خطبة النبي لغزوة تبوك
المؤلف:
الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
المصدر:
التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة:
ج 3، ص126-129.
2025-10-24
25
خطبة النبي لغزوة تبوك
قال تعالى : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة : 42].
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : « إنهم كانوا يستطيعون ، وقد كان في العلم أنّه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا » « 1 ».
وقال عليه السّلام أيضا : « كذّبهم اللّه عزّ وجلّ في قولهم : لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ، وقد كانوا مستطيعين للخروج » « 2 ».
وقال أبو جعفر عليه السّلام ، في قوله : لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً ، يقول :
« غنيمة قريبة لَاتَّبَعُوكَ » « 3 ».
وقال عليّ بن إبراهيم ، في قوله تعالى : {وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } : يعني إلى تبوك ، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشدّ ، وكان سبب ذلك أن الصيّافة « 4 » كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدّرنوك « 5 » والطعام ، وهم الأنباط ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الروم قد اجتمعوا يريدون غزو
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في عسكر ، وأنّ هر قل قد سار في جنوده ، وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد قدم عساكره البلقاء « 6 » ، ونزل هو حمص .
فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أصحابه بالتهيؤ إلى تبوك ، وهي من بلاد البلقاء ، وبعث إلى القبائل حوله ، وإلى مكّة ، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة ، فحثّهم على الجهاد ، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع « 7 » ، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به ، ومن كان عنده شيء أخرجه ، وحملوا وقووا وحثّوا على ذلك .
وخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقال بعد حمد اللّه والثّناء عليه : « أيّها الناس ، إن أصدق الحديث كتاب اللّه ، وأولى القول كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السّنن سنّة محمد ، وأشرف الحديث ذكر اللّه ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الأمور عزائمها ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف القتلى الشّهداء ، وأعمى العمى الضّلالة بعد الهدى . وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتّبع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السّفلى ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشرّ النّدامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلّا نزرا ، منهم من لا يذكر اللّه إلّا هجرا ، ومن أعظم الخطايا اللّسان الكذب ، وخير الغنى غنى النّفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة اللّه ، وخير ما ألقي في القلب اليقين . والارتياب من الكفر ، والتباعد من عمل الجاهليّة ، والغلول من قّيح جهنّم ، والسّكر جمر النار ، والشّعر من إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنّساء حبائل إبليس ، والشّباب شعبة من الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الرّبا ، وشرّ الأكل أكل مال اليتيم ، والسّعيد من وعظ بغيره ، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه . وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى آخره ، وملاك الأمر خواتيمه ، وأربى الربا الكذب ، وكلّ ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه « 8 » من معصية اللّه ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن توكل على اللّه كفاه ، ومن صبر ظفر ، ومن يعف يعف اللّه عنه ، ومن كظم الغيظ يأجره اللّه ، ومن يصبر على الرّزيّة يعوّضه اللّه ، ومن يتّبع السّمعة يسمّع اللّه « 9 » به ، ومن يصم يضاعف اللّه له ، ومن يعص اللّه يعذّبه . اللهمّ اغفر لي ولأمّتي ، اللهمّ اغفر لي ولأمّتي ، أستغفر اللّه لي ولكم » .
قال : فرغب الناس في الجهاد لمّا سمعوا هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وقدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم ، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم ، ولقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الجدّ بن قيس ، فقال له : « يا أبا وهب ، ألا تنفر معنا في هذه الغزاة ، لعلّك أن تستحفد « 10 » من بنات الأصفر « 11 » ؟ » فقال : يا رسول اللّه ، واللّه إنّ قومي ليعلمون أن ليس فيهم أحد أشد عجبا بالنساء منّي ، وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر ، فلا تفتني ، وائذن لي أن أقيم . وقال لجماعة من قومه : لا تخرجوا في الحرّ . فقال ابنه :
تردّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وتقول له ما تقول ، ثمّ تقول لقومك : لا تنفروا في الحرّ ، واللّه لينزلنّ اللّه في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة . فأنزل اللّه على رسوله في ذلك : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة : 49].
ثمّ قال الجدّ بن قيس : أيطمع محمّد أنّ حرب الرّوم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا « 12 ».
_______________
( 1 ) التوحيد : ص 351 ، ح 15 .
( 2 ) التوحيد : ص 351 ، ح 16 .
( 3 ) تفسير القميّ : ج 1 ، ص 290 .
( 4 ) أي الذين يمترون في الصيف .
( 5 ) الدرنوك : ضرب من البسط ذو خمل . « الصحاح - درنك - ج 4 ، ص 1583 » .
( 6 ) البلقاء : كورة من أعمال دمشق ، بين الشام ووادي القرى . « معجم البلدان : ج 1 ، ص 489 » .
( 7 ) ثنيّة الوداع : اسم موضع مشرف على المدينة . « معجم البلدان : ج 2 ، ص 86 » .
( 8 ) قوله : وأكل لحمه ، أي بالغيبة .
( 9 ) أي يعمل العمل ليسمعه الناس ، أو يذكر عمله للناس ويجبّ ذلك ، ويسمع اللّه به : أي يشهر اللّه تعالى بمساوىء عمله وسوء سريرته .
( 10 ) حفد : خدم ، وقوله : تستحفد ، أي تجعلهنّ حفدة لك ، أي أعوانا وخدما .
( 11 ) بنو الأصفر : ملوك الروم .
( 12 ) تفسير القميّ : ج 1 ، ص 290 .
الاكثر قراءة في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة