مقولة ابن الفارض في مقام الفناء والتوحيد المطلق
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص92-85
2025-12-18
20
إنّ الشاعر العربيّ ابن الفارض يشبه الشاعر الفارسيّ حافظ الشيرازيّ في شعره العرفانيّ، وله في نظم السلوك قصيدة تعرف بالتائيّة الكبرى، وصف فيها مقام الإنسان الكامل بشكل باهر. تقع هذه القصيدة في سبعمائة وواحد وستّين بيتاً، ذكر فيها مراحل السلوك كلّها بنظم بديع واسلوب لطيف، ونكتفي هنا بذكر مقدار موجز من أواخرها حيث يتحدّث الشاعر عن تحقّق الأسماء والصفات الإلهيّة في الإنسان الكامل.
إلى أن يقول أنّ الامور التي نقلناها في هذا الدرس عن الفلاسفة الكبار والعرفاء العظام من المسلمين حقائق تنكشف للسالك وهو يعيش العرفان وشهود الحقّ جلّ وعزّ في عالم الفناء المطلق الذي يتمثّل في الفناء في الذات، والفناء في جميع أسمائه وصفاته؛ أي في مقام الولاية الكلّيّة إذ لا حجاب ولا غشاوة، وحتى حجاب الإنّيّة للسالك قد تمزّق وزال بما للكلمة من معنى؛ وفي هذا المقام تتحدّث ذات الحقّ المقدّسة نفسها، وترى، وتسمع، وتأخذ وتبطش.
وحذارِ من أن لا يصدّق الإنسان هذه الأمور، فيحملها على المجازفة والمبالغة، لأنّ هذه الحقائق كلّها هي في مقام العرفان والتوحيد؛ أي أنها في الحقيقة تصدر عن الشخص المتحقّق بالتوحيد، أي: عن الشخص الفاني، الباقي ببقاء الحقّ؛ أي: من الحقّ جلّ وعزّ نفسه؛ لأنّ مصدر الفعل والاصالة في العالم ليس غيره؛ غاية الأمر، أنّ الناس قبل مقام اللقاء والعرفان والفناء يخالون أنفسهم مستقلّين في امورهم، وذلك من وحي جهلهم. أمّا الآن فقد فهموا في عالم التوحيد أنهم كانوا على خطأ في فعلهم وقولهم؛ فالوجود المؤثّر والمستقلّ الوحيد ليس إلّا الذات الأحديّة فحسب {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والْإِكْرامِ}. وغاية سيرنا إلى الله مقام التوحيد؛ أمّا إنكار هذه المعارف فإنّه يحول دون سيرنا إلى الله، ويوصد طريق العرفان الإلهيّ بوجوهنا، ويبخس حقّنا بنقصان حظّنا من المواهب الإلهيّة المعطاءة واللامتناهيّة، ويحدّ من الاستعداد غير المتناهي لبلوغ مقام عزّه الشامخ، ويقيّده بأغلال الدنيا وحطامها التافه والأمور الاعتباريّة الخادعة الملهية، إلى أن يحين الأجل بغتة فيتلى علينا قوله تعالى: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ}.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الرائد على طريق الولاية المطلقة، والسبّاق الفريد في هذا المضمار، ومن مشكاة نوره استمدّ الأنبياء السابقون المكرّمون، بما فيهم اولو العزم.
وقد فتح طريق التوحيد المطلق والعرفان المحض والشهود الأسمائيّ والصفاتيّ والذاتيّ لأمّته بشكل مطلق ومرسل؛ وقد حظيت امّته بمواهب لم تحظ بها امم الأنبياء السابقين.
وانتقل هذا الفيض من بعده لمولى الموحّدين وأمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام وبنيه الكرام الأحد عشر واحداً بعد الآخر، وأصبح هذا المقام بشكل أكمل وأتمّ لبقيّة الله الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا له الفداء. ووجود سائر الأولياء والعرفاء الإلهيّون الحقيقيّون من بركات وجود اولئك العظام، وفي عصر الغيبة ينالون نصيبهم من بركات هذه المرآة الإلهيّة التامّة؛ فيبلغون الكمال؛ ويقطفون ثمرة الوصول والفناء.
أجل، فإنّ نبيّنا المقدّس صلّى الله عليه وآله وسلّم هو فاتح هذا الطريق لأمّته، وكان ولا يزال لأئمّة الحقّ والهدى عليهم السلام جميعاً هذا المقام؛ فالولاية التكوينيّة أمر بسيط من منظار أهل البصائر والفضائل والعرفاء الحقيقيّين؛ ويظفر بها كلّ من وطأت قدمه هذا المضمار بفضل الحقّ ورحمته.
وحينئذٍ أ فلا نأسف أن ننكر على رسول الله والأئمّة هذا المقام؟ ونكتفي بالألفاظ الجوفاء وحدها لبلوغ المقامات، ونخال أنّ كلّ فضيلة وكرامة هي أمر اعتباريّ وهميّ فحسب؟ أنّ الولاية التكوينيّة هي من الامور الضروريّة واللوازم الحتميّة للسير في طريق المعرفة، والعرفان، وشهود الحقّ. والمنكرون لها أيديهم خالية من المعارف الإلهيّة؛ ولم تترطّب شفاههم بماء حياة الولاية، ولم ينهلوا من الماء المعين للشهود والوجدان، أكبادهم حرّى، مثلهم كالكلاب العاوية في البيداء القاحلة، حائرة في تيه الجهل وأرضه الحصباء.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة