x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
جرير
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:276-289
8-4-2021
5921
جرير (1)
شاعر تميمي من عشيرة كليب اليربوعية، ولم يكن لآبائه ولا لعشيرته ما لآباء الفرزدق وعشيرته مجاشع من المآثر والأمجاد، أما العشيرة فعرفت بأنها كانت ترعي الغنم والحمير. وقد دعا ذلك جريرا الى أن يرتفع بفخره الى يربوع وكان لها أيام كثيرة في الجاهلية، فأشاد بأيامها وفرسانها طويلا.
وكان أبوه عطية متخلفا في المال مبخلا، أما جده الخطفي فكان كثير المال من الغنم والحمير، وقد أتاه من قبله الشعر، ومما يروي من شعره قوله:
عجبت لإزراء العيي بنفسه … وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما … صحيفة لب المرء أن يتكلما
277
وكانت أمه تسمى أم قيس، وهي من نفس عشيرته، وقد ولدت جريرا في بادية اليمامة حوالي سنة ثلاثين للهجرة، وكان له أخوان هما عمرو وأبو الورد، كانا ينظمان الشعر.
فجرير إن لم يكن نشأ في بيت مجد فقد نشأ في بيت شعر، وظل الشعر يتوارث في أبنائه، وأشعرهم بلال. وحفيده عمارة من الشعراء المشهورين في العصر العباسي، وعنه أخذ الرواة شعر جده وأكثر أخباره، ويقول ابن قتيبة كان لجرير عشرة من الولد فيهم ثمانية ذكور.
ويظهر أن موهبة جرير الشعرية تفتحت مبكرة، وقد وجد في جده الخطفي خير من يلقنه الشعر، ويقال إن من أوائل ما نظمه مما رواه له الرواة أبياتا عاتبه بها، وذلك أنه كان ذا مال كثير، وكان ينحل أبناءه وأحفاده من ماله، فاستنحله جرير، فأعطاه بعض ماله، ثم رجع فيه، وقيل بل أعطاه قليلا فاستزاده فلم يزده، فتسخطه، ونظم فيه طائفة من الأبيات يعاتبه بها، وقد وصلها بعد ذلك بسنوات بأبيات نظمها في الفرزدق وغسان السليطي، وفيها يقول معاتبا جده:
وإني لمغرور أعلل بالمني … ليالي أرجو أن مالك ماليا
وإني لعف الفقر مشترك الغني … سريع-إذا لم أرض داري-انتقاليا
ويقال إنه وفد بعد ذلك الى يزيد بن معاوية وهو خليفة، فأنشده هذه الأبيات، فقال له: كذبت إنها لجرير، فقال له: أنا جرير. ومن قوله فيها:
وليست لسيفي في العظام بقية … وللسيف أشوي وقعة من لسانيا
وواضح أنه يجعل لسانه أقطع من السيف، فالسيف إنما يقطع الشوي أي الأطراف، فيبقي على من طعنه، أما لسانه فلا يبقي بقية فيمن يطعنه.
