موعظة
المؤلف:
الحارث بن أسد المحاسبي
المصدر:
آداب النفوس
الجزء والصفحة:
ص 131 ـ 134
2025-06-08
579
أراك تحبّ أهل التواضع والصدق والأمانة حتّى لو رأيت قبورهم وآثارهم لأحببتها فيما تزعم، وتكره خصالهم التي بها نالوا الحب منك حتّى لو قدرت أن تكون في أعدى عدوّك بعد أن تزول عنك لكان ذلك منيّتك.
فإمّا ان تكون تريد مخادعة الله اذ علمت أنّه يطّلع منك على ذلك وإمّا أن تكون لا تحسن أن تطلب الخير.
يا أخي إنّ الجائع يحب الخبز وإنّ العطشان يحب الماء ولو جعل الخبز والماء بين أيديهما على مائدة أو عُلِّقَ في أعناقهما ما نفعهما علمهما بأنَّ الخبز والماء معهما ولا ينفعهما قربهما منهما دون أن يأكلا من الطعام ويشربا من الشراب، وهكذا أنت لا ينفعك علمك بالخير ولا قربه منك ولا حبّك له حتّى يكون فيك وتكون من أهله بل لا أزعم أنّك تحبّه ولكنّك مخدوع أو مخادع في دعواك أنَّك تحبّه.
يا أخي هل رأيت عطشان استمكن من الماء البارد فلم يشربه إلا مدّعٍ للعطش ليس بعطشان، أو هل رأيت جوعان وجد طعامًا قد أمكنه فلم يأكله إلا مدّعٍ للجوعِ ليس بجوعان.
فما أبين إبطال دعواك فيما تزعم أنّك تحبّ الخير وأهله إذا قست ما تحبّ من الدنيا بما تحب من الآخرة؛ لأنّي أراك إذا أحببت شيئًا من الدنيا أحببت ألّا يكون له مالك غيرك، هذا هو الحبّ الصادق بعينه، فإذا أحببت شيئًا من أعمال الصالحين ـ فيما تزعم ـ فليس شيء أثقل عليك من أن تكون أنت صاحبه، ولو كنت محبًّا له لأحببت ألّا يكون أحد سبقك، ولا يملك منه أكثر من الذي تملك.
يا أخي أما آن لك أن تملّ وتشبع من الكذب والاغترار بالله تعالى؟! أما آن لك أن تحبّ أن يكون اسمك يومًا واحدًا من جميع عمرك مع أسماء الصالحين المتواضعين المخلصين الناصحين الشاكرين الراضين الصابرين المسلمين الواثقين المتوكّلين المفوّضين الخائفين المشتاقين العارفين العالمين الموقنين؟!
بحقٍّ أقول لك: لو مات أحد من العجب كان ينبغي لك أن تموت مكانك إذا نظرت فيما انت فيه من إيثارك للدنيا وإقبالك عليها مع استيقانك بأنّها لا شيء، ورضاك بترك طريق الصالحين وأهل الخير وصحبة محمد ـ صلى الله عليه [وآله] وسلّم ـ ومجاورته في الجنّة. فلو كانت صحبته في الدنيا، ثم تركت الدنيا كلّها وآثرت صحبته لكان الذي تركت حقيرًا عند الذي نلت، فكيف الصحبة في الجنّة مع دوام الملك في جوار الله وجوار أحبابه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا في الحبرة والنعمة والسرور الدائم الأبديّ.
فراجع نفسك يا أخي وانظر ما في هذه المخادعة وما الذي قد غلبك وغلب يقينك او ما هذه الخدعة التي دخلت عليك.
وفكّر فيما تصير اليه من موازنة عملك وسؤال الله ايّاك عن مثاقيل الذر والخردل وما فوق ذلك ودون ذلك.
وفكّر في سرعة انقضاء الأجل وعليك بقصر الأمل فلا تفارقه ولا يفارقك طرفة عين لا في ليل ولا في نهار.
يا سبحان الله كيف لا تدهش ولا يذهب عقلك تعجّبًا من أمرك؟!
فراجع أمرك وانظر ما يراد منك فإنّما يراد منك إذا عملت عملاً أن تريد به وجه الله او لا تعمله فهل تكون اقل من هذا؟ هذا في نوافلك، وأمّا فرائضك فإنّك غير معذور في تضييع مثقال ذرّة منها حتّى تعمل بما أمرت به وتنتهي عمّا نهيت عنه وما كلّفت أمرًا لا تطيقه وما كلّفت ما لم يكلّف به غيرك.
ويراد منك مع ذلك أن تريد للناس الخير وإن لم ترد لهم الخير فلا ترد لهم الشر فهل تكون أقل من هذا؟ أو ترضى لنفسك أنّ الناس يريدون لك الخير وأنت تريد لهم الشر؟!
ويراد منك ألّا تجعل نفسك فوق النّاس في نفسك لا بقلبك ولا بلسانك أفتكون أقلّ من هذا وقد دعيت أنت والنّاس إلى هذا لا أنت وحدك.
وقال: أخبرني إن أنت خالفت هذا الأمر وأردت بعملك غير الله وأردت أن ترفع نفسك فوق الناس أو لم تحب لهم ما تحب لنفسك أتدرك أو تنال ما تأمل من ذلك؟!
أولست تعلم أنَّك أبعد ما تكون من الله إذا كنت كذلك؟!
ومع هذا لا أراك تطلب الدنانير والدراهم فتنتفع بها وترتفق بها في أيّامك هذهـ وإنّما تطلب بذلك الثناء والجاه والقدر وقد اخترت سيرة تستوجب بها البغض ممّن خالفك وتستوجب البغض أيضًا ممّن وافقك عليها لو ظهر من أمرك ما خفي ولا بُدَّ من أن يظهر يومًا ما.
الاكثر قراءة في إضاءات أخلاقية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة