
احتلت مسألة الحقوق عموما وحقوق الوالدين على وجه الخصوص مساحة كبيرة من أحاديث ووصايا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك للتأكيدات القرآنية المتوالية، وللضرورة الاجتماعية المترتبة على الإحسان إليهما، خصوصا وأن النبي اضطلع بمهمة تغييرية كبرى تتمثل بإعادة تشكيل وعي جديد ومجتمع جديد.
ولما كانت الأسرة تشكل لبنة كبيرة في البناء الاجتماعي، وجب رعاية حقوق الوالدين القيمين عليها، وبدون مراعاة ذلك، يكون البناء الاجتماعي متزلزلا كالبناء على الرمل.
وعليه، فقد تصدرت هذه المسألة الحيوية سلم أولويات التوجيه النبوي، بعد الدعوة لكلمة التوحيد، فقد ربط النبي بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين، حتى يعطي للمسألة بعدها العبادي، وأكد أيضا بأن عقوق الوالدين هي من أكبر الكبائر، وربط بين حب الله ومغفرته، وبين حب الوالدين وطاعتهما. وإن البر بهما لا يقتصر على حياتهما فيستطيع الولد المطيع أن يبر بوالديه من خلال تسديد ديونهما أو من خلال الدعاء والاستغفار لهما، وغير ذلك من أعمال البر.
لقد جسد النبي هذه التوصيات على مسرح الحياة، ففي الوقت الذي كان يحث المسلمين على الهجرة، ليشكل منهم نواة المجتمع التوحيدي الجديد في المدينة، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد، تروي كتب السيرة، أن رجلا جاء إلى النبي فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما).
ومن الشواهد الأخرى ذات الدلالة القوية، على تأكيد السيرة النبوية على رعاية حق الوالدين، أن أختا للنبي من الرضاعة زارته يوما، فرحب بها ترحيبا حارا، وأكرمها غاية الإكرام، ثم جاء أخوها إليه، فلم يصنع معه ما صنع معها من الحفاوة والإكرام، فقيل له: يا رسول الله:
صنعت بأخته ما لم تصنع به، وهو رجل! فقال: (إنها كانت أبر بأبيها منه).
وهكذا نرى أن التوجه النبوي يجعل ميزان القرب والبعد مرتبطا بمدى رعاية المرء لحقوق والديه.