وهو استهلال لحياته الشعرية، يدل على أنه مقتحم بها فن الهجاء، وقد ظل يجول ويصول في هذا الفن منذ خلافة يزيد الى وفاته سنة 114 إذ توفي بعد الفرزدق بنحو ستة أشهر. ونراه يهاجي غسانا السليطي، ويعينه البعيث، فيطعنه ويطعن نساء عشيرته مجاشع طعنات نجلاء، فيضطر الفرزدق أن ينازله،
278
ويحتدم بينهما الهجاء طوال حياتهما، ويقال إنه ظل يهجوه وهو مقيم بالمروت من بادية اليمامة بضع سنوات، فأرسلت بنو يربوع إليه: إنك مقيم بالمروت، ليس عندك أحد يروي عنك، والفرزدق بالعراق قد ملأها عليك، فانحدر الى العراق، فأقام بالبصرة، منشدا:
وإذا شهدت لثغر قومي مشهدا … آثرت ذاك على بني ومالي
ويظهر أن إقامته بالبصرة بدأت مع دخول العراق في طاعة ابن الزبير إذ نجد واليه الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الملقب بالقباع (65 - 66 هـ) يأمر-حين رآه يتواقف مع الفرزدق بالمربد-صاحب شرطته عباد بن الحصين بهدم داريهما، فيهدم الدارين جميعا ويطلبهما، وفي ذلك يقول الفرزدق:
أحارث داري مرتين هدمتها … وكنت ابن أخت لا تخاف غوائله
ويقول جرير:
وما في كتاب الله هدم بيوتنا … كتهديم ماخور خبيث مداخله
ولم يتهاج جرير مع الفرزدق وحده، فقد تهاجي-كما أسلفنا-مع كثير من الشعراء، ويقول صاحب الأغاني نقلا عن الأصعمي إنه كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا، فينبذهم وراء ظهره، ويرمي بهم واحدا واحدا، ويقول في موضع آخر إنه كان يهاجيه ثمانون شاعرا غلبهم جميعا وكان يقول: إنهم يبدءونني ثم لا أعفو، كما كان يقول: إنني لا أبتدئ ولكن أعتدي، ويروي أن الراعي سمع راكبا يتغني:
وعاو عوي من غير شئ رميته … بقافية أنفاذها تقطر الدما (2)
خروج بأفواه الرواة كأنها … قرا هندواني إذا هز صمما (3)
279
فسأل عن صاحب البيتين، فقيل له جرير، فقال: والله لو اجتمع الجن والإنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا، هل ألام على أن يغلبني مثل هذا الشاعر؟ . وكان لا يزال بخصومه يطعنهم طعنات مسمومة في نساء عشائرهم، كقوله في نساء عشيرة سراقة البارقي، وكان ممن رفعوا الفرزدق عليه:
يعطي النساء مهورهن كرامة … ونساء بارق مالهن مهور
ولم يثبت له-كما أسلفنا-سوي الفرزدق والأخطل، وثبت له عمر بن لجأ التيمي الى حين ويقال إنهما وفدا على المدينة، وعليها عمر بن عبد العزيز، وقيل ابن حزم، وتصادف أن حج الوليد بن عبد الملك، فسمع بأنهما يتهاجيان، فأمر بأن يضربا تأديبا، فضربا وأقيما على السلس (4) مقرونين. وعادا الى العراق، وجرير يرميه وعشيرته بمثل قوله:
قوم إذا حضر الملوك وفودهم … نتفت شواربهم على الأبواب
واستغاثت تيم بجرير وتوسلت إليه وتضرعت أن يكف عنها، فكف بعد أن ثلبها وشاعرها ثلبا قبيحا. وويل للعشيرة التي كانت تتعرض له، روي الرواة أن الفرزدق أتي مجلس بني الهجيم في مسجدهم، فأنشدهم، وبلغ ذلك جريرا، فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق، فتعرض له شيخ منهم قائلا له:
اتق الله، فإن هذا المسجد بني لذكر الله والصلاة، فانصرف عنهم مغضبا، وهو يقول:
إن الهجيم قبيلة ملعونة … حص اللحي متشابهو الألوان (5)
لو يسمعون بأكلة أو شربة … بعمان أصبح جمعهم بعمان
متوركين بنيهم وبناتهم … صعر الأنوف لريح كل دخان (6)
280
وظل جرير الى أوائل عصر الحجاج (75 - 95 هـ) لا يعرف من الشعر سوي الفخر والهجاء وما يقدم لهما من الغزل ووصف الصحراء، حتي إذا أظله هذا العصر، وصار حكم العراق لقيس وصاحبها الحجاج رأيناه يقدم على صهره وابن عمه الحكم بن أيوب الثقفي نائبه على البصرة، فيمدحه برجز، يقول فيه:
خليفة الحجاج غير المتهم … في معقد العز وبؤبؤ الكرم (7)
واستنطقه فأعجبه ظرفه وشعره، فكتب الى الحجاج يخبره عنه، فكتب إليه أن ابعث به إلي، فقدم عليه، فأكرمه. وسرعان ما عاش له جرير يمدحه مدائح رائعة من مثل قوله:
من سد مطلع النفاق عليكم … أم من يصول كصولة الحجاج (8)
أم من يغار على النساء حفيظة … إذ لا يثقن بغيرة الأزواج (9)
إن ابن يوسف فاعلموا وتيقنوا … ماضي البصيرة واضح المنهاج
ماض على الغمرات يمضي همه … والليل مختلف الطرائق داجي (10)
منع الرشا وأراكم سبل الهدي … واللص نكله عن الإدلاج (11)
وإذا رأيت منافقين تخيروا … سبل الضجاج أقمت كل ضجاج (12)
داويتهم وشفيتهم من فتنة … غبراء ذات دواخن وأجاج (13)
ولقد كسرت سنان كل منافق … ولقد منعت حقائب الحجاج
وهو يمدحه بالصفات التي يجلها العرب من قديم، وبصفات أخري تتصل بسياسته وولايته للعراق، إذ يقول إنه سد ثغور النفاق، مع شجاعة فائفة ومحافظة على الذمام. ويقول إنه نافذ البصيرة واضح السياسة، يعرف كيف يخرج من الغمرات والشدائد، ويصور كيف أقام العدل في الناس ومنع
281
الرشوة وقضي على اللصوص وقطاع الطريق في الليل المدلهم. ويقول إنه قوم كل مائل وباطل، وإنه داوي النفوس المريضة وحطم أسنة المنحرفين عن الدولة ولم يعد هناك أحد ممن يعيثون في الأرض فسادا. ويقضي الحجاج على ثورة ابن الأشعث سنة 82 فينوه بانتصاره عليه قائلا:
دعا الحجاج مثل دعاء نوح … فأسمع ذا المعارج فاستجابا (14)
صبرت النفس يابن أبي عقيل … محافظة فكيف تري الثوابا
ولو لم يرض ربك لم ينزل … مع النصر الملائكة الغضابا
إذا سعر الخليفة نار حرب … رأي الحجاج أثقبها شهابا
وكان عبد الملك بن مروان في دمشق يفسح في مجالسه للأخطل شاعر تغلب النصراني. وينقل إليه شعر جرير في الحجاج فيغبطه عليه لروعة شعره ومهارته في المديح. ورأي الحجاج أن يهديه إليه، ووجد عند جرير رغبة صادقة في أن يمثل بمديحه بين يديه، فصحبه معه في وفادته التي وفدها على عبد الملك، ويقال: بل بعث به إليه مع ابنه محمد، فأذن له في النشيد، فبدأ فأنشد مدائحه في الحجاج واحدة بعد واحدة، ثم أنشده قصيدته التي يقول في استهلالها:
تعزت أم حزرة ثم قالت … رأيت الموردين ذوي لقاح (15)
تعلل، وهي ساغبة، بنيها … بأنفاس من الشبم القراح (16)
سأمتاح البحور فجنبيني … أذاة اللوم وانتظري امتياحي (17)
وخرج من ذلك الى مديح عبد الملك، فقال
وإني قد رأيت على حقا … زيارتي الخليفة وامتداحي
ألستم خير من ركب المطايا … وأندي العالمين بطون راح (18)
282
ولم يلبث أن أخذ يهاجم من ثار على عبد الملك مثل عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص. ووقف عند عبد الله بن الزبير يصور فتنته وكيف قضي عليه عبد الملك قضاء مبرما. ومضي يمدح عبد الملك وأسرته وأنهم الجديرون من بين القرشيين بالخلافة، منوها بانقياد الأمة له واجتماعها تحت لوائه، يقول:
وقوم قد سموت لهم فدانوا … بدهم في ململمة رداح (19)
أبحت حمي تهامة بعد نجد … وما شئ حميت بمستباح (20)
دعوت الملحدين أبا خبيب … جماحا، هل شفيت من الجماح (21)
فقد وجدوا الخليفة هبرزيا … ألف العيص ليس من النواحي (22)
فما شجرات عيصك في قريش … بعشات الفروع ولا ضواحي (23)
رأي الناس البصيرة فاستقاموا … وبينت المراض من الصحاح (24)
وأعجب عبد الملك بجرير إعجابا شديدا فأعطاه مائة من الإبل وثمانية من الرعاة ومحلبا من فضة. وجرير في هذه القصيدة ليس مادحا فحسب، بل هو محام عن عبد الملك وحكمه، يدافع عن حقه في الخلافة، ويهاجم خصومه هجوما عنيفا، وقد مضي بقية حياته يقرر في مدائحه لعبد الملك ومن خلفوه حقهم في الخلافة على الناس، وهو من هذه الناحية يعد شاعرا سياسيا بالمعني التام، شاعرا يحامي عن نظرية الأمويين في الحكم ويناضل عنهم وما يزال يسدد سهامه الى خصومهم، وهو في تضاعيف ذلك يحفهم بإطار رائع من التقوي والعمل الصالح، مقررا أن شيعتهم على الحق، وأن من يخالفهم من الشيع أهل باطل وضلال وأهواء وبدع، يقول في عبد الملك:
لولا الخليفة والقرآن نقرؤه … ما قام للناس أحكام ولا جمع
283
أنت الأمين أمين الله لا سرف … فيما وليت ولا هيابة ورع (25)
أنت المبارك يهدي الله شيعته … إذا تفرقت الأهواء والشيع
فكل أمر على يمن أمرت به … فينا مطاع ومهما قلت مستمع
يا آل مروان إن الله فضلكم … فضلا عظيما على من دينه البدع
وواضح أنه يزري على أصحاب الأهواء الذين يحادون بني أمية من الزبيريين والخوارج والشيعة، ويسميهم أهل بدع وضلالة. ويتوفي عبد الملك، فيلزم ابنه الوليد، ويظهر أنه كان يجفوه في أول الأمر، فقد مر بنا أنه أمر واليه على المدينة أن ينزل به وبابن لجأ عقوبة صارمة. غير أن هذا لم يصرف جريرا عنه، فقد كان يلم به في دمشق، وكان يراه يقرب عدي بن الرقاع، فهجاه، وحاول أن يستثيره، ولكن عديا آثر العافية. واستطاع جرير أن ينفذ الى الوليد وأن يقع منه بعد ذلك موقعا حسنا بما دبجه فيه من مدائح رائعة على شاكلة قوله:
إن الوليد هو الإمام المصطفي … بالنصر هز لواؤه والمغنم
ذو العرش قدر أن تكون خليفة … ملكت فاعل على المنابر واسلم
ونراه يلزم ابنه عبد العزيز، ويقدم له مدائح كثيرة، حتي إذا عزم الوليد على تنحية سليمان أخيه عن ولاية العهد وتوليتها عبد العزيز رأيناه يحطب في حبله بمثل قوله:
إذا قيل أي الناس خير خليفة … أشارت الى عبد العزيز الأصابع
وسرعان ما تتطور الظروف، ويتوفي الوليد ويتولي سليمان، فيفد عليه مادحا، محاولا أن يستنزل عطفه عليه، بما يصور من تقواه ومن عدله وكيف أطلق من سجنهم الحجاج وكيف رد مظالمه عن أهل العراق وأحسن
284
إلي الناس، وهو في تضاعيف ذلك ينوه بأن الله اختاره للأمة ناعتا له بأنه المهدي المنتظر، يقول (26):
سليمان المبارك قد علمتم … هو المهدي قد وضح السبيل
أجرت من المظالم كل نفس … وأديت الذي عهد الرسول
صفت لك بيعة بثبات عهد … فوزن العدل أصبح لا يميل
وتدعوك الأرامل واليتامي … ومن أمسي وليس به حويل (27)
ويدعوك المكلف بعد جهد … وعان قد أضر به الكبول (28)
ونراه يمدح ابنه أبوب، ويرشحه لولاية العهد. غير أن سليمان رأي أن يصرفها الى عمر بن عبد العزيز، وكان يتأله في دينه ويزهد في الدنيا، فأوصد أبوابه من دون الشعراء سوي جرير، وكأنه قربه لما عرف فيه من عفته وحسن دينه، ومعرفته به ترجع الى أيام ولايته على المدينة، وله فيه مدائح مختلفة، يصور فيها تقواه وأن الله اصطفاه للناس من مثل قوله:
أنت المبارك والمهدي سيرته … تعصي الهوي وتقوم الليل بالسور
نال الخلافة إذ كانت له قدرا … كما أتي ربه موسي على قدر
ويشير الى سياسة عمر في طرح العشور عن الرعية وكل ما كان يجبي منها غير الخراج (29)، فيقول في مدحة أخري:
إن الذي بعث النبي محمدا … جعل الخلافة في الإمام العادل
ولقد نفعت بما منعت تحرجا … مكس العشور على جسور الساحل (30)
285
وسرعان ما توفي عمر، فندبه ندبا حارا، يصور فجيعة الأمة فيه حتي ليقول إن الشمس تبكيه مدي الدهر:
تنعي النعاة أمير المؤمنين لنا … يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له … وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
فالشمس كاسفة ليست بطالعة … تبكي عليك نجوم الليل والقمرا (31)
ويتولي يزيد بن عبد الملك، ويثور عليه في العراق يزيد بن المهلب، ويقضي على ثورته مسلمة، ويصيح به جرير مرارا في قصائد مدح بها يزيد ابن عبد الملك، بنفس الصورة المثالية التي صور بها سابقيه من الخلفاء، من مثل قوله:
زان المنابر واختالت بمنتجب … مثبت بكتاب الله منصور
ويصفه بالعدل وأنه ورث الملك عن آبائه بعهد منهم. ودائما ينوه في مديحه لهم بهذا العهد، فليست الخلافة عامة في الأمة ولا في قريش، بل هي وراثية في بني أمية تتوالي فيهم بعهود موثقة. وآخر من مدحهم منهم هشام بن عبد الملك، وفيه يقول في آخر قصيدة مدحه بها، وقد أرسلها إليه مع ابنه عكرمة:
إلي المهدي نفزع إن فزعنا … ونستسقي بغرته الغماما
وحبل الله يعصمكم قواه … فلا نخشي لعروته انفصاما (32)
ومدح جرير بجانب الخلفاء كثيرا من أبنائهم، فهو يمدح مسلمة بن عبد الملك وعبد العزيز بن الوليد وأخاه العباس وأيوب بن سليمان ومعاوية بن هشام، ودائما ينوه بالأسرة وأن الله اختارها للأمة، فإذا قلنا بعد ذلك إنه عاش منذ عرف عبد الملك داعية للأمويين لم نكن مبالغين. وليس له في سواهم إلا مدائح قليلة فقد مدح الحجاج وصهره الحكم بن أيوب كما قدمنا، ومدح خالدا القسري مستشفعا للفرزدق كي يطلقه، ومدح بعض أشراف قيس وتميم مثل المهاجر بن
286
عبد الله الكلابي والجنيد بن عبد الرحمن المري وهلال بن أحوز المازني الذي نكل بآل المهلب في ثورتهم. ويظل أضخم صوت في ديوانه تغني به مادحا صوته في الأمويين. ولعل فيما قدمنا ما يدل على أنه لم يكد يلم بهذا الفن من فنون الشعر حتي برز فيه على أقرانه، وبدون شك كان يسبق فيه الفرزدق، وفي رأينا كما قدمنا أنه كان فيه مع الأخطل فرسي رهان، بل لقد كان يتقدمه في كثير من الأحيان بعذوبة لفظه، وأيضا بما كان يضع حول ممدوحيه من إطار الإسلام ومثاليته الكريمة.
ودائما يتقدم جرير الأخطل والفرزدق جميعا في الموضوعات التي تتطلب دقة في الإحساس ورقة في الشعور، إذ كان الأخطل متكلفا يصطنع الوقار، وكان الفرزدق-كما أسلفنا-صاحب نفس خشنة صلبة، ولذلك تفوق في الفخر وساعده أن وجد مادة غزيرة من مناقب عشيرته وآبائه هيأته ليرسل كلماته كأنها العواصف القاصفة والصواعق المدمرة. أما جرير فلم يكن لعشيرته ولا لآبائه شئ من المآثر الحميدة، فانطوت نفسه على حزن عميق صفي جوهرها، وزاد في هذا الصفاء تأثره بالإسلام إذ كان دينا عفيفا طاهر النفس.
واقرأ رثاءه لزوجته أم حزرة، إذ يقول:
لولا الحياء لعادني استعبار … ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولهت قلبي إذ علتني كبرة … وذوو التمائم من بنيك صغار
ولقد أراك كسيت أجمل منظر … ومع الجمال سكينة ووقار
صلي الملائكة الذين تخيروا … والصالحون عليك والأبرار
فإنك تحس تفجعه المرير، لقيام سور الموت الصفيق بينها وبينه هو وأولادها، وهو يدعو لها دعاء المسلم المؤمن قلبه، محييا فيها جمالها وخلقها الرفيع. وتدل دلائل كثيرة على أن علاقاته بزوجاته: أم حزرة هذه وأمامة التي أهداها إليه الحجاج وأم حكيم الديلمية أم ابنيه بلال ونوح، كانت علاقات ود ومحبة.
ولم تنشز عليه سوي جارية اشتراها بأخرة، وقد عابت عليه عيشه وكبرة سنه، ففارقها راضيا. أما زوجاته المذكورات فكن يبادلنه ودا بود، وقد اتخذهن
287
موضوعا لغزله الرقيق الذي كان يقدم به بين يدي قصائده ونقائضه. وأتاح له صفاء نفسه وانطواؤها على الحزن أن يبلغ من هذا الغزل كل ما يريد من تصوير الحب الخالص الطاهر، إذ ما يزال فيه يتلطف ويستعطف ويشكو ويتضرع على شاكلة قوله:
بنفسي من تجنبه عزيز … على ومن زيارته لمام (33)
ومن أمسي وأصبح لا أراه … ويطرقني إذا هجع النيام
وقوله:
لقد كتمت الهوي حتي تهيمني … لا أستطيع لهذا الحب كتمانا
إن العيون التي في طرفها مرض … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتي لا حراك به … وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق … هل ما تري تارك للعين إنسانا (34)
وكان إذا هجا نساء من يهجونه أصبح سما ذعافا لا يطاق، فإذا أشاد بنساء عشيرته أو بنساء عشيرة النوار زوجة الفرزدق إغاظة له وكيدا نثر فوقهن زهور شعره، واصفا خلقهن الكريم وجمالهن الباهر الذي يشغف القلوب، ومن بارع قوله في نساء عشيرة النوار:
وهن كماء المزن يشفي به الصدي … وكانت ملاحا غيرهن المشارب (35)
ولعل شاعرا قديما لم يستطع أن يصف عواطف الأبوة وحنانها تلقاء الولد على نحو ما صور ذلك في هذه المقطوعة التي يصور فيها حبه لابنه بلال:
إن بلالا لم تشنه أمه … يشفي الصداع ريحه وشمه (36)
ويذهب الهموم عني ضمه … ينفح ريح المسك مستحمه
يمضي الأمور وهو سام همه … بحر البحور واسع مجمه (37)
يفرج الأمر ولا يغمه … فنفسه نفسي وسمي سمه (38)
288
وواضح أن جريرا كان لا يباري في جميع الموضوعات التي تتصل بدقة الأحاسيس ورقة المشاعر، وهو لذلك يسبق الأخطل والفرزدق في الرثاء والغزل وعواطف الزوجية والأبوة، وهو كذلك يسبقهما في الهجاء الخالص إذ كان يعرف كيف يريش سهامه ويسددها الى نحور خصومه، محملا لها كل ما يمكن من سموم. وليس لأحدهما موضوع يتقدم به عليه سوي ما كان من فخر الفرزدق إذ لم يكن لجرير مادة يبني منها فخره، إلا أن يرتفع عن عشيرته الى يربوع أو الى تميم عامة، حينئذ تند عنه أبيات رائعة كقوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم … حسبت الناس كلهم غضابا
ولكنه على كل حال يقصر عن الفرزدق في هذا المجال. ومن الحق أن الفرزدق كان نبعا ثرا من ينابيع الشعر، ولذلك استطاع الصمود لجرير، والأخطل-مع أنه استطاع أن يثبت له-يأتي دون الشاعرين جميعا، إلا ما يسوقه في الندرة من قطع مديح متوهجة. وساق نفس هذا الحكم عليهم قديما بشار، فقال حين سأله سائل عنهم: «لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه» ومضي بفضل جريرا على الفرزدق فقال: «كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار (زوجه) فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير؛ إذ لم يجدوا للفرزدق شعرا يصلح. فقال له السائل: وأي شئ لجرير من المراثي إلا التي رثي بها امرأته: أم حزرة، فأورد عليه بشار مرثيته في ابنه سوادة التي يقول فيها:
فارقتني حين كف الدهر من بصري … وحين صرت كعظم الرمة البالي
فاقتنع سائله (39).
وإذا رجعنا الى أساليب الثلاثة وجدنا الأخطل يعني أشد العناية بصقل ألفاظه وتنقيحها، وكأنه من ذوق مدرسة زهير الجاهلية، ولم يكن الفرزدق يعني بصقل ألفاظه كل هذه العناية، ومن ثم ظهر فيها كثير من صور الانحراف والشذوذ على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع، وقد أتاه ذلك-كما أسلفنا-من
289
خشونة نفسه وصلابتها ومن تمرده الطاغي. ومما لا شك فيه أنه كان قوي البصيرة في نقد الشعر وتمييز جيده من رديئه، حتي قالوا إنه كان يسطو على بعض أبيات معاصريه، حين يبهره حسنها ويفرط بها إعجابه. وهو بعامة يمتاز في شعره بجزالة لفظه وشدة أسره. أما جرير فإنه لا يباري في عذوبة كلمه وحلاوة نغمه، فإذا قرأته أحسست الذوق المهذب الصافي، وقد جاءه ذلك من تأثره بالقرآن الكريم وأساليبه، وكانت نفسه لينة رقيقة لا تشوبها شوائب من تمرد، فجرت أشعاره صافية، كأنها الجدول الرقراق، أشعار تلذ الأذن بكمال جرسها وتلذ النفوس والأفئدة.
_________
(1) انظر في ترجمة جرير الأغاني (طبع دار الكتب) 8/ 3 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 435 وابن سلام ص 315 والموشح للمرزباني ص 118 وخزانة الأدب 1/ 36 والعيني 1/ 91 وراجع فهارس الكامل للمبرد والبيان والتبيين- وانظر ذيل الأمالي ص 43 والطبري 5/ 267، 273 وراجع فهرس الأغاني في مواضع متفرقة والاشتقاق ص 231 وما بعدها. وقد نشر ديوانه في القاهرة سنة 1313 للهجرة ونشره الصاوي بتعليقات مختصرة عن مخطوطة تتصل روايتها بابن حبيب. ونشر بيفن نقائضه مع الفرزدق بشرح أبي عبيدة، ونشر صالحاني نقائضه مع الأخطل برواية أبي تمام.
(2) أنفاذ: جمع نفذ وهو الكلم الذي تحدثه الطعنة.
(3) خروج: كثيرة الخروج؛ يريد أنها كثيرة الإنشاد. قرا: متن وظهر. الهندواني: السيف؛ كانوا يجلبون سيوفهم الجيدة من الهند. صمم: قطع اللحم وبري العضم.
(4) البلس: غرائر كبار تحشي تبنا، كان يرفع عليها الجناة تشهيرا لهم وتأديبا.
(5) الأحص: قليل الشعر في ذقنه وعارضيه.
(6) متوركين: يريد أنهم يحملون بناتهم وبنيهم ويذهبون يسألون بهم. صعر: جمع أصعر وهو الذي ينظر بوجهه لاويا عنقه.
(7) بؤبؤ: أصل.
(8) المطلع: المنفذ من أعلي، أو المصعد.
(9) الحفيظة: الغضب.
(10) الغمرات: الشدائد. داجي: مظلم.
(11) الإدلاج: السير ليلا.
(12) الضجاج: الباطل.
(13) الأجاج هنا: من أجة النار. والدواخن: جمع داخن وهو الدخان
(14) كان دعاء نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ذو المعارج: الله جل جلاله.
(15) الموردون: أصحاب الإبل يوردونها الماء. ولقاح: جمع لقحة وهي الناقة في أول نتاجها. أم حزرة: إحدي زوجاته.
(16) تعلل أبناءها: تشغلهم. ساغبة: جائعة. النفس من الماء: الجرعة. الشبم: البارد. القراح: الصافي.
(17) أمتاح: أستقي من الميح وهو العطاء.
(18) أندي: أجود.
(19) دانوا: أطاعوا. الدهم: الجيش الكثير. ململمة: مجتمعة. رداح: ضنخمة. يقصد من ثاروا عليه.
(20) يريد عبد الله بن الزبير وغلبة عبد الملك على ما كان في يديه من نجد والحجاز.
(21) أبو خبيب: ابن الزبير: الجماح: العناد والخلاف.
(22) هبرزيا: نافذا في الأمور ماضيا. ألف: ملتف. العيص: الشجر. يريد أنه في صميم العز وليس في نواحيه.
(23) الشجرة عشة الفروع: دقيقة الأغصان. والضاحية: بادية العيدان ولا ورق عليها.
(24) بينت: تبينت.
(25) الهيابة: الجبان وكذلك الورع بفتح الراء.
(26) جرير هنا يرسم فعلا سياسة سليمان فإنه لما ولي الخلافة أطلق الأساري وأهل السجون وأولي الناس بإحسانه. انظر الطبري 5/ 304 وراجع ميمية الفرزدق التي نظمها في قتل قتيبة بن مسلم، وقد تحدثنا عنها في الكلام. على النقائض.
(27) حويل: حيلة وقوة.
(28) المكلف بعد جهد: الذي كلف فوق طاقته. والعاني هنا: السجين. والكبول: القيود. وهو يشير هنا في وضوح الى عسف الحجاج وظلمه؛ غير أنه لم يتناوله بالهجاء على نحو ما صنع الفرزدق في ميميته.
(29) انظر الطبري 5/ 321.
(30) موضع المكس حيث طريق المارة في قنطرة أو جسر.
(31) يريد بقوله نجوم الليل والقمر أبد الآبدين.
(32) قوي الحبل: طاقاته.
(33) يريد أن طيفها يزوره وهو نائم في الحين بعد الحين.
(34) إنسان العين. سواد حدقتها.
(35) المزن: السحاب. الصدي: العطش.
(36) يشير الى أن أمه أعجمية، ولم تشنه عجمتها.
(37) المجم: الصدر.
(38) يغمه: يبهمه ويستره.
(39) ابن سلام ص 391.