المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17599 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}
2024-10-31
{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا}
2024-10-31
أكان إبراهيم يهوديا او نصرانيا
2024-10-31
{ قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله}
2024-10-31
المباهلة
2024-10-31
التضاريس في الوطن العربي
2024-10-31

مقتل نافع بن هلال
8-04-2015
transliteration (n.)
2023-11-30
Pseudouridine Ψ
20-10-2019
أنواع النشرات الاخبارية- النشرة الافقية
26-9-2020
لهو يزيد بن معاوية
27-5-2017
التكبر والثقة بالنفس لا يمكن أن يلتقيا
2024-05-12


قصَّة المارّ على القرية  
  
2424   04:55 مساءً   التاريخ: 1-12-2020
المؤلف : الدكتور محمود البستاني .
الكتاب أو المصدر : قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة : ج1 ، ص 89 - 105 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي ابراهيم وقومه /

قلنا : لقد كشفت المناقشة الفكرية بين إبراهيم (عليه السلام) وبين نمرود عن صمت هذا الأخير وكأنّ حجراً اُلقي في فمه . حيث زعم نمرود أ نّه قادر على أن يُحيي ويميت . ولمّا قال له إبراهيم (عليه السلام) : إنّ اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . . . عندئذ بُهتَ وتلفّع بالصمت المُطبق .

وعندما نعود إلى النصوص المفسّرة من جديد نجدها قد نقلت جانباً آخر سَبَق هذه المناقشة ، وهو زعمه بأنّ اطلاق سراح سجين مثلا ، وعدم اطلاق السجين الآخر يُعد إحياءً لحياة الأوّل وإماتة لحياة الآخر .

لكنّ هذه المغالطة سرعان ما أسكتته عندما قال له إبراهيم (عليه السلام) : أحيي القتيل ، أي السجين الآخر ، وعندها سكت نمرود .

لكنّ إبراهيم (عليه السلام) أراد قطعَ كلّ طريق للمغالطة ، بحيث لا يدع مجالا لأيّة مراوغة في هذا الصدد ، لذلك قال لنمرود : إئتِ بالشمس من المغرب ، وعندها سكت نمرود تماماً ولفّته الحيرة والاضطراب .

والحقّ أنّ أمثلة هذه المناقشة لا تكشف عن سخف وهزال المنكرين لحقيقة السماء فحسب ، بل تنطوي على جملة من الحقائق :

منها : أنّ الشخصيات التي تُعنى بالملك الدنيوي وسائر أمتعة الحياة ، يحجزها مثلُ هذا المتاع عن التفكير