الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
ابن قزمان
المؤلف:
شوقي ضيف
المصدر:
عصر الدول و الإمارات ،الأندلس
الجزء والصفحة:
ص168-171
24-3-2016
6578
و الديوان-بدون ريب-كنز نفيس لأن الزمن لم يحتفظ لنا من دواوين الأزجال الأندلسية إلا به، و فيه غنية عن سواه لأنه ديوان إمام الزجالين في الأندلس غير مدافع، و يتراءى لنا فيه ابن قزمان ماجنا عاكفا على اللذات من الخمر و النساء و الغلمان لا يرعوى و لا يزدجر، و هو يعلن ذلك مرارا مجاهرا به في غير حياء، و يبدو أنه كان يهبط أحيانا إلى صور من العبث و المجون جعلت ابن المناصف القاضي يأمر بسجنه، و يستغيث بالقائد المرابطي محمد بن سير فيرد إليه حريته. و طبيعي لمن يعيش هذه المعيشة الماجنة المسرفة في المجون أن يتلف كل ما ورثه من مال و أن لا يبقى على مال يصل إلى يده، مما جعله في أزجاله مداحا كبيرا للأمراء و الولاة و سلاطين المرابطين و القضاة و وجهاء قرطبة و غير قرطبة إذ كانت له رحلات إلى إشبيلية و غير إشبيلية، يستجدي العطاء في إلحاح. و هو يهبط في هذا الاستجداء حتى ليطلب الثياب و الدقيق و الفحم و الزيت و أجرة البيت الذي يسكنه مصورا في تضاعيف ذلك بؤسه و حرمانه و ما هو فيه من تعاسة و ضنك و مسغبة حتى ليدنو من صورة أصحاب الكدية و التسول. و هو جانب ننكره عنده كما ننكر إسرافه في اللهو و ما ملأ به أزجاله من مجون و إثم. غير أننا إذا نحينا ذلك كله عن ابن قزمان يظل عندنا الزجّال الفنان الكبير الذي أعطى للزجل صورته العامية التامة و سلاسته و عذوبته المكتملة بحيث أصبح يخلب الألباب بخفته و رشاقته من مثل هذه الفقرة الأخيرة من الزجل رقم 5٨ في الديوان:
لا نسيت إذ زارني حبّى و انجلى همى و زاد كربى قلت له وقتا أخذ قلبي
قال متى تجين قل غدا و غدا للناظرين قريب
و الزجل من وزن الرمل مع تعديل طفيف في جزئي القفل. و الجزء الثاني في الغصن:
«و انجلى همى و زاد كربى» يدل على عمق شاعرية ابن قزمان و أحاسيسه، فحين زال همه زاد كربه، و هي صيغة لا يقولها إلا من شفّه العشق. و يقتطف صفي الدين الحلي هذا المطلع من أحد أزجاله )4):
قالوا عنّى بأنّى فيك عاشق إيش تقل يصدقوا
يا حبيبي لقيت كثير في الناس بالصواب ينطقوا
هذا شى و النّبى يا نور عيني ما تحّدثت بيه
ول باللّه خطر على بالى لا و لا خضت فيه
و الزجل من وزن المقتضب: مفعولات مستفعلن فعلن. و الفقرة رقيقة رقة شديدة، مع غير قليل من الرفق و العطف و الحب الذى يكظمه في نفسه و يشيع-دون إرادته-من حوله و حول محبوبته. و أنشد له ابن سعيد في المغرب طائفة من أزجاله الماجنة، و تتخللها أحيانا قطع أو فقر بديعة في وصف الربيع و الطبيعة مثل قوله:
الرّبيع ينشر علام مثل سلطانا مؤيّد
و الثمار تنثر حليّه بثياب بحل زبرجد
و الرياض تلبس غلالا من نبات فحل زمرّد
و البهار مع البنفسج يا جمال ابيض في أزرق
و استمر يذكر الندى يترقرق على الغصون و أزهار الخيرى و الآس، و الماء يجرى، و الظل يمتد يمينا و يسارا. و يستطرد إلى الحديث عن الخمر و إلى غزل يصور فيه غريزته النوعية. و واضح أنه صاغ هذا الزجل من وزن الرمل المرقص المطرب. و إذا كانت تشوب أزجاله أحيانا كلمات أو صيغ رومانثية فإنها جاءته من العامية الأندلسية، و هي أشياء محدودة لا تخرج صياغة أزجاله إلى صياغة لاتينية أو رومانثية كما ظنّ «ريبيرا» و غرسية غوميس، فالصياغة المطردة في أزجاله صياغة عامية عربية هي عامية الأندلس على نحو ما يلاحظ فيما أنشدناه من أزجاله. و بحق لا حظ صفي الدين الحلي أنه على الرغم من أنه دعا إلى أن تكون ألفاظ الزجل ملحونة و أن لا تكون من الألفاظ العربية الجزلة الرصينة فإن بأزجاله كثيرا من الألفاظ و الصيغ العربية الرصينة المصقولة و أيضا من الألفاظ المعربة بالحركات و الحروف، و استشهد صفي الدين لذلك كله و ما يماثله بشواهد كثيرة من أزجاله. (5)و لا نبالغ إذا قلنا إن أحدا لا يستطيع أن يدرس أزجال ابن قزمان و لا الأزجال الأندلسية دراسة لغوية و عروضية دون الرجوع-كما أسلفنا-إلى دراسة صفي الدين لها في كتاب العاطل الحالي، إذ لم يتصدّ أحد لدراستها دراسة علمية خصبة قبله، و سيظل كتابه منجما لا ينفد للدارسين لها و الباحثين.
و حري بنا أن نشير إلى أنه أصبح من الثابت بين علماء الاستشراق أن صيغة الزجل و نظامه و ما اقترن به من الموسيقى الأندلسية، كل ذلك أثر تأثيرا واسعا في الغرب، إذ على هديه ظهرت الطّرز الشعرية المقفاة عند أوائل التروبادور البروفانسيين. و يتحدث بالنثيا حديثا مفصلا عن مدى تأثيره في فرنسا و إنجلترا و ألمانيا و إيطاليا و البرتغال بدليل ما نشأ عندهم من أغان مقفاة على شاكلة القوالب الزجلية، و ليس ذلك فحسب فإنها تأثرت بمضامين الزجل الغزلية و ما فيها من تصور للعشق، و أيضا بما كان يرافقها من موسيقى. و يمضى بالنثيا في الحديث عن تأثير الزجل في الأغاني الإسبانية بطرازه الشعري و موسيقاه، و يذكر أن دواوين نظمت أكثر أغانيها و أناشيدها في قالب الزجل، منها ديوان ألفونس العاشر في القرن الثالث عشر (١٢٢١-١٢٨4م) الذي سماه أناشيد لمريم العذراء المقدسة و هو يتضمن أربعمائة و عشرين أنشودة منها نحو ثلاثمائة على نسق الأزجال الأندلسية و قوالبها المعروفة، و مثل هذا الديوان ديوان القس هيتا في القرن الرابع عشر الميلادي الذي سماه: «الحب الطيب» و يقول بالنثيا إن التشابه بين مقطوعاته و بين الأزجال لا يرقى إليه شك، و يمثّل ببعض مقطوعاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) راجع الزجل السابع في الديوان.
2)العاطل الحالي ص ٨٢.
3)العاطل الحالي ص ٢٢ و يؤكد صفي الدين ذلك قائلا إنهم خالفوا أحيانا بين الأوزان في الأقفال و الأغصان من غير أن يخسروا في الميزان.
4)العاطل الحالي ص ٣4.
5 (انظر العاطل الحالي ص 64 و ما بعدها.