مكة وبداية الدعوة
المؤلف:
الشيخ عبد الشهيد الستراوي
المصدر:
القران نهج وحضارة
الجزء والصفحة:
ص252-253.
5-05-2015
2021
المشكلة التي عالجها القرآن في المجتمع المكي تختلف باختلاف الظروف المحيطة به، والبيئة التي يعيشها، فقد كانت مشكلته جذرية حيث تطبع هذا المجتمع بطابع الوثنية واتسم باللادينية، وكانت مكوناته الفكرية تعتمد اللاأخلاقية التي تميزت بتبني المسار الانتكاسي للروح والعقل، وكانت هذه المكونات الملتقطة هي الظواهر المرئية التي عبّر بها المجتمع الجاهلي عن عبادته للأصنام ، فانعكست هذه العبادة الشركية عليه، وأخذت تتطبع ممارساته وسلوكه بطابع الشرك.
وتوحيد اللّه مشكلة المجتمع المكي التي بدأ القرآن يعالجها من اليوم الأول لأنها جذر المشاكل التي تنطلق منها كل الثقافات المنحرفة التي تمظهرت بشعائر وطقوس يمارسها الفرد لتبرير حالة الانتكاس والتردي التي أصيب بها المجتمع، فما كان من القرآن إلا أن يعالج جذر هذه المشاكل بتحويل العقيدة المشوهة لديهم عن الرب إلى عقيدة صادقة يتعاملون معها كحقيقة ثابتة وخاضعة لمنطق العقل لا الهوى، ومنطق الرغبة الصادقة في المعرفة الموصلة إلى درب التوحيد إلى اللّه عز وجل.
فجاءت الآيات المكية، وكانت نصوصها قد بيّنت هذه الحقيقة وهي أن أساس الفكر الديني يتمثل في الاعتقاد بأن اللّه واحد وحيد لا وجود لإله سواه، وإنه الواحد الذي خلق كل شيء، وأوجد هذا الكون بقدرته. وكان طابع الدعوة فيها إلى أصول هذه العقيدة كالإيمان باللّه، ونبذ الشرك، والخلافة في الأرض التي تحفظ عزتهم ووحدتهم المتمثلة في أمر النبوة، والتصوير الفني الرائع لمشاهد الحساب والجزاء والجنة والنار.
يقول الزرقاني : «إنه حمل (أي القرآن) حملة شعواء على الشرك والوثنية وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية، ودخل عليهم من كل باب وأتاهم بكل دليل، وحاكمهم إلى الحس، وضرب لهم أبلغ الأمثال حتى انتهى بهم إلى تلك الآلهة المزيفة لا تقدر أن تخلق مجتمعة أقل نوع من الذباب بل لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شر عادية الذباب وقال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج : 73] ».(1)
و لم تقتصر الآيات المكية على الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك. بل راحت تتحدث عن تلك العادات الشركية، والسلبيات التي ينتجها الكفر باللّه كالقتل وسفك الدماء ووأد البنات واستباحة الأعراض وأكل مال اليتيم ودعتهم إلى تطهير النفس لتقبل فكرة التوحيد، فأكّدت على أصول الأخلاق، وفعل الخير، واعتبرت ذلك منطلقا للتحرك الاجتماعي، مما أكسب الدعوة رسوخا في أذهان الناس.
فكانت الأخلاق والحقوق الاجتماعية التي يجب أن تسود قائمة على فكرة التوحيد، فهي الركيزة الأساسية، والمنبع لهذه القيم، فجاءت الآيات المكية تحمل وصفا عجيبا لهذه القيم الأخلاقية والحقوق الاجتماعية.
وقد استخدم القرآن في مكة أسلوبا أبلغ للموعظة والإرشاد لإبطال هذه الأفكار إلى أذهانهم. إنه قصّ عليهم تلك القصص التي تتحدث عن أخبار الرسل، والأنبياء السابقين، والأمم الغابرة. وكان ذلك أيضا ميزة تميزت بها الآيات المكية ولم يكن إلى ذلك سبيل غير الإيجاز في الخطاب، ولذا جاءت هذه الآيات قصيرة في اللفظ، كبيرة في المعنى، بل حتى أن اكثر السور القصار قد نزلت في مكة، وذلك لكي تكون ابلغ في التأثير.
___________________________
1. مناهل العرفان ( ج 1) ص 195.
الاكثر قراءة في مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة