أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-11-2018
![]()
التاريخ: 1-1-2019
![]()
التاريخ: 23-11-2018
![]()
التاريخ: 23-11-2018
![]() |
الفرع الكنعاني:
يضم الفرع الكنعاني من اللغات السامية عدة لغات كانت في منطقة الشام(1) وأهم هذه اللغات واللهجات الكنعانية: الأجريتية والعبرية والفينيقية والبونية،
ص160
والمؤابية، وقد امتدت بعض هذه اللغات إلى مناطق أخرى خارج أرضها الأولى، ويمكن تقسيم اللغات واللهجات الكنعانية من الناحية الجغرافية إلى الكنعانية الشمالية وتمثلها الأجريتية، والكنعانية المتوسطة وتمثلها الفينيقية، والكنعانية الجنوبية وتمثلها العبرية والمؤابية.
الأجريتية:
تعد الأجريتية اللغة الوحيدة التي نعرفها من لغات الفرع الكنعاني الشمالي وأغلب الظن أن الأجريتية لم تكن وحدها في منطقة شمال الشام. فهناك لغات أخرى مثل العمورية بادت منذ زمن بعيد ولم تدون في نقوش، ولذا فليس لها صورة واضحة بين اللغات القديمة(2). وتنسب اللغة الأجريتية إلى اسم مدينة عتيقة هي مدينة أجريت، وقد جاء اسم هذه المدينة الساحلية في مراسلات وجدت بالعراق ومصر من القرنين الثامن عشر والرابع عشر قبل الميلاد، واللغة الأجريتية هي آخر لغة سامية اكتشفت، وهي اللغة السامية الوحيدة التي اكتشفت في القرن العشرين، وقد بدأت الكشوف بالقرب من مدينة رأس شمراء على الساحل السوري 1929، فكشفت عن مجموعة كبيرة من النقوش الأجريتية، ولم تكن اللغة الأجريتية معروفة قبل هذا التاريخ، ولذا تخلو كتب اللغات وكتب النحو المقارن في اللغات السامية المؤلفة قبل هذا التاريخ من أية إشارة إلى اللغة الأجريتية(3).
ص161
لقد كشفت هذه الحفريات عن عدد كبير من النقوش المدونة على ألواح طينية مكتوبة بخط مسماري، أي أن هذا الخط يشبه من ناحية الشكل ذلك الخط الذي كتبت به من قبل اللغات السومرية والأكادية والحيثية ولكن عدد الرموز التي تتكرر في هذه النقوش الأجريتية الكثيرة يقل كثيرا عن عدد الرموز المستخدمة في الخط المسماري الأكادي، ويرجع هذا إلى سبب يتعلق بطبيعة الكتابة الأكادية واختلافها عن الكتابة الأجريتية. لقد كتب الأكاديون برموز مسمارية يدل كل منها بصفة عامة على مقطع، ولذا كانت هناك حاجة إلى استخدام مئات الرموز. ولكن الأجريتيين كتبوا برموز قليلة لا يتجاوز عددها الثلاثين.ومعنى هذا أن الأجريتيين بسطوا نظام الكتابة فلم تعد هناك حاجة لتعلم مئات الرموز، بل بسط الأجريتيون الرموز المكتوبة إلى عدد قليل. لقد عبر الأجريتيون عن كل صوت من أصوات اللغة بحرف واحد، ولذا كانت الحروف بعدد الوحدات الصوتية الموجودة في لغتهم، غير أنهم جعلوا للهمزة المفتوحة ثم للهمزة المضمومة ثم للهمزة المسكورة رموزا مختلفة، وهذا القصور في تدوين الهمزة أصبح ميراثا تناقلته كل الكتابات السامية الأبجدية بعد ذلك. وبذلك كان الأجريتيون أول من دون أية لغة من اللغات تدوينا صوتيا يقوم على أساس استخدام الحرف الواحد -دائما- للوحدة الصوتية الواحدة، وكانت الكتابة قبلهم إما صورية مثل الكتابة الهيروغليفية، أو مقطعية مثل الكتابة السومرية والأكادية، ولم تكن الكتابة الهيروغليفية صورية مائة في المائة كما لم تسلم الكتابة الأكادية من تأثيرات الكتابة السومرية؛ بمعنى أن يؤخذ الرمز الدال على الكلمة السومرية ويستخدم بمعناه في النقوش الأكادية. وابتكار الأجريتيين للأبجدية وهي نظام سهل يقوم على أساس صوتي منتظم مكن الإنسانية أن تمضي في ركب الحضارة وأن تصبح المعرفة شيئا متاحا لعدد كبير من البشر، بعد أن كانت في الحضارات الأقدم وقفا على نخبة من كبار رجال الدولة.
ولكن الكتابة الأجريتية تعد من جانب بعينه مختلفة عن الكتابة الأكادية،
ص162
وقد امتد هذا القصور إلى الكتابات السامية الأبجدية عدة قرون بعد ذلك، كان الأكاديون يدونون الحركات، فالرمز المقطعي كان يدل على الصامت مع الحركة، وبذلك اختلف الرمز الخاص بالباء المفتوحة عن الرمز الخاص بالباء المكسورة عن الرمز الخاص بالباء المضمومة. ولذا يمكن التعرف على البنية الصوتية للحركات الأكادية على نحو أفضل من معرفتنا بالحركات الأجريتية، فالأجريتيون لم يدونوا الحركات على الإطلاق، وتقوم كتابتهم على تدوين الصوامت فقط. وقد ظلت الكتابات السامية تدون الصوامت فقط على نحو ما فعل الأجريتيون ولا تدون الحركات عدة قرون بعد الميلاد.
لقد اتبع الأجريتيون لأول مرة في التاريخ النظام الأبجدي في تدوين اللغة وترجع كلمة الأبجدية إلى ترتيبهم للحروف التي كتبوا بها لغتهم(4) فالحروف انتظمت عندهم وفق الترتيب التالي: أ ب ج د هـ و ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت . وهذا الترتيب الأبجدي هو الأبجدية لأنه يبدأ بالألف والباء والجيم والدال. وقد ظل الترتيب الأبجدي للحروف سائدا عند كل الشعوب التي تعلمت الخط من الأجريتيين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأكثر النظم المعروفة في ترتيب الحروف ترجع بشكل مباشر إلى الترتيب الأبجدي الأجريتي أخذته كما هو أو عدلت فيه قليلا، فترتيب الحروف على النحو الأبجدي هو ترتيبها في العبرية وفي كل اللهجات الآرامية إلى اليوم.
النقوش الأجريتية تلي الأكادية من الناحية الزمنية، فالأكادية أول لغة سامية دونت، وكان هذا حوالي سنة 2500ق. م ثم دونت بعد ذلك اللغة الأجريتية حوالي 1400 ق. م ولذا تحمل اللغة الأجريتية سمات قديمة كثيرة، بل إنها تختلف -من هذا الجانب عن باقي لغات الفرع الكنعاني, وتقترب بذلك من العربية، فالعربية احتفظت بصفة عامة بالأصوات السامية الأولى، نجد في العربية مثلا تمييزا واضحا بين الحاء والخاء، وهذه هي الحال أيضا في الأجريتية، أما في
ص163
العبرية والفينيقية فقد تحولت كل حاء وكل خاء إلى صوت واحد هو الحاء، وهناك تمييز بين العين والغين في العربية وكانت الأجريتية تميز بينهما أيضا، ولكن العبرية جعلت منهما صوتا واحدا هو العين. ويوضح تمييز الأجريتية بين أصوات اختلطت بعد ذلك في العبرية والفينيقية أنها -من هذا الجانب- أقرب إلى اللغة السامية الأولى، ولذا تعد دراسة الأجريتية أداة مهمة لدراسة عبرية العهد القديم والفينيقية كما جاءتنا في النقوش. ويعتمد الباحثون المعاصرون على الأجريتية لبيان المرحلة السابقة على العبرية والفينيقية، فالأجريتية أقدم لغة وصلت إلينا من المجموعة الكنعانية.
الفينيقية:
الفينيقية هي إحدى لغات المجموعة الكنعانية(5) وقد وصلت إلينا الفينيقية في مجموعة من النقوش، فلا تعرف الفينيقية إلا من هذه النقوش. وأقدم ما وصل إلينا من اللغة الفينيقية بضع جمل وجدت في مجموعة رسائل تل العمارنة بصعيد مصر. وتمثل هذه العبارات الموجزة لهجة منطقة جبيل في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ولكن أكثر النقوش الفينيقية ترجع إلى الفترة بين سنة 1000ق. م وسنة 100م.
ص164
كانت الفينيقية لغة الساحل الفلسطيني والسوري واللبناني، وفي هذه المنطقة وجدت مجموعة كبيرة من النقوش. وقد وجدت نقوش فينيقية كثيرة خارج منطقة الشام، فقد كان الفينيقيون مهتمين بالتجارة البحرية فكانت لهم محطاتهم التجارية وجالياتهم في مناطق مختلفة من جزر البحر المتوسط، ولذا هناك نقوش فينيقية كثيرة من قبرص. وقد انتشرت المحطات التجارية الفينيقية في كل أنحاء حوض البحر المتوسط، فهناك نقوش فينيقية وجدت في المنطقة الساحلية لآسيا الصغرى وعلى الساحل الأوربي للبحر المتوسط وخصوصا في جنوب إسبانيا(6).
ويطلق على اللغة الفينيقية في امتدادها في المغرب اسم اللغة البونية، وتقع المنطقة اللغوية البونية على الساحل التونسي، وأهم المدن التي أسسها الفينيقيون هناك مدينة "قرت حدشت" أي "القرية الحديثة" بمعنى المدينة الحديثة(7) ويقسم تاريخ اللغة الفينيقية
ص165
في هذه المنطقة الإفريقية إلى مرحلتين: البونية والبونية الحديثة. تبدأ اللغة البونية بانتشار الفينيقيين في منطقة الساحل التونسي حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، وتنتهي بسقوط الكيان السياسي للدولة البونية سنة146. فقد قضى الرومان الذين نازعوا الفينيقيين السيادة البحرية ودخلوا معهم في حروب متصلة على مدينة قرطاجنة واحتلوا المنطقة اللغوية البونية، وبعد سقوط قرطاجنة تبدأ الفترة الثانية في حياة اللغة البونية. لقد خضع البونيون للرومان، وكان الرومان في مركز السيادة ولذا تأثرت اللغة البونية الجديدة باللغة اللاتينية من أكثر من جانب. لقد دخلت ألفاظ لاتينية كثيرة إلى اللغة وأشار القرآن الكريم إلى "رجل من القريتين" تدل على أن القريتين وهما مكة والطائف لم تكونا قريتين بالمعنى الحديث بل هما مدينتان، وهناك مدن كثيرة يوازي اسمها اشتقاقيا مدينة "قرت حدشت" فمدينة "نابولي" تكون اسمها من الكلمتين Neo+ polis وتعني كلمة جديد أو حديث ، وكلمة Polis تعني المدينة. أما تسمية "قرت حدشت" باسم قرتاج أو قرطاجنة...... إلخ، فيعكس عدم نطق صوت الحاء وهو صوت حلق كان النطق قد ضعف به في البونية الحديثة. البونية في هذه الفترة، ويبدو أن الازدواج اللغوي الحادث مع إقامة عدد من أبناء اللغة اللاتينية إلى جوار المتحدثين بالبونية قد أدى إلى ضعف النطق بأصوات الحلق في اللغة البونية الجديدة. وقد أمكن التعرف على هذه الظاهرة من النقوش البونية الجديدة. فكتابها يخلطون في التدوين بين الكلمات التي ينبغي أن تكتب بحرف العين والكلمات التي يجب أن تكتب بالهمزة، كما يخلطون بين الكلمات التي ينبغي أن تكتب بالحاء والكلمات التي ينبغي أن تكتب بالهاء، ويرجع هذا الخطأ في الكتابة إلى أنهم في النطق لم يكونوا يميزون بين العين والهمزة وبين الحاء والهاء، وفي عدد من النقوش البونية الجديدة تلاحظ مزيدا من الخلط بين الهاء والألف، وفي مرحلة متأخرة من تاريخ البونية الحديثة نجد الحروف التي كانت تستخدم قديما للتعبير عن أصوات الحلق تصبح وسيلة لكتابة الحركات القصيرة، ولا بد أن هذا حدث في فترة لم يعد أحد يحس فيها بأن هذه الحروف تعبر عن أصوات تنطق فعلا، فوجدوها بلا وظيفة فأفادوا منها لتدوين الحركات. ونلاحظ
ص166
في هذه المحاولة التأثير المباشر لليونان واللاتين فقد قلدهم البونيون الخاضعون للرومان في كتابة الحركات داخل الكلمة على نحو ما فعل اليونان والرومان.
كان اليونان قد تعلموا في أثناء احتكاكهم بالفينيقيين حوالي القرن التاسع قبل الميلاد الكتابة الأبجدية. والكتابة الأبجدية الفينيقية امتداد مباشر للأبجدية الأجريتية. كان الأجريتيون قد بسطوا نظام الكتابة وجعلوها أبجدية. احتفظ الفينيقيون بفكرة النظام الأبجدي، غير أنهم عدلوا أشكال الحروف لتصبح سهلة في الكتابة. واحتفظ الفينيقيون في نفس الوقت بترتيب الحروف كما رتبها الأجريتيون. وعندما تعلم اليونان الكتابة من الفينيقيين بدأت أوربا حضارتها الراقية القديمة؛ ففي القرن التاسع قبل الميلاد كان عمر الحضارة في الشرق بضع آلاف من السنين وكان تاريخ الكتابة قد مر بمراحل متتابعة، ثم أخذ اليونان عن الفينيقيين فكرة التدوين الصوتي بالحروف، أي أنهم أخذوا الأبجدية. واحتفظوا أيضا بترتيب الحروف كما عرفه الفينيقيون، ولكن اليونان وجدوا مجموعة حروف عبرت عند الفينيقيين عن أصوات الحلق وأصبحت بالنسبة لليونان دون فائدة، وهنا أدخل اليونان تجديدا منهجيا على الخط بأن استخدموا مجموعة الحروف المذكورة للدلالة على الحركات في سياق الكلمة، ويعد هذا التجديد مرحلة مهمة من تاريخ الخط بصفة عامة، وقد حدث في الكتابة اليونانية تعديل آخر جعلها تختلف عن الكتابة الفينيقية، فقد جعل اليونان اتجاه الكتابة من اليسار إلى اليمن، بعد أن كانت بخلاف ذلك عند الفينيقيين، وهذان التعديلان -تدوين الحركات وتعديل اتجاه الكتابة- ظلا سمتين أساسيتين في كل الخطوط المأخذوة عن الخط اليوناني، وأهمها الخط الكريلي الذي انتشر مع انتشار المسيحية الأرثوذكسية في شرق أوربا، والخط الروماني الذي انتشر مع الكاثوليكية في غرب أوربا. وبذلك كان للأجريتيين ثم للفينيقيين دور كبير في تبسيط نظام الكتابة، وهو ما أتاح تحول المعرفة الإنسانية إلى ظاهرة ذات بعد اجتماعي عريض.
ص167
اللهجات الكنعانية الجنوبية:
أقدم ما وصل إلينا بالكنعانية الجنوبية مجموعة هوامش مدونة على رسائل أكادية أرسلها بعض أمراء فلسطين إلى حكام مصر، وترجع هذه النصوص إلى عهد أمنحتب الثالث 1413-1377 ق.م وأمنحتب الرابع "إخناتون" 1377-1358 ق.م، وتعد لغة هذه الهوامش صورة قديمة من اللهجات الكنعانية الجنوبية(8).
وهناك نقش يعرف باسم الملك ميشع، ويعبر عن لهجة خاصة به تختلف في بعض الخصائص عن الفينيقية، كما تختلف في خصائص أخرى عن العبرية(9)
إن هذا النقش الذي يقع في 34 سطرًا يؤرخ بمنتصف القرن التاسع قبل الميلاد. وهو الأثر الوحيد الباقي من تلك اللهجة الكنعانية الجنوبية: المؤابية.
ولكن أهم اللهجات الكنعانية الجنوبية هي العبرية، وترجع أهميتها إلى أنها دونت في أسفار العهد القديم، ومرت بازدهار في الأندلس الإسلامية، وعادت للحياة مرة أخرى في العصر الحديث.
العبرية:
تبدأ اللغة العبرية تاريخها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد عندما دخلت قبيلة إسرائيل أرض فلسطين. وقد تعلم أبناء القبلية الوافدة لهجة المنطقة التي حلوا فيها من فلسطين، وهي إحدى اللهجات الكنعانية الجنوبية، ويكاد العهد القديم يكون المصدر الوحيد للتعرف على تاريخ العبرية مدة ألف عام، تبدأ بدخول قبيلة إسرائيل
ص168
لأرض فلسطين وتمضي إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد أوضحت الكشوف الأثرية في القرن العشرين عددا من النقوش العبرية القديمة، وهو عدد قليل لا يقارن على الإطلاق بعدد النقوش الفينيقية فضلا عن الأجريتية أو الأكادية. وفي السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة نصوص دينية وأدبية مكتوبة على البردي وعلى الجلد سميت باسم لفائف البحر الميت Dead Sea Scrolls وترجع هذه الكتابات إلى الفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي. وتحاول السلطات الحاكمة في إسرائيل تدعيم ارتباطها بالأرض بالاهتمام بالكشوف الأثرية ولكن هذه الكشوف لا تكاد تظهر إلا القليل، وفي سنة 1960 وجدت مجموعة رسائل عبرية أرخها أحد المؤلفين بالقرن الثاني للميلاد(10).
اللغة العبرية القديمة هي لغة العهد القديم، وهو الكتاب المقدس عند اليهود, وأحد الكتابين المقدسين عند المسيحيين(12) يطلق عليه اليهود "تنخ" اختصارا للعناوين العبرية لأقسامه الثلاثة: التوراة والأنبياء والمكتوبات. ويطلق عليه المسيحيون اسم العهد القديم The Old Testament باعتبار أن الأناجيل هي العهد الجديد The New Testament ويكون الكتابان معا الكتاب المقدس عند المسيحيين The Bible. أما التسمية الشائعة في العربية "التوراة" فتعكس ضربا من إطلاق
ص169
اسم الجزء على الكل، فالتوارة هي الثلث الأول من العهد القديم. ولذلك يمكن اعتبار كلمة "التوراة" تسمية لهذا القسم وحده، أو للعهد القديم كله. وليس العهد القديم كله باللغة العبرية، ففيه عدة صفحات بالآرامية وهي سفر عزرا 4/ 8 -6 و18، 7/ 12-26 صفر دنيال 2/ 4-7، 28 وسفر إرميا 10/ 11، وهناك كلمتان آراميتان في سفر التكوين 31، 47 ويطلق على العبرية كما نعرفها في العهد القديم اسم العبرية القديمة أو العبرية الكلاسيكية(13).
تمييزا لها عن المراحل التالية في تاريخ العبرية. ومن المعروف أن العبرية المستخدمة في العصر الحديث هي العبرية الحديثة، ولكن هناك خلافا بين الباحثين في تصنيف المراحل التي مرت بها اللغة العبرية بعد العهد القديم وقبل العصر الحديث، ويجعلها البعض فترة واحدة باسم العبرية الوسيطة، ويقسم بعض الباحثين هذه الفترة إلى مراحل مختلفة.
ص170
لم تكن اللغة العبرية حية تستخدم في التعامل اليومي في كل هذه الفترة الطويلة، بل كانت لغة التعامل اليومي حتى سقوط سامريا سنة 721 ق.م ثم سقوط القدس سنة 587ق.م أي أن الحياة الحقيقية للغة العبرية بدأت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ثم أخذت العبرية في الانكماش في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت اللغة الآرامية قد أخذت تسود منطقة الشام شيئا فشيئا قبل هذا التاريخ، وما نكاد نصل إلى القرن السادس قبل الميلاد حتى نجد اليهود يتعاملون باللغة الآرامية في حياتهم اليومية. وأوضح مثال لذلك أن المرتزقة اليهود الذين تركوا فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد تقريبا كانوا يتعاملون مع سلطات القدس، كما تثبت كتاباتهم البردية باللغة الآرامية، ولم يكن تعاملهم باللعة العبرية(14). وعلى الرغم من أن اللغة العبرية قد انكمشت بعد القرن السادس قبل الميلاد كلغة تعامل فقد ظلت لغة الدين اليهودي. اهتم بها رجال الدين، وكتبت بها بعض الكتب الدينية اليهودية وظل بعض اليهود يهتمون بتعلمها وبقراءة كتبها الدينية.
لم يدون العهد القديم في شكله الحالي في فترة حياة اللغة العبرية، ولكنه دون على مراحل متعاقبة فمن المؤكد أنه لم يجمع وترتب أسفاره قبل القرن الثاني الميلادي. تم ذلك على يد عدد من علماء الدين اليهود العارفين بالعبرية المتحدثين في حياتهم اليومية باللغة الآرامية. لقد دون العهد القديم- أول الأمر- بالخط العبري غير المضبوط بالشكل، أي أن النص المدون كان نصا يدون الصوامت ولا يدون الحركات القصيرة، في هذه الفترة كان العهد القديم يتلى بعد أن يحفظ ، فلم تكن
ص171
كتابته كاملة بل كان النص المكتوب يذكر القارئ بالنطق وترجع إضافة الحركات إلى النص العبري إلى مرحلة تالية امتدت من القرن الخامس الميلادي حتى القرن التاسع الميلادي. وكانت هناك عدة مدارس تعنى بالنص العبري للعهد القديم، ويطلق عليها مدارس الماسورا(15). وتم عمل رجال الماسورا في مرحلة لم تكن فيها اللغة العبرية لغة حية، ومعنى هذا أن رجال الماسورا كانوا من أبناء اللهجات الآرامية ثم اللهجات العربية. وقد تأثر رجال الماسورا في محاولاتهم لضبط النص العبري بالحركات بطريقة النساطرة السريان في ضبط الخط السرياني. أما النظام المتداول إلى اليوم في ضبط النص العبري للعهد القديم والنصوص العبرية بصفة عامة فلا يقوم على جهد المدارس اليهودية في العراق، بل يعتمد على جهود مدرسة طبرية في فلسطين، وقد أبرز البحث الحديث وجود مجموعة أسر اهتمت بالنص العبري للعهد القديم، وتوارثت هذه المعرفة ومن أهم هذه الأسر أسرة نفتالي وأسرة بن أشر.
وهكذا وصل إلينا العهد القديم بعد أن ألف على مراحل، ودون على مراحل. وضبط بالحركات في مدارس مختلفة، ولذا ينبغي وضع كل هذا في الاعتبار عند استخراج الصيغ اللغوية من العهد القديم.
وقد ألف اليهود باللغة العبرية على مدى القرون عدة كتب دينية، وتصنيف هذه
ص172
الكتب من الموضوعات الخلافية بين فرق اليهود وأحبارهم وربانييهم. ولكن أهم هذه الكتب الدينية العبرية: المشنا(16) وهو الكتاب العبري الثاني بعد العهد القديم. وترجع كلمة المشنا إلى المادة العبرية ش ن هـ -وهي تقابل المادة العبرية الدالة على التثنية والتكرار. فالمشنا في رأي اليهود هو النص الثاني من النصوص الدينية وقد ألف نص المشنا بين أواخر القرن الأول الميلادي ومنتصف القرن الثالث الميلادي، لقد انتهى آخر كيان سياسي لليهود في فلسطين القديمة سنة 70م، وعندما قضى الرومان على الاستقلال الداخلي لمنطقة صغيرة حكمها اليهود حتى ذلك التاريخ، وبذلك وجدت ظروف جديدة عاشها اليهود في اختلاط مع أبناء العقائد الأخرى، فألف رجال الدين لهم نص المشنا، ليدعم ارتباطهم بأنفسهم على أساس الدين وتحيزهم عن الآخرين تبعا لذلك. وقد ألف نص المشنا باللغة العبرية في
ص173
فترة كانت معرفة اللغة العبرية فيها قاصرة على رجال الدين اليهودي. ولذا فقد كان من الضروري أن يشرح النص بلغة مفهومة لليهود، فكان رجال الدين يقرءون لعامة اليهود نص المشنا بالعبرية ثم يشرحونه لهم بالآرامية. ولم تكن هناك لغة آرامية موحدة، بل هناك لهجات آرامية كثيرة، وتعددت الشروح الشفوية الآرامية بتعدد هذه اللهجات ثم كتب الأحبار والربانيون هذه الشروح الآرامية على المشنا. وهكذا ظهر التلمود، فالتلمود البابلي يتألف من المشنا وهي نص عبري، ومن الجمارا وهي الشرح الآرامي للنص العبري. والتلمود الفلسطيني يتألف من المشنا نفسها، ومن الشرح المدون باللهجة الآرامية الفلسطينة ويسمى الجمارا أيضا. المشنا نص عبري واحد، والجمارا "أي النص المُكَمِّل أو الإكمال" تختلف باختلاف اللهجة الآرامية وباختلاف مؤلفيها.
وفي العصور الوسطى لم تزدهر اللغة العبرية إلا في إطار الدولة الإسلامية ففي الأندلس الإسلامية عاشت جماعات من اليهود. وشارك اليهود في الحياة الثقافية العربية مشاركة عميقة، فكانوا يتعلمون المعارف العربية، وأراد اليهود أن يؤلفوا بما اكتسبوه من معارف عربية كتبا عبرية. وبذلك كانت المؤلفات العبرية الأندلسية انعكاسا واضحا للثقافة الإسلامية في كل فروع المعرفة، فكتب النحو العبري التي ألفها يهود الأندلس، مثل: مروان بن جناح القرطبي وحيوج والمعاجم التي ألفوها للعبرية والعربية تعد امتدادا وتطبيقا لمناهج البحث اللغوي عند العرب. وقد اهتم اليهود الأندلسيون بالتأليف الأدبي بالعبرية أيضا، وهنا نلاحظ أن الشعر العبري الأندلسي انعكاس واضح للشعر العربي. وكما ألف العرب في فن المقامة ألف الحريزي(17) بعض مقامات عبرية، لقد ترجم الحريزي -وهو يهودي أندلسي- مقامات الحريري، والتزم في الترجمة بالجوانب البيانية والبديعية
ص174
التي اتسمت بها المقامات في نصها العربي، ثم حاول الحريزي بعد ذلك أن يؤلف مقامات عبرية فألفها محاكيا المقامات العربية، فالتراث العبري الأندلسي هو تراث باللغة العبرية ألفه اليهود في إطار الثقافة العربية الإسلامية.
أما العبرية الحديثة التي يطلق عليها Evrit فهي اللغة الرسمية الأولى في إسرائيل وتعد العبرية الحديثة محاولة من اليهود الأوربيين لبعث لغة سامية إلى الحياة المعاصرة(18). فاليهود الأوربيون هم أصحاب المكانة الأولى في إسرائيل لأنهم أرقى حضاريا واجتماعيا ولأنهم هم أصحاب الفكرة الصهيونية التي تقوم عليها الدولة. وقد كان لهؤلاء الأوربيين أثر بعيد في تكوين الإطار اللغوي الجديد للعبرية، فمن الناحية الصوتية تأثرت العبرية الحديثة باللغات الأوربية، فخف النطق بأصوات الحلق وأصوات الإطباق لأنها غير موجودة في اللغات
ص175
الأوربية، ولم تعد الصاد تنطق مثل الصاد العربية، بل تأثرت بنطق صوت Z في الألمانية ويرجع هذا التأثير الألماني إلى أن لغة البيدش -التي كان يهود وسط وشرق أوربا يتعاملون بها قبل إحياء اللغة العبرية- هي عبارة عن لهجة ألمانية، وقد أصبح العارفون بلغة البيدش أصحاب مكانة في الدولة الصهيونية، ولكنهم رفضوا جعل لغة البيدش اللغة الرسمية، لأن انتماءهم إلى العبرية يربطهم بتاريخهم القديم ولا يفصلهم عاطفيا عن يهود المشرق، وقد دخلت إلى العبرية الحديثة ألفاظ كثيرة من اللغات الأوربية. ولعل مقارنة بين الألفاظ الأوربية الكثيرة الدخيلة في العبرية الحديثة مع محاولات التعريب في العالم العربي توضح اختلاف النسبة، فالعبرية الحديثة زاخرة بألفاظ أوربية خصوصا في المجال العلمي. والتأثير الأوربي في العبرية الحديثة لا يقتصر على الأصوات والمفردات، ولكنه يتضح أيضا في كثير من التراكيب والتعبيرات الأوربية التي نقلت نقلا حرفيا إلى العبرية. وهذا شيء طبيعي بالنسبة للعبرية الحديثة، فهي تدور بعناصر مأخذوة من العبرية القديمة مع كثير من الإضافات داخل الإطار الفكرى الأوربي.
ص176
___________________
(1) حول تاريخ الكنعانية ولهجاتها والعلاقات اللغوية بينها، انظر:
R.Meyer, hebraische grammatik, I, s. 22-27.
Z.S Harris, development of the canaanite dialects, new haven 1939.
"= american oriental series 16".
(2) هناك أيضا بضع أسماء من لغة أو لهجة كنعانية شمالية وصلت إلينا من عهد حمورابي "1728- 1636ق.م" وكذلك من القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، إن هذه الأسماء يتضح منها انتماؤها إلى لغة كنعانية شمالية:
(3) حول الأجريتية انظر:
C.H. gordon, ugaritic manual
والطبعة الأجريتية، انظر:
analecta orientalia 35, roma 1955.
والطبعة الموسعة المعدلة بعنوان:
C.H. gordon, ugaritic textbook. 3 vols grammar; glossary and indices text in transliteration. analecta orientalia 38 reprinted: roma 1965-67.
وأهم المعاجم J. Aistleitner, worterbuch der ugaritischen sprache, berlin 1963.
(4) انظر ما كتبه ماير: R. Mayer Hebrauache, Grammatik, 1, s. 37-39
(5) حول الفينيقية
J. friedrich, w. rolling, phonizisch-punische grammatik. roma 19701.
z.s. harris, a grammar of the phoenician language. new haven 1936.
V. den branden, grammaire phenicienne. beyruth 1969.
ولا يوجد معجم مستقل للفينيقية بل يوجد معجم للنقوش السامية الغربية يفيد بصورة مباشرة في فهم النقوش الفينيقية وهو معجم:
ch-f. jean-j. hoftijer, dictionaire des inscriptions semitiques d'ouest. leiden 1965.
(6) انظر حول توزيع النقوش الفينيقية وغيرها جغرافيا وتاريخيا كتاب:
H.Donner, w. rolling, kanaanaische und aramaische inschriften. wiesbaden 1966.
ويضم هذا الكتاب الممتاز ثلاثة مجلدات، أولها للنصوص والثاني للتعليق والثالث معجم لغوي وفهارس، وبهذا تصبح هذه المجلدات أفضل أداة لدراسة النقوش الفينيقية وغيرها من النقوش التي تناولها الكتاب.
(7) تدل كلمة "قرت" هنا على المعنى القديم للكلمة كما جاء في القرآن الكريم؛ فالقرية تعني ما نعبر عنه اليوم بكلمة مدينة، انظر المواضع التي وردت فيها الكلمة في القرآن الكريم.
(8) meyer, hebraische grammatik I.
(9) انظر حول نقش الملك ميشع كتاب: h. donner w. rollling, kanaanaische und
aramaische inschriften. wiesbaden, 1946, 1/ 33.
وحول الملك ميشع انظر سفر الملوك الثاني 3/44- 27.
(11) Meyer,I.
(12) انظر: حول العهد القديم introduction to the old testament.
g.fohrer, das alte testament. gutersloh 1969-70.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليز بعنوان: introduction to the old testament.
وهناك كتب كثيرة بنفس العنوان لمؤلفين متعددين منهم: R.k. Harrison, pfeiffer.
انظر كذلك: d.kaiser, einleitung in das alte testament.
gutersloh 1969.
(13) أهم أدوات البحث في اللغة العبرية القديمة:
w. gesenius, hebraisches und aramaisches lexikon zum alten testament. leiden, 1967.
وقد اهتم المعجمان المذكوران ببيان المقابلات السامية لعدد من الكلمات.
H.Baurer und p. leander, historische grammatik der hebraischen sprache I. halle 1922.
وقد طبع الكتاب مرة ثانية سنة 1965 ضمن سلسلة olms paperbacks
w. gesenius-E. kautzsch, hebraische grammatik. leizig 1910.
وقد ترجم إلى الإنجليزية، وطبع بالألمانية عدة طبعات أهمها بعناية برجشتراسر bergstrasser في ليبزج 1918.
(14) انظر بروكلمان في بحثه عن الآرامية:
aramaisch, einschliesslich des syrischen, in: handbuch der orientalisitik "ed. Spuler", Semitistik s. 138-139
(15) حول رجال الماسورا والقضايا الخاصة بضبط النص العبري للعهد القديم انظر كتاب بأول كاله:
P.E. Kahle, die kairoer genisa. untersuchungen zur geschte des hebraischen bibeltextes und sieiner ubersetzungen. berlin 1962.
(16) أهم معجم يفيد في قراءة المشنا:
M. Jastrow, A Dictionary of the Targumim, the Talmud Babli and Yeru-shalmi, and the Midrashic literature. New York 1926.
وحول المشنا ولغتها، انظر: .Segal, Mischnaic Hebrew; Oxford 1958
أما نص المشنا فقد طبع عدة طبعات وحده وطبع طبعات أخرى داخل التلمود مثل:
Der Babylonische Talmud, herausgegeben von L. Goldschmidt Den Haag 1933.
وحول رأي البحث اليهودي في المشنا، انظر:
Ch. Albeck, Einfuhrung in die Mishna. Aus dem Hebraischen iibersetzt von Tamar und Pessach Galewski. Berlin 1970.
انظر أيضا: .Strack, Einleitung in den Talmud, Leipzig 1908.
وانظر بالعربية مقال محمود فهمي حجازي عن: "التلمود:"، مجلة المجلة - القاهرة يناير 1968-ص44-54.
(17) ولد يهوذا بن سليمان الحريزي حوالي سنة 1165، وتوفي 1335، عاش في الأندلس وقضى فترة من حياته مترجما في البروفانس "وتقع الآن في فرنسا".
وحول الترجمات العبرية والأدب العبري في العصور الوسطى: انظر
M. stenischneider, die gebraischen ubersetzungen des mittelalters und die juden als dometscher. berlin 1893.
وانظر كذلك: محمد حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم، القاهرة 1971، ص98-101.
(18) انظر حول العبرية الحديثة:
Haim Blanc, The Israeli Konie as an emergent National Standard, in: Language problems of developing Nations. "ed". J.A. Fishman New York 1968, pp. 237-251.
وانظر حول الأدب العبري الحديث:
Pnina Nave, Die neue hebraische Bern 1962.
|
|
دخلت غرفة فنسيت ماذا تريد من داخلها.. خبير يفسر الحالة
|
|
|
|
|
ثورة طبية.. ابتكار أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب في العالم
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ووفد من جامعة البصرة يبحثان سبل تعزيز التعاون المشترك
|
|
|