1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الأدب الــعربــي : الأدب : الشعر : العصر الاسلامي :

خطباء السياسة

المؤلف:  شوقي ضيف

المصدر:  تاريخ الأدب العربي - العصر الاسلامي

الجزء والصفحة:  ص:411-422

8-6-2021

2889

خطباء السياسة

نمت الخطابة السياسية في هذا العصر ونهضت نهوضا عظيما، إذ دارت على كل لسان مؤيد أو معارض للدولة، فأيان وليت وجهك في السلم والحرب وجدت الخطباء متراصين في صفوف متلاحقة يخطبون الناس محاولين أن يستميلوهم الى آرائهم داحضين بكل ما وسعهم آراء خصومهم. وتموج كتب الأدب والتاريخ بما نثروه من خطبهم وأقوالهم وارجع الى الطبري فستراه لا يعرض عليك أي رأي دون أن يشفعه غالبا بما خطب به صاحبه وأورد من حجج تؤيده، وكثيرا ما يناقضه خصومه مظهرين ما في رأيه من تمويه.

وليس هناك حزب ولا ثورة كبيرة أو صغيرة إلا وخطباء كثيرون ينبرون للترويج لهذا الحزب، أو تلك الثورة، فللخوارج خطباؤهم، وكذلك للشيعة وللزبيريين ولابن الأشعث وغيره من الثوار. وكان يقابل هؤلاء الخطباء المعارضين للدولة خطباء كثيرون يؤيدون بني أمية من ذات أنفسهم أو من ولاتهم وقوادهم.

وهناك في أطراف الدولة شرقا وغربا خطباء مفوهون يستحثون الجيوش على الجهاد في سبيل الله والتنكيل بأعدائهم تنكيلا شديدا. وبذلك انتشرت الخطابة السياسية في كل مكان وعلي كل لسان.

ولعل حزبا لم يكثر خطباؤه كما كثروا في الخوارج، إذ كانوا شديدي الحماسة لعقيدتهم، ولم يدعوا لها سرا كما دعا الشيعة في أكثر الأمر، بل دعوا لها جهارا، شاهرين سيوفهم في وجوه بني أمية وولاتهم. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن جمهور خطبهم سقط من يد الزمن ولم يصلنا، لأن الناس من غير بيئتهم كانوا يتحرجون من روايتها، إذ كانوا يرون فيهم ثوارا خارجين على الجماعة، ويظهر أنهم أنفسهم لم يحرصوا على تسجيلها وروايتها. ومع ذلك فقد بقيت منها بقية احتفظت بها كتب الأدب والتاريخ، وأيضا فإنها احتفظت، وخاصة كتاب البيان والتبيين، بأسمائهم (1).

 

  1.  

وأول من يلقانا من خطبائهم حيان بن ظبيان السلمي والمستورد بن علفة لعهد المغيرة بن شعبة في ولايته على الكوفة لمعاوية. ولا نلبث أن نلتقي بنافع ابن الأزرق وطائفة من زعمائهم لدي عبد الله بن الزبير يناظرونه حتي إذا لم يجدوه على رأيهم انصرفوا عنه الى البصرة، وهناك انقسموا-علي نحو ما مر بنا-إلي أزارقة ونجدات وصفرية وإباضية، وأسرع الأزارقة فأعلنوا ثورتهم وشهروا سيوفهم في وجوه ولاة ابن الزبير ثم من خلفوهم من ولاة بني أمية، وتصدي لهم المهلب ابن أبي صفرة وقواد آخرون، ومزقوهم شر ممزق.

وقد ظلت نيران هذه الحروب مع الأزارقة مستعرة نحو خمسة عشر عاما كانت تحتدم فيها المعارك الحربية واللسانية من الشعر والخطابة، ومن أهم خطبائهم نافع بن الأزرق والزبير بن على الذي وليهم بعد نافع وابن الماحوز، وله خطب مختلفة يحرضهم فيها على القتال والاستشهاد طلبا لما عند الله من الثواب.

وتلقانا في خطابتهم نفس الروح التي وصفناها في أشعارهم، إذ نراهم يدعون للترامي على الموت ترامي الفراش على النار غير آبهين بالحياة الدنيا، إنها حياة زائفة، وهم يريدون الحياة الخالدة في الدار الآخرة. وهم إنما يحاربون في سبيل الحق، يحاربون تلك الفئة التي ضلت في رأيهم، وكل منهم يلتمس الشهادة، يقول الزبير في بعض خطبه (2): «إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي. وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين».

فهم في رأيه الفئة المحقة وخصومهم الفئة المبطلة، وهم المؤمنون حقا وغيرهم الكافرون، وقتلاهم في الجنة أما قتلي غيرهم ففي النار، وهم لذلك يطلبون الاستشهاد، بل يطلبون العجلة إليه، حتي يتخلصوا من الدنيا ومتعها الزائلة، وكأنما يرون في الموت نفسه ضربا من الغلبة على خصومهم الذين غلبوا على الدنيا، ولا يريدون أن يغلبوهم أيضا على الآخرة.

وإذا كنا لاحظنا في شعرهم تنفيرا من الدنيا، حتي ليتحول في بعض جوانبه الى موعظة خالصة فكذلك الشأن في خطبهم، على نحو ما يلقانا في خطبة قطري ابن الفجاءة قائدهم بعد الزبير بن علي، وهو يستهلها على هذا النمط (3):

 

  1.  

 

«أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة (4)، حفت بالشهوات. . .

مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة (5)، إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا، إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطله غبية (6) رخاء، إلا هطلت عليه مزنة (7) بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولي (8) أمر عليه منها جانب وأوبي (9)، وإن آتت امرءا من غضارتها (10) ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم (11) خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية، فان من عليها، لا خير في شئ من زادها إلا التقوي».

وتمضي الخطبة وهي طويلة على هذا النحو من الوعظ والترغيب والترهيب، وواضح ما فيها من جمال اللفظ وروعة أسره، وقد اختار لها قطري السجع حتي يؤثر في نفوس سامعيه أقوي تأثير، ولم يكتف بالسجع، بل أضاف إليه التصوير، كما أضاف الطباق، حتي يبلغ كل ما يريد من تنميق معانيه.

وممن اشتهر من خطباء الأزارقة عبيدة بن هلال اليشكري وزيد بن جندب الإيادي وعبد رب الصغير.

ويلقانا بين خطباء الصفرية عمران بن حطان وصالح بن مسرح الذي كان يعظهم ويقص فيهم قصصا كثيرا وكان في وعظه وقصصه يحمل على بني أمية ومن معهم من الجماعة الإسلامية حملات شعواء، حتي إذا بلغ من إثارة أصحابه في الجزيرة والموصل ما أراد خرج على الحجاج، وقتل، فخلفه شبيب الذي دوخ جيوش الحجاج طويلا، ومن قول صالح في بعض مواعظه (12):

«أوصيكم بتقوي الله والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه، حتي

 

  1.  

يجأر (13) إليه ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: {{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}} وإن حب المؤمنين للسبب الذي ينال به كرامة الله ورحمته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين».

ومضي على هذه الشاكلة يعظ من حوله من الصفرية ويحرضهم على قتال بني أمية أئمة الضلال الظلمة كما يقول، حاثا لهم أن يلحقوا بإخوانهم المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة ابتغاء رضوان الله. وممن اشتهر بين الصفرية بالخطابة الطرماح بن حكيم وشبيل بن عزرة الضبعي والضحاك بن قيس الذي خرج لعهد مروان بن محمد وغلب على العراق فترة من الوقت.

ولم تحدثنا كتب الأدب والتاريخ عن خطباء النجدات، أما الإباضية فقد اشتهر من بينهم بالخطابة عبد الله بن يحيي الكندي الملقب بطالب الحق، وقد دعا الى الثورة على الأمويين في سنة 129 واستطاع أن يستولي على حضرموت واليمن، واتجهت جيوشه بقيادة أبي حمزة قائده الى الحجاز فاستولت عليه.

ولم تلبث جيوش مروان بن محمد أن ردت الأمر الى نصابه. ولأبي حمزة خطب مأثورة تدل دلالة بينة على أنه كان من راضة الكلام، وربما كان أروع خطبه كلمته التي ألقاها في مكة، ويقال بل ألقاها في المدينة (14)، وهو يستهلها بالثناء على أبي بكر وعمر ولا يلبث أن يطعن في عثمان ومن جاء بعده من خلفاء بني أمية، مصورا تعطيلهم لحدود الله وأحكامه وأخذهم للرعية بالبطش والظلم، منددا بمن اشتهروا منهم باللهو والمجون مثل يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك.

وينتقل الى تصوير الخوارج وإخلاصهم لعقيدتهم وتقواهم وزهدهم في الدنيا وجهادهم في سبيل الله مستعذبين للاستشهاد إذ يرون فيه الحياة كل الحياة، الحياة الباقية التي لا تفني، يقول متحدثا عن شبابهم:

«شباب والله مكتهلون (15) في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن

 

  1.  

الباطل أرجلهم، أنضاء (16) عبادة وأطلاح (17) سهر، ينظر الله إليهم في جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكي شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه. موصول كلالهم (18) بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار. . حتي إذا رأوا السهام قد فوقت (19) والرماح قد أشرعت (20) والسيوف قد انتضيت (21)، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضي الشباب منهم قدما، حتي اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء.

فكم من عين في منقار طائر طالما بكي صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله».

وهي صورة رائعة لشباب الخوارج أحكم أبو حمزة إخراجها في ألفاظ طلية تستميل القلوب بعذوبتها، ومعان تحيط بكل ما أراد من تمثيل تقوي الخوارج وإيثارهم لما عند الله من النعيم، وتمثيل اندفاعهم على حياض الموت كل يود أن يكون السابق الى دار الخلود وأن يموت قعصا بالرماح، وأن تنوشه سباع الحيوان والطير، حتي يستحق رضوان ربه.

وعلي نحو ما كان للخوارج خطباؤهم كان للشيعة خطباء كثيرون، وكانوا على شاكلة خطباء الخوارج ينددون دائما ببني أمية، وأنهم اغتصبوا الخلافة، وساروا فيها سيرة جائرة عطلوا فيها أحكام الشريعة وما رسمه القرآن ورسوله الكريم. وكانوا لا يزالون يرددون أن أبناء على هم أصحاب الخلافة الشرعيون بغي عليهم بنو أمية إذ انتزعوا منهم ميراثهم عن الرسول الكريم. وتدور هذه الأفكار دائما في خطابتهم وخطابة أئمتهم، على نحو ما نجد عند الحسين حين اقترب من الكوفة واجتمع

 

  1.  

الناس من حوله ولقيته مقدمات الجيش الذي أرسله له عبيد الله بن زياد، فقد انصرف الى القوم بوجهه، يقول في كلمة له (22).

«أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضي لله.

ونحن-أهل البيت-أولي بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان».

وتتطور الأمور ويقتل الحسين، ويتخذ الشيعة من مقتله دليلا واضحا على ظلم بني أمية وأنهم يسوسون الأمة سياسة جائرة، فقد استباحوا دم حفيد الرسول صلي الله عليه وسلم. ويتوفي يزيد بن معاوية فيتجمع كثير من شيعة الكوفة بقيادة سليمان بن صرد، فيعلنون توبتهم من السكوت عن الثأر للحسين وما كان من القعود عن نصرته. ويخطب سليمان وكثيرون غيره محرضين على الثورة، وهم في تضاعيف ذلك يقررون حق آل البيت في الخلافة لقرابتهم من الرسول مستثيرين الناس على الأمويين لما سفكوا من دم الحسين الطاهر ابن بنت الرسول، من ذلك قول سليمان بن صرد في إحدي خطبه (23):

«قتل فينا ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة (24) من لحمه ودمه. .

اتخذه الفاسقون غرضا للنبل. . ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا الى الحلائل (25) والأبناء حتي يرضي الله. والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله أو تبيروا (26)».

وكان من زعماء التوابين معه عبيد الله بن عبد الله المري، وكان خطيبا لا يباري، فمضي يعظ الناس ويحرضهم على الانتقاض على الأمويين بمثل قوله (27):

«هل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقا على هذه الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله ما كان ولا يكون، ألم تروا ويبلغكم ما اجترم (28) الى ابن بنت نبيكم. . وترميلهم (29) إياه بالدم وتجرارهموه على الأرض؟ لم يراقبوا فيه ربهم

 

  1.  

ولا قرابته من الرسول صلي الله عليه وسلم. . ابن أول المسلمين إسلاما وابن بنت رسول رب العالمين، قتله عدوه وخذله وليه، فويل للقاتل وملامة للخاذل. . إلا أن يناصح لله في التوبة، فيجاهد القاتلين. . وعسي الله عند ذلك أن يقبل التوبة ويقيل العثرة. . إنا ندعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته وإلي جهاد المحلين والمارقين».

وخرج التوابون من الكوفة الى الشمال فالتقوا بجيش أموي نكل بهم وفرق جموعهم، فارتدوا الى الكوفة، وهناك تلقاهم المختار الثقفي، زاعما أن ابن الحنفية-علي الرغم من تبرئه منه-بعثه على الشيعة أميرا وأمره بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته. وهو يعد المؤسس الحقيقي لفرقة الكيسانية المشهورة في تاريخ الشيعة، وقد مر بنا تصوير عقيدتها ومدي ما ذهبت إليه من غلو وإسراف، وكيف أنها كانت تدعو لابن الحنفية محمد بن علي، وتعده وصيه والإمام المهدي المنتظر. وكان المختار خارجيا ثم صار زبيريا ثم صار كيسانيا (30) وكان لسنا فصيحا، من أهل الدهاء، فجمع الشيعة حوله، ووجههم بقيادة إبراهيم بن الأشتر لحرب أهل الشام فالتقوا بهم في «خازر» وعصفوا بهم عصفا. ولم يلبث مصعب بن الزبير والي البصرة لأخيه عبد الله أن قضي عليه بعد معارك طاحنة. وكانت في المختار شعوذة كثيرة، جعلته يتأثر في خطابته كهنة الجاهلية، حتي كان يزعم- على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع، أنه يوحي إليه، مصورا هذا الوحي في فقرات من السجع يوشيها بالأيمان واللفظ الغريب على شاكلة قوله (31):

«أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه (32) والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار (33)، ومهند بتار (34)، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار (35)، ولا بعزل (36) أشرار، حتي إذا أقمت عمود الدين ورأبت شعب (37) صدع المسلمين، وشفيت

  1.  

 

غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتي».

وأكبر الظن أنه قد اتضحت لنا المعاني التي كان يرددها خطباء الشيعة، وهي معان ترد الى بيان حقوق آل البيت في الخلافة، وأن على المسلمين أن ينصروهم، وأن يأخذوا بثأر من قتله الأمويون منهم. وفي تضاعيف ذلك يحمل خطباؤهم على بني أمية حملات عنيفة مصورين ظلمهم ونقضهم لأحكام الكتاب والسنة. ومن أعلام الخطابة الشيعية زيد بن على وابنه يحيي، وإن كانت كتب الأدب والتاريخ الوثيقة لم تحتفظ بشئ من خطابتهما، وكذلك هي لم تحتفظ بشئ من خطابة بني صوحان: صعصعة وزيد وسيحان وكانوا شيعة وفي الذروة من البيان والفصاحة. وقد احتفظ ابن أبي الحديد بكثير من المخاصمات والمحاورات بين الحسن بن على وعمرو بن العاص وبعض بني أمية، وهي مخاصمات يغلب عليها الانتحال، ومثلها المخاصمات التي دارت بين ابن عباس ومعاوية وبعض أصحابه مما احتفظ به ابن أبي الحديد والعقد الفريد والمسعودي.

ولم يعش حزب الزبيريين طويلا، ولذلك لم يتكاثر خطباؤه، وعبد الله ابن الزبير خطيب هذا الحزب، وكان مفوها بليغا يعرف كيف يخلب الألباب بكلامه، ويستولي على النفوس بحلاوة منطقه، وهو في خطابته يتناول الأمويين بالقدح والتجريح، وقد استغل مقتلهم للحسين ليبين غدرهم وما يتورطون فيه من آثام. وله مناظرة مع الخوارج تدل على قوة منطقه وحدة ذكائه (38)، وأيضا له خطبة مشهورة خطبها حين جاءه نعي أخيه مصعب واستيلاء عبد الملك بن مروان على العراق، وهي تصور رباطة جأشه وصدق يقينه، وفيها يقول (39):

«إن يقتل فقد قتل أبوه وعمه وابن عمه (40)، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت حتف أنوفنا (41)، ولكن قعصا (42) بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف،

 

  1.  

وليس كما يموت بنو مروان، والله ما قتل منهم رجل في زحف في جاهلية ولا إسلام قط. ألا وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا على لم آخذها أخذ الأشر (43) البطر، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين (44)».

ولأخيه مصعب خطب مدونة، وقد جعل إحداها آيات قرآنية خالصة (45)، ولأمهما أسماء مع ابنها عبد الله محاورة (46) طريفة حين حاصره الحجاج في مكة وتخاذل عنه الناس.

وإذا تركنا خطباء الأحزاب السياسية الى خطباء الثورات كان أول من نلقاه منهم عبد الله بن حنظلة زعيم ثورة المدينة ضد يزيد بن معاوية، ثم عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لبلاغته في خطابته، وقد ثار على عبد الملك بالشام سنة 69 للهجرة وقضي عليه. ويلقانا بعد ذلك عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث في ثورته على الحجاج، وكان مدرها مفوها، ومن خطباء ثورته عامر بن واثلة الكناني وعبد المؤمن بن شبث بن ربعي. ولا نصل الى عصر سليمان ابن عبد الملك حتي يثور عليه قتيبة بن مسلم الباهلي في خراسان حاضا الجند على متابعته. ونستقبل مع أوائل القرن الثاني ثورة يزيد بن المهلب على يزيد ابن عبد الملك، وكان خطيبا بليغا، وطالما خطب في جنوده يحرضهم على أهل الشام.

وكل من سميناهم من هؤلاء الثوار تتناثر خطبهم في الطبري وكتب الأدب، وهي كلها تدور على إثارة الناس ضد بني أمية وبيان ما في حكمهم من ظلم وما يأخذهم به ولاتهم من عسف وكيف أنهم جميعا عطلوا أحكام الشريعة واستأثروا بالفئ، حتي لنري يزيد بن المهلب في بعض خطبه يجعل جهادهم أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم (47).

وكان يقف في الصف المقابل من هؤلاء الخطباء المعارضين خطباء بني أمية، يتقدمهم الخلفاء، ثم الولاة والقواد، وممن اشتهر من الخلفاء بإحكام الصنعة في

 

  1.  

الخطابة مع جهارة المنطق وطلاوة الكلم معاوية وعبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد الناقص، وقد وصف بعض الشعراء مهارة معاوية في خطابته فقال (48):

ركوب المنابر وثابها … معن بخطبته مجهر (49)

تريع إليه هوادي الكلام … إذا ضل خطبته المهذر (50)

وخطابته قسمان: قسم سياسة خالصة، وقسم مواعظ وترغيب وترهيب، وهو في القسم الأول يدعو الى الطاعة ملوحا بما في يديه من قوة ومن عطايا وهبات، ومن خير ما يمثل ذلك خطبته في عام الجماعة سنة 41 للهجرة بالمدينة (51). وهو في القسم الثاني ينفر من الدنيا والتعلق بمتاعها الزائل، ومن خير ما يمثل هذا القسم خطبة رواها له الجاحظ (52)، وقد اتهم نسبتها إليه وقال إنها حرية بأن تنسب الى على بن أبي طالب. والجاحظ بهذا الاتهام يقسو على معاوية، وكأنه نسي أنه من كتاب الوحي وأنه من جلة الصحابة. وتتردد في خطابة عبد الملك مطالبة الرعية بالطاعة لخليفتهم، مع التهديد والوعيد لمن تحدثهم نفوسهم بالخروج عليه (53)، أما عمر بن عبد العزيز فخطبه مواعظ خالصة، يتحدث فيها عما ينتظر الإنسان من الموت وانتقاله الى دار الخلود ومحاسبته على ما قدمت يداه على شاكلة قوله في كلمة له (54):

«أيها الناس! إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدي، وإن لكم معادا يحكم الله نبيكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شئ وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف الله اليوم وباع قليلا بكثير وفائتا بباق، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون، كذلك حتي تردوا الى خير الوارثين».

وليزيد الناقص حين ولي الخلافة بعد قتله ابن عمه الوليد بن يزيد خطبة

 

  1.  

بديعة (55) يصور فيها سياسته ودستوره في الحكم معلنا أنه إن وفي بما عاهد عليه الله فعلي الناس السمع والطاعة وإلا فلهم أن يخلعوه، ويقول إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وكان ولاة بني أمية وقوادهم لا يزالون يستوجبون على الناس الطاعة والولاء لخلفائهم، نجد ذلك عند عتبة بن أبي سفيان والي مصر وعند ولاة العراق من أمثال زياد والحجاج وخالد القسري، وكانوا يضيفون الى ذلك وعيدا وتهديدا باستخدام القوة. ولعل أحدا لم يبلغ من ذلك ما بلغه الحجاج، ومن خير ما يمثل ذلك خطبته في الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك، وفيها يقول (56):

«إني لأري رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر الى الدماء ترقرق بين العمائم واللحي. إني والله يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ما أغمز تغماز التين ولا يقعقع لي بالشنان (57)، ولقد فررت (58) عن ذكاء وفتشت عن تجربة. إن أمير المؤمنين كب كنانته (59) ثم عجم (60) عيدانها، فوجدني أمرها عودا، وأصلبها عمودا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم (61) في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونكم (62) لحو العصا ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل (63). . أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده».

وهو يفتتح هذه الخطبة بأشعار تمتلئ باللفظ الغريب، حتي يأخذ على سامعيه أنفاسهم. وقد زخرت خطبته بأسلوب تصويري قوي، وهو يعد في الذروة من أهل الخطابة والبيان في العصر، حتي ليوضع مع زياد بن أبيه في طبقة واحدة، وإن فضله زياد بحلاوة منطقه، فقد كان يمتاز بجزالة اللفظ وفخامته،

 

  1.  

ولعل من الطريف أن كتب الأدب احتفظت له بمواعظ كثيرة، ويروي أن الحسن البصري كان يقول عنه إنه «يعظ عظة الأزارقة ويبطش بطش الجبارين» (64) ومن قوله في بعض مواعظه: «اللهم أرني الهدي هدي فأتبعه وأرني الغي غيا فأجتنبه ولا تكلني الى نفسي فأضل ضلالا بعيدا (65)».

وكان خالد القسري خطيبا مفوها، مع لحن كان فيه، وكان إذا تكلم ظن الناس أنه يصنع كلامه لجمال لفظه وبلاغة منطقه، وله خطب كثيرة يحث فيها على طاعة الخلفاء منذرا متوعدا من ينقض حبل الجماعة. وأكثر في خطب الجمع من المواعظ، حتي سمي خطيب الله (66)، ويروي أنه كان يخطب يوما فسقطت جرادة على ثوبه، فقال (67):

«سبحان من الجرادة من خلقه، أدمج قوائمها، وطوقها جناحها، ووشي جلدها، وسلطها على ما هو أعظم منها».

وإذا كان قواد المعارك الدامية من خوارج وشيعة وثائرين مختلفين حاربوا بني أمية غضبا لدينهم كما دار على ألسنة خطبائهم فإن قواد بني أمية في الصفوف المقابلة كانوا يزعمون نفس الزعم، على نمط قول مسلم بن عقبة قائد أهل الشام في وقعة الحرة: «يا أهل الشام أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا عن دينهم وأن يعزوا به نصر إمامهم (68)» وقول المهلب بن أبي صفرة في حث جنده على قتال الأزارقة: «يا أيها الناس إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج وإنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم (69)». فقواد بني أمية في هذه الحروب الداخلية كانوا مثل خصومهم يرون أن الحق في جانبهم وأن أعداءهم أهل غي وضلال.

وكان قواد الفتوح شرقا وغربا وفي بلاد الروم لا يزالون يحثون جنودهم على الاستشهاد في سبيل الله مقتبسين من آي الذكر الحكيم ما يشعل حماستهم،

 

  1.  

ويذكي جذوة شجاعتهم وبسالتهم، ومن خير ما يمثل ذلك خطبة قتيبة بن مسلم الباهلي وقد تهيأ لغزو طخارستان سنة 86 للهجرة وفيها يقول (70):

«وعد الله نبيه صلي الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال: {{هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}} ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده، فقال:

{{ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}} وأخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق فقال: {{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}} فتنجزوا موعود ربكم».

 

واشتهر في خراسان بعد قتيبة غير قائد بالخطابة مثل أسد القسري ونصر ابن سيار، ويلقانا في الغرب طارق بن زياد فاتح الأندلس، وخطبته في جنده حين دخلها مشهورة (71)، ولعل من الخير أن نقف قليلا عند زياد بن أبيه حتي نتمثل تمثلا واضحا ما أصاب الخطابة السياسية في هذا العصر من نهوض ورقي.

 

 

 

  •  

(1) البيان والتبيين 1/ 243 وما بعدها و 2/ 364 وما بعدها.

(2) الكامل للمبرد ص 640.

(3) البيان والتبيين 2/ 126 وعيون الأخبار.2/ 250 والعقد الفريد 4/ 141.

(4) خضرة: ناضرة.

(5) حبرة: سرور.

(6) الطل: المطر القليل. الغبية: المطرة القليلة.

(7) الهطل: المطر الكثير. المزنة: السحابة الممطرة.

(8) احلولي: صار حلوا.

(9) أوبي: من الوباء.

(10) الغضارة: النضارة والخصب.

(11) القوادم: الريش في مقدم جناح الطائر.

(12) تاريخ الطبري 5/ 50.

(13) يجأر: يضرع ويستغيث.

(14) انظر البيان والتبيين 2/ 122 وعيون الأخبار 2/ 249 والعقد الفريد 4/ 144 والأغاني 20/ 104.

(15) مكتهلون: يريد أن لهم رزانة الكهول.

(16) أنضاء: مهزولون.

(17) أطلاح: مكدودون.

(18) الكلال: التعب والإعياء.

(19) فوق السهم: جعل له فوقا وهو موضع الوتر من السهم يصنع به ذلك إذا أعد للرمي.

(20) أشرعت: سددت.

(21) انتضيت: استلت.

(22) طبري 4/ 303.

(23) طبري 4/ 428.

(24) بضعة: قطعة.

(25) الحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة.

(26) تبيروا: تهلكوا.

(27) طبري 4/ 433.

(28) اجترم: اقترف وارتكب.

(29) ترميلهم: من رمله إذا لطمه بالدم.

(30) الملل والنحل ص 109.

(31) طبري 4/ 450.

(32) المهامه: الفيافي.

(33) اللدن: الرمح، الخطار: الضارب.

(34) المهند: السيف، البتار: القاطع.

(35) الميل: جمع أميل وهو الجبان، الأغمار: جمع غمر وهو ناقص التجربة.

(36) العزل: جمع أعزل وهو من لا سلاح معه.

(37) رأب: أصلح. الشعب: الفتق والصدع.

(38) طبري 4/ 437 وما بعدها.

(39) العقد الفريد 4/ 412 وعيون الأخبار 2/ 420.

(40) أبوه الزبير قتل عقب موقعة الجمل وعمه عبد الرحمن بن العوام قتل يوم اليرموك وابنه عبد الله قتل يوم الدار. انظر أسد الغابة 3/ 213.

(41) يقال مات حتف أنفه إذا مات على الفراش.

(42) قعصا: موتا سريعا.

(43) الأشر: البطر.

(44) الخرق: الدهش خوفا. المهين: الحقير.

(45) البيان والتبيين 2/ 299 والعقد الفريد 4/ 135.

(46) طبري 5/ 30.

(47) طبري 5/ 335.

(48) البيان والتبيين 1/ 127.

(49) معن: تعن له الخطبة فيخطبها مقتضبا لها.

(50) تريع: ترجع. هوادي الكلام: أوائله.

(51) العقد الفريد 4/ 81.

(52) البيان والتبيين 2/ 59 وما بعدها.

(53) العقد الفريد 4/ 401 والأمالي 1/ 12.

(54) البيان والتبيين 2/ 120 وعيون الأخبار 2/ 246.

(55) البيان والتبيين 2/ 141.

(56) البيان والتبيين 2/ 307 وعيون الأخبار 2/ 244.

(57) القعقعة: التحريك، الشنان: جمع شن وهو القربة البالية كانوا يحركونها إذا استحثوا الإبل للمسير. مثل يضرب لمن يروعه ما لا حقيقة له.

(58) فررت: اختبرت.

(59) الكنانة: جعبة السهام.

(60) عجم: اختبر.

(61) أوضع: أسرع في سيره أو ساربين القوم.

(62) لحا العصا: قشرها.

(63) قال الجاحظ: تضرب عند الهرب وعند الخلاط على الحوض إذ تختلط بغيرها فتضرب وتبعد.

(64) البيان والتبيين 3/ 164.

(65) البيان والتبيين 2/ 137 والعقد الفريد 4/ 115.

(66) البيان والتبيين 2/ 275.

(67) عيون الأخبار 2/ 247.

(68) طبري 4/ 375.

(69) الكامل للمبرد ص 630.

(70) طبري 5/ 214

(71) انظر نفح الطيب 1/ 112

 

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي