الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الشبليّ
المؤلف:
د .شوقي ضيف
المصدر:
تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة:
ص 483ـ486
13-7-2019
2590
الشبليّ (1)
كنيته أبو بكر، واسمه دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، وقيل جعفر بن دلف، وقيل غير ذلك. وأصل أهله من أشروسنة جنوبي طشقند الحالية. فهو تركي العرق. رقى أبوه في قصر الخلافة حتى أصبح حاجب الحجّاب، وكان خاله يلي إمرة الإسكندرية بمصر. ويبدو أنه استعان به في عمله لعدة سنوات إذ يزعم بعض من تحدثوا عنه أنه كان مصريّا وأنه ورد بغداد من مصر. وقد تركت مصر والإسكندرية فيه بعض طوابعهما. إذ نراه يعتنق مذهب
ص483
لمالكية الذي كان يعتنقه أهل الإسكندرية ومحافظة البحيرة القريبة منها. وعاد إلى العراق، فقرّبه منه الموفّق-ولى عهد المعتمد وصاحب الأمر من دونه في خلافته- واتخذه حاجبا له، ثم ولاّه دنباوند بالقرب من الرّيّ ويحدث منه ما يجعل أمير الري التابع له يصرفه عن عمله. وكان ذلك نعمة كبرى عليه، فإنه انصرف إلى مجالس المتصوفة وخاصة مجلس خير النسّاج تلميذ السّرىّ السقطي، وأبي حمزة البغدادي وعلى يديه تاب وأناب. ولم يلبث أن لحق بالجنيد أستاذ الصوفية ببغداد حينئذ، ويقال إنه عاد إلى ولايته يستسمح الناس ويطلب منهم العفو إن كان قد أساء إلى أحد منهم وفرّق أمواله في الفقراء، ورجع إلى الجنيد فأخذه برياضات ومجاهدات عنيفة، ويذكرون أنه قال له في أول سلوكه الطريق: «لقد حدثوني أن عندك جوهرة العلم الربّاني. فإما أن تمنحنيها، وإما أن تبيعنيها؟ فقال له الجنيد: لا أستطيع أن أبيعكها فما عندك ثمنها، وإن منحتها لك أخذتها رخيصة فلا تعرف قدرها، ألق بنفسك غير هيّاب في عباب هذا المحيط مثلما فعلت، فعلّك-إن صبرت-أن تظفر بها». ومضى الشبلي يجاهد ويضنى في جهاده ويشقى طوال حياة شيخه الجنيد حتى إذا توفى سنة 297 صحب الحلاج، وكان يزوره في سجنه، ولكنه لم يعتنق مذهبه الذي صوّرناه آنفا وما اتصل به من أفكار اللاهوت والناسوت والحلول والاتحاد ورفع التكاليف الشرعية، فقد كان يصل بقوة بين الحقيقة أو الحقائق الصوفية والشريعة متابعا أستاذه الجنيد في اتباع الكتاب والسنة، بل في التفقه ورواية الحديث النبوي، وبذلك لم يترك الحلاج فيه أي أثر. ويزعم بعض من تحدثوا عنه من القدماء أنه كان شيعيّا، وقد عرفنا آنفا أنه كان مالكي المذهب، وهو لذلك يسلك مع أهل السنة. ويقال إنه لما قتل الحلاج خشى على نفسه لتردده عليه، فتظاهر بالخبل لئلا يمتحن، وأدخل المارستان، ثم خرج منه، وتفرّغ للوعظ، فكان ينعقد له مجلس أيام الجمع، يحضره الناس على تفاوت طبقاتهم، وكان يحضره علي بن عيسى وزير المقتدر، وذاع صيته، فكان يقصده الطلاب والمتصوفة من كل فجّ.
وما زال يحتلّ ببغداد هذه المكانة العليّة حتى توفي سنة 334 للهجرة عن سبعة وثمانين عامّا.
ص484
وكان الشبلي في تصوفه دائما سنيا، فلم يكن يزعم لنفسه حال غيبة ولا ابتعد عن ظاهر الشريعة، ويقال إنه سئل من أسعد أصحابك بصحبتك؟ فقال:
أعظمهم لحرمات الله وألهجهم بذكر الله وأقومهم بحق الله وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله وأعرفهم بقضائه وأكثرهم تعظيما لما عظّم من حرمة عباده. وكان يقول إن الله موجود عند الناظرين في صنعه مفقود عند الناظرين في ذاته، وسأله سائل: هل يتحقق العارف بما يبدو له؟ فقال: كيف يتحقق بما لا يثبت؟ وكيف يطمئن إلى ما لا يظهر؟ وكيف يأنس بما يخفى؟ ولم يلبث أن قال:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة … فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من نوالها … أمانىّ لم تصدق كلمحة بارق
فهو لم يكن يقول حتى بالشهود فضلا عن الحلول والاتحاد. وكان ينكر كل ما قيل، أو بعبارة أدق كل ما قاله الحلاج عن تجلي الله في عبيده ومخلوقاته، فالله واجب الوجود وخالق العالم شيء والعالم بكل ما فيه من مخلوقات شيء آخر، وهو يخاطب ولكن لا يرى ولا يشاهد، يقول:
وخاطبت موجودا بغير تكلّم … ولا حظت معلوما بغير عيان
وكان يقول: «تعززت به وما افترقنا وكيف نفترق ولم يجر علينا حال الجمع أبدا». وكان يتحدث كثيرا عن الأحوال والمقامات، ويبدئ ويعيد في الحديث عن حبه، ومن قوله: «أدخلت المارستان كذا وكذا مرة، وأسقيت الدواء كذا وكذا مرة، فلم أزدد إلا جنونا»، وكثيرا ما كان ينشد قوله:
جرى حبّك في قلبي … كجري الماء في العود
وقوله:
هذه دارهم وأنت محبّ … ما بقاء الدموع في الآماق
ويطيل الحديث عن عذابه في حبه وما يتحمل فيه من أهوال وما يسكب من دموع غزار، حتى في العيد، فالناس فيه يفرحون ويعدّون الراح والريحان وآلات الطرب، أما هو فيفضى إلى حزن شديد ونوح وتعديد، حتى لكأنما يحمل تحت
ص485
ثيابه قبرا، فهو دائم البكاء دائم النواح، يقول:
قبور الورى تحت التراب وللهوى … رجال لهم تحت الثياب قبور
وعندي دموع لو بكيت ببعضها … لفاضت بحور بعدهن بحور
وكان يؤمن بالفناء في الذات الإلهية مثل أستاذه الجنيد، ولكن لم يكن يفنى فيه عن نفسه الواعية، فتصوفه دائما تصوف صحو لا تصوف غيب، وإن بدا في كلامه أحيانا أن فناءه إنما يكون في حال غيبة من مثل قوله وقد سئل: متى يكون العارف بمشهد الحق؟ فأجاب: إذا بدا الشاهد وفنيت الشواهد وذهبت الحواس واضمحلّ الإحساس»، وذكر عنه أنه كان يقول: «هذا مجنون بني عامر كان إذا سئل عن ليلى يقول: أنا ليلى، فكان يغيب بليلى عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى ويغيّبه عن كل معنى سوى ليلى، ويشهد الأشياء كلها بليلى». ولكن ينبغي ألا نظن من مثل هذا القول أنه كان يؤمن بانمحاء التفرقة بين الشاهد والمشهود مثل الحلاّج، إنما يريد الإحساس بالفناء في الذات العلية، ومن طريف ماله من ذلك قوله:
تسرمد (2) … وقتي فيك فهو مسرمد
وأفنيتني عني فعدت محدّدا
وكلّى بكلّ الكلّ وصل محقّق … حقائق حقّ في دوام تخلّدا
وقوله:
تغنّى العود فاشتقنا … إلى الأحباب إذ غنّى
وكنّا حيثما كانوا … وكانوا حيثما كنّا
وكان ينكر كل ما تورط فيه الحلاج من شعوذات ونيرنجيات مما رواه عنه بعض مريديه، وتتردد على لسانه كثيرا كلمة السكر، وسأله سائل: هل شاهد الله أحد بحقيقته؟ فقال: الحقيقة بعيدة، ولكن ظنون وأمانيّ وحسبان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في الشبلي وحياته وأشعاره السلمى ص 340 وتاريخ بغداد 14/ 389 وابن خلكان ونشوار المحاضرة للتنوخي 172 والديباج المذهب لابن فرحون ص 116 وصفة الصفوة 2/ 161 والأنساب للسمعاني الورقة 329 وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار 2/ 127 وحلية الأولياء لأبى نعيم 10/ 367 وتلبيس إبليس لابن الجوزي 347 وشذرات الذهب 2/ 338 وروضات الجنات ص 160 وديوانه (طبع المجمع العلمي العراق) بتحقيق كامل مصطفى الشيبي وما ذكر فيه وفي تقديمه من مراجع .
(2) السرمد: الدائم، وتسرمد: خلد