المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4878 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24

النشاط الناري الطفحي البراكين
11-5-2016
العلّة الانحصاريّة
13-9-2016
The nature of the syllable
2024-10-17
مفهوم الضبط الاداري
2-4-2016
قياس الخاصية الشعرية Measurement of Capillary Action
2024-06-20
المراد من الرجوع إلى الله
2023-07-12


تنزيه يوسف بن يعقوب عليهما السلام  
  
1097   11:10 صباحاً   التاريخ: 26-12-2017
المؤلف : أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى)
الكتاب أو المصدر : تنزيه الانبياء
الجزء والصفحة : 45 - 58
القسم : العقائد الاسلامية / النبوة / الانبياء /

تنزيه يوسف عن الصبر على الاستعباد :  

مسألة : ان قيل : كيف صبر يوسف عليه السلام على العبودية ، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرزق ، وكيف يجوز على النبي الصبر على ان يستعبد ويسترق؟

(الجواب) قيل له : إن يوسف عليه السلام في تلك الحال لم يكن نبيا على ما قاله كثير من الناس ، ولما خاف على نفسه القتل جاز ان يصبر على الاسترقاق. ومن ذهب إلى هذا الوجه يتناول قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] على ان الوحي لم يكن في تلك الحال ، بل كان في غيرها ويصرف ذلك إلى الحال المستقبلة المجمع على انه كان فيها نبيا.

ووجه آخر : وهو أن الله تعالى لا يمتنع ان يكون امره بكتمان امره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف ، كما امتحن ابويه ابراهيم واسحق عليهما السلام ، أحدهما بنمرود والآخر بالذبح.

ووجه آخر : وهو انه يجوز ان يكون قد خبرهم بأنه غير عبد ، وأنكر عليهم ما فعلوا من استرقاقه ، الا أنهم لم يسمعوا منه ولا اصغوا إلى قوله ، وإن لم ينقل ذلك فليس كل ما جرى في تلك الازمان قد اتصل بنا.

ووجه آخر : وهو أن قوما قالوا أنه خاف القتل ، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية. وهذا جواب فاسد لأن النبي (عليه السلام) لا يجوز أن يكتم ما أرسل به خوفا من القتل ، لأنه يعلم ان الله تعالى لم يبعثه للأداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الاداء وتسمع الدعوة ، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض.

تنزيه يوسف عن العزم على المعصية :

(مسألة) : فإن قيل : فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

(الجواب) : ان الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه : منها العزم على الفعل كقوله تعالى : {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11] اي ارادوا ذلك وعزموا عليه.

قال الشاعر : هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله .

ومثله قول الخنساء : وفضل مرداسا على الناس حلمه * وان كل هم همه فهو فاعله .

ومثله قول حاتم الطائي : ولله صلعوك يساور همه * ويمضي على الايام والدهر مقدما

ومن وجوه الهم : خطور الشئ بالبال وان لم يقع العزم عليه قال الله تعالى : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] وانما اراد تعالى ان الفشل خطر ببالهم ، ولو كان الهم في هذا المكان عزما ، لما كان الله تعالى ولا هما لأنه تعالى يقول : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] وارادة المعصية ، والعزم عليها معصية وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا ان العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر ولا يجوز ان يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله واسلامه إلى السوء ، ومما يشهد ايضا بذلك قول كعب بن زهير :

فكم فيهم من سيد متوسع * ومن فاعل للخير ان هم أو عزم .

ففرق كما ترى بين الهم والعزم ، وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى.

ومن وجوه الهم ان يستعمل بمعنى المقاربة ، فيقولون هم بكذا وكذا اي كاد ان يفعله. قال ذو الرمة :

أقول لمسعود بجرعاء مالك * وقد هم دمعي ان يلج اوائله

والدمع لا يجوز عليه العزم ، وإنما اراد انه كاد وقرب.

وقال ابو الاسود الدؤلي : وكنت متى تهمم يمينك مرة * لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا .

وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد ان ينقض اي يكاد.

قال الحارثي : يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل .

ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع ، لان الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه إليه : ليس هذا من همي وهذا أهم الاشياء الي ، والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة ، وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال : أما همها فكان اخبث الهم ، واما همه (عليه السلام) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء.

فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح ، واجزنا باقي الوجوه لان كل واحد منها يليق بحاله.

فإن قيل : فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والارادة؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي (عليه السلام) ؟

قلنا : نعم ، متى حملنا الهم ههنا على العزم ، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه ، كما يقول القائل : قد كنت هممت بفلان ، أي بأن اوقع به ضربا أو مكروها.

فإن قيل : فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى : {وْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف: 24] والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟.

قلنا : يجوز ان يكون لما هم بدفعها وضربها ، اراه الله تعالى برهانا على انه ان اقدم على من هم به اهلكه اهلها وقتلوه ، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح ، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه ، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه.

فإن قيل : هذا الجواب يقضي لفظة (لولا) يتقدمها في ترتيب الكلام ، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها ، وتقدم جواب (لولا) قبيح ، أو يقتضي أن يكون (لولا) بغير جواب .

قلنا : اما جواب (لولا) فجائز مستعمل ، وسنذكر ذلك فيما نستأنفه من الكلام عند الجواب المختص بذلك ، ونحن غير مفتقرين إليه في جوابنا هذا ، لان العزم على الضرب والهم به قد وقع ، إلا انه انصرف عنه بالبرهان الذى رآه ، ويكون تقدير الكلام وتلخيصه : «ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك». فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الكلام ، كما يحذف الجواب في قوله تعالى : {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20] ، معناها : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وأن الله رؤوف رحيم لهلكتم ، وملثه {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } [التكاثر: 5، 6] معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا على حطامها.

وقال امروء القيس : فلو انها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط انفسا .

اراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت ، فحذف الجواب تعويلا على ان الكلام يقتضيه ويتعلق به. على أن من حمل هذه الآية على الوجه الذى لا يليق بنبى الله ، وأضاف العزم على المعصية إليه ، لا بد له من تقدير جواب محذوف. ويكون التقدير على تأويله : ولقد همت بالزنى وهم بمثله ، لولا أن رأى برهان ربه لفعله.

فان قيل : متى علقتم العزم في الآية والهم بالضرب أو الدفع كان ذلك مخالفا للظاهر.

قلنا : ليس الامر على ما ظنه هذا السائل ، لان الهم في هذه الآية متعلق بما لا يصح ان يتعلق به العزم والارادة على الحقيقة ، لأنه تعالى قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما ، والذات الموجودة الباقية لا يصح ان تراد ويعزم عليها ، فلا بد من تقدير امر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع اليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع اليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه ، ألا ترى ان القائل إذا قال : قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى فلان ، وليس بعض الافعال بذلك اولى من بعض ، فقد يجوز ان يريد انه هم بقصده أو بإكرامه أو بإهانته أو غير ذلك من ضروب الافعال ، على انه لو كان للكلام ظاهر يقتضى خلاف ما ذكرناه ، وان كنا قد بينا ان الامر بخلاف ذلك لجاز ان نعدل عنه ونحمله على خلاف الظاهر ، للدليل العقلي الدال على تنزيه الانبياء عليهم السلام عن القبائح.

فإن قيل : الكلام في قوله تعالى : (ولقد همت به وهم بها) خرج مخرجا واحدا فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم؟ قلنا : أما الظاهر ، فلا يدل الامر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا ، وإنما اثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب ، والآثار بذلك. وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح ، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه (عليه السلام) ، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يوسف: 30] وقوله تعالى : {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] وقوله تعالى حاكيا عنها { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وفى موضع آخر : { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] والآثار واردة باطباق مفسري القرآن ومتأوليه ، على أنها همت بالمعصية والفاحشة ، وأما هو عليه السلام فقد تقدم من الادلة العقلية ما يدل على انه لا يجوز ان يفعل القبيح ولا يعزم عليه. وقد استقصينا ذلك في صدر هذا الكتاب. فأما ما يدل من القرآن ، على انه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة منها قوله تعالى : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } [يوسف: 24] وقوله تعالى {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] ولو كان الامر كما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك ، لم يكن السوء والفحشاء منصرفين عنه ، ولكان خائنا بالغيب ، وقوله تعالى حاكيا عنها : {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] وفي موضع آخر : {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وقول العزيز لما رأى القميص قد من دبر { إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] فنسب الكيد إلى المرأة دونه ، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على ان الذنب منها وبراءة يوسف (عليه السلام) منه : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] وعلى مذهبهم الفاسد ان كل واحد منهما مخطئ فيجب ان يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه ، وقوله تعالى حاكيا عنه : {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33، 34] فالاستجابة تؤذن ببراءته من كل سوء ، وتنبئ أنه لو فعل ما ذكروه لكان قد يصرف عنه كيدهن. وقوله تعالى : {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } [يوسف: 51] والعزم على المعصية من أكبر السوء ، وقوله تعالى حاكيا عن الملك : {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ولا يقال ذلك فيمن فعل ما ادعوه عليه.

فإن قيل : فأي معنى لقول يوسف : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف: 53].

قلنا : انما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية ، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر. وفى ذلك جواب آخر اعتمده ابو على الجبائى واختاره ، وان كان قد سبق إليه جماعة من اهل التأويل وذكروه ، وهو ان هذا الكلام الذي هو «وما ابرئ نفسي إن النفس لإمارة بالسوء» إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليه السلام. واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك.

ألا ترى انه تعالى قال : {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف :51-53] فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذى هو ذلك «ليعلم انى لم اخنه بالغيب» من كلام المرأة لا من كلام يوسف (عليه السلام) ويكون المكنى عنه في قولها (انى لم اخنه بالغيب) هو يوسف (عليه السلام) دون زوجها ، لان زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب ، وانما ارادت انى لم اخن يوسف (عليه السلام) وهو غائب في السجن ، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتي معه الا الحق ، ومن جعل ذلك من كلام يوسف (عليه السلام) جعله محمولا على انى لم اخن العزيز في زوجته بالغيب ، وهذا الجواب كأنه اشبه بالظاهر ، لان الكلام معه لا ينقطع عن اتساقه وانتظامه. فإن قيل : فأي معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة قلنا : قد قيل ان العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكل أحد ، والذى يشهد بذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] وجواب آخر في الآية على ان الهم فيها هو العزم ، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويكون تلخيصه «ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها» ويجرى ذلك مجرى قولهم : قد كنت هلكت لولا ان تداركتك ، وقتلت لولا انى قد خلصتك والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت ، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل.

قال الشاعر : ولا يدعنى قومي صريخا لحرة * لئن كنت مقتولا ويسلم عامر وقال الآخر : فلا يدعنى قومي ليوم كريهة * لئن لم اعجل طعنه أو اعجل فقدم جواب لئن في البيتين جميعا. وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها ، وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم ، قام زيد لولا عمرو ، وقصدتك لولا بكر. وقد بينا بما اوردناه من الامثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا ، وان القائل قد يقول قد كنت قمت لولا كذا وكذا ، وقد كنت قصدتك لولا ان صدني فلان ، وان لم يقع قيام ولا قصد. وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذكروه من المثال. وبعد ، فان في الكلام شرطا وهو قوله تعالى : (لو لا ان رأى برهان ربه) ، فكيف يحمل على الاطلاق مع حصول الشرط؟ فليس لهم ان يجعلوا جواب لولا محذوفا ، لان جعل جوابها موجودا أولى. وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم الحذف.

فإن قيل : فما البرهان الذى رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لأجله عن المعصية ، وهل يصح ان يكون البرهان ما روي من ان الله تعالى اراه صورة ابيه يعقوب (عليه السلام) عاضا على اصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية ، أو يكون ما روي من ان الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فأنزجر. قلنا : ليس يجوز ان يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المصعية ما ظنه العامة من الامرين اللذين ذكرناهما ، لان ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة ، ولو كان الامر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا ، وهذا من اقبح القول فيه (عليه السلام) ، لان الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية واثنى عليه بذلك فقال تعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) ، فأما البرهان ، فيحتمل ان يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها ، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها ، وهو الذي يقتضى كونه معصوما لان العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الالطاف ، التنزه عن القيح والامتناع من فعله. ويجوز ان يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم ، كما يجوز ان يكون بمعنى الادراك ، لان كلا الوجهين يحتمله القول. وذكر آخرون : ان البرهان ههنا انما هو دلالة الله تعالى ليوسف (عليه السلام) على تحريم ذلك الفعل ، وعلى ان من فعله استحق العقاب لان ذلك ايضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي الامتناع منه وهذا ايضا جايز.

تنزيه يوسف عن محبة المعصية :

(مسألة) : فإن قيل : كيف يجوز ان يقول يوسف (عليه السلام) : {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] ، ونحن نعلم ان سجنهم له معصية ومحنة ، كما ان ما دعوه إليه معصية ، ومحبة المعصية عند كم لا تكون الا قبيحة.

(الجواب) : قلنا : في تأويل هذه الآية جوابان : احدهما : انه اراد بقوله (احب الي) اخف على واسهل ، ولم يرد المحبة التي هي الارادة على الحقيقة. وهذا يجري مجرى ان يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان عليه ، فيقول في الجواب كذا احب إلى ، وانما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة.

والوجه الآخر : انه اراد ان توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن احب الي من مواقعة المعصية.

فان قيل : هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد اضمرتم فيه.

قلنا : لابد من مخالفة الظاهر ، لان السجن نفسه لا يجوز ان يكون مرادا ليوسف (عليه السلام) ، وكيف يريده وانما السجن البنيان المخصوص ، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه ، إذا قرأ : رب السجن (بفتح السين) وان كانت هذه القراءة ايضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه ، فكأنه أراد ان سجني نفسي عن المعصية احب إلى من مواقعتها فرجع معنى السجن إلى ويشقان : بمعنى يثقلان فعله دون افعالهم ، وإذا كان الامر على ما ذكرناه ، فليس للمخالف ان يضمر في الكلام ان كوني في السجن وجلوسي فيه احب الي ، بأولى ممن اضمر ما ذكرنا ، لان كلا الامرين يعود إلى السجن ويتعلق به.

فان قيل : كيف يقول السجن احب الي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه ، ومن شأن هذه اللفظة ان تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.

قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه ، ألا ترى ان من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له ان يقول : هذا احب الي من هذا ، وان يخير هذا احب الي من هذا ، إذا كان في محبته ، وإنما سوغ ذلك على احد الوجهين دون الآخر ، لان المخير بين الشيئين في الاصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح ان يريدهما. فموضوع التخيير يقتضى ذلك ، وان حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب احدهما : هذا أحب الي ، انما يكون مجيبا بما يقتضيه اصل الموضوع في التخيير ، ويقارب ذلك قوله تعالى {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15] ونحن نعلم انه لا خير في العقاب ، وانما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات وانهم ما أثروها إلا لاعتقادهم ان فيها خيرا ونفعا. فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا ، وقد قال قوم في قوله تعالى : (أذلك خير) : أنه انما حسن لا شتراك الحالتين في باب المنزلة ، وان لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى : {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله : رب السجن أحب إلي ، لان الامرين يعني : المعصية ودخول السجن ، مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا ، وان لم يكن مشتركا في تناول المحبة ، فجعل اشتراكهما في دواعى المحبة اشتراكا في المحبة نفسها ، وأجرى اللفظ على ذلك.

فان قيل : كيف يقول وإلا تصرف عنى كيدهن اصب إليهن واكن من الجاهلين؟ وعندكم ان امتناع القبيح منه (عليه السلام) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وان وقع الكيد.

قلنا أنما أراد يوسف (عليه السلام) انك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت ، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره ، وانه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد ، والكلام وان تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال (عليه السلام) (والا تصرف عنى كيدهن) فالمراد به الا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن انما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية ، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره ، وما اجري به إليه ، ولهذا يقال لمن اجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا.

ولمن فعل ما لا تأثير له : ما فعلت شيئا. وهذا بين والحمد الله تعالى.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن التعويل على غير الله :

(مسألة) : فإن قيل : كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل ان يعول في اخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك ، في قوله للذي كان معه : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] حتى وردت الروايات ان سبب طول حبسه (عليه السلام) انما كان لأنه عول على غير الله تعالى؟.

(الجواب) : قلنا : ان سجنه (عليه السلام) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه ان يتوصل إلى ازالته بكل وجه وسبب ، ويتشبث إليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه ، ويجمع فيه بين الاسباب المختلفة ، فلا يمتنع على هذا ان يضم إلى دعائه الله تعالى ورغبته إليه في خلاصه من السجن ان يقول لبعض من يظن انه سيؤدي قوله : (اذكرني ونبه على خلاصي) وانما القبيح ان يدع التوكل ويقتصر على غيره فأما ان يجمع بين التوكل والاخذ بالحزم فهو الصواب الذي يقتضيه الدين والعقل. ويمكن ايضا ان يكون الله تعالى اوحى إليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله.

تنزيه يوسف عن إلحاق الاذى بأبيه :

(مسألة) : فإن قيل : فما الوجه في طلب يوسف (عليه السلام) اخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى ابيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن ، وهل هذا الا اضرارا به وبأبيه؟. (الجواب) : قلنا : الوجه في ذلك ظاهر لان يوسف (عليه السلام) لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله إليه ، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره ، وتعريض للعالي من منزلة الثواب ، ونظير لك امتحانه له (عليه السلام) بأن صرف عنه خبر يوسف (عليه السلام) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه ، وإنما امرهم يوسف (عليه السلام) بأن يلطفوا بأبيهم في ارساله من غير ان يكذبوه ويخدعوه. فان قيل : أليس قد قالوا سنراود عنه اباه وإنا لفاعلون ، والمراودة هي الخداع والمكر. قلنا : ليس المراودة ما ظننتم ، بل هي التلطف والتسبب والاحتيال ، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا ، فإنما امرهم بفعله على احسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا عليهم.

 

تنزيه يوسف عن الكذب وتهمة اخوته :

(مسألة) : فان قيل : فما معنى جعل السقاية في رحل اخيه وذلك تعريض منه لاخيه بالتهمة ، ثم ان اذن مؤذنه ونادى بأنهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة؟.

(الجواب) : قلنا : أما جعله السقاية في رحل اخيه ، فالغرض فيه التسبب إلى احتباس اخيه عنده ، ويجوز ان يكون ذلك بأمر الله تعالى ، وقد روى أنه (عليه السلام) اعلم اخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به ، فقد خرج على هذا القول من ان يكون مدخلا على اخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله ، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة ، لان وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة ، وليس يجب صرفه إليها الا بدليل. وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه ، ولا ظاهر ايضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة ، لان الاشتراك في ذلك قائم ، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه التى يحتملها على حد واحد. فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره (عليه السلام) ، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك احد القوم لما فقدوا الصواع ، وسبق إلى قلوبهم انهم سرقوه ، وقد قيل ان المراد بأنهم سارقون انهم سرقوا يوسف (عليه السلام) من ابيه واوهموه انهم يحفظونه فضيعوه ، فالمنادي صادق على هذا الوجه ، ولا يمتنع ان يكون النداء بإذنه (عليه السلام). غير ان ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضى ان يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الذي تقدم ذكره واحسوا فقده ، وقد قيل ان الكلام خارج مخرج الاستفهام ، وان كان ظاهره الخبر كأنه قال : {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فاسقط الف الاستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدم ذكرها في قصة ابراهيم (عليه السلام).

وهذا الوجه فيه بعض الضعف لان الف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام ، مثل قول الشاعر : كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا .

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه :

(مسألة) : فان قيل : فما بال يوسف (عليه السلام) لم يعلم اباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه؟. (الجواب) : قلنا في ذلك وجهان :

احدهما : ان ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا ، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى ان يصعب التكليف وان يسهله.

والوجه الآخر : انه جائز أن يكون (عليه السلام) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن الرضا بالسجود له :

(مسألة) : فان قيل : فما معنى قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله تعالى؟

(الجواب) : قلنا في ذلك وجوه :

منها : ان يكون تعالى لم يرد بقوله انهم سجدوا له إلى جهته ، بل سجدوا لله تعالى من أجله ، لأنه تعالى جمع بينهم وبينه ، كما يقول القائل : انما صليت لوصولي إلى اهلي ، وصمت لشفائي من مرضي. وإنما يريد من اجل ذلك.

فان قيل : هذا التأويل يفسده قوله تعالى : {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] .

قلنا : ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ، لأنه (عليه السلام) لما رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى الدرجات ونيله أمانيه واغراضه ، فلما اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال ما كان يتمناه من اجتماع الشمل ، كان ذلك مصدقا لرؤياه المتقدمة.

فلذلك قال : (هذا تأويل رؤياي من قبل) فلا بد لمن ذهب إلى أنهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ، لأنه ما كان رأى في منامه ان اخوته وأبويه سجدوا له ، ولا رأى في يقظته الكواكب تسجد له. فقد صح ان التطابق في المعنى دون الصورة. ومنها : أن يكون السجود لله تعالى ، غير أنه كان إلى جهة يوسف (عليه السلام) ونحوه ، كما يقال : صلى فلان إلى القبلة وللقبلة. وهذا لا يخرج يوسف (عليه السلام) من التعظيم ، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها. ومنها : أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الافعال ما يكون عبادة ، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام ، ولا يكون ذلك منكرا لأنه لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح.

تنزيه يوسف (عليه السلام) عن طاعة الشيطان :

(مسألة) : فان قيل : فما معنى قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام) : {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] وهذا يقتضي ان يكون قد اطاع الشيطان ونفذ فيه كيده ونزغه؟

(الجواب) : قلنا هذه الاضافة لا يقتضي ما تضمنه السؤال ، بل النزغ والقبيح كان منهم إليه لا منه إليهم. ويجري قول القائل : جرى بيني وبين فلان شر ، وإن كان من احدهما ولم يشتركا فيه.

(مسألة) : فان قيل : فما معنى قوله عليه السلام للعزيز {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وكيف يجوز ان يطلب الولاية من قبل الظالمين ؟

(الجواب) : قلنا انما التمس تمكينه من خزائن الارض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها إلى مستحقها ، وكان ذلك له من غير ولاية.

وإنما سئل الولاية للتمكن من الحق الذي له ان يفعله ولمن لا يتمكن من اقامة الحق أو الامر بالمعروف ان يتسبب إليه ويتصل إلى فعله ، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه السلام ولا حرج.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.