريا بأحد الثلاثة: المقتدر بن هود و المعتمد بن عباد و المتوكل بن الأفطس أن يرفق به و يعرف له فضله و منزلته الأدبية الرفيعة، فيقيله من أوضار تشاؤمه و عثرات بؤسه بما يسدل عليه من صفو الحياة و رخاء العيش مما يبّدل قنوطه من معاصريه رجاء و يأسه منهم أملا و خوفه ثقة و اطمئنانا، غير أن أحدا منهم لم يحاول إنقاذه من محنته، بل جميعهم تركوه يتجرع غصص الضّيم و الحرمان في غير شفقة و لا رأفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) المقة: المحبة.
2) جدى: حظى.
3) نطف: عيب.
4) رنة: صيحة.
5) نفثة المصدور: ما يخفف به عن صدره المريض.
6) البث: ما يبثه المكروب و المحزون تخفيفا عنه.
7) المحل: الجدب.
8) فرع: علا.
9) الخلد: البال و الفكر.
10) طالت: غلبت و تفوقت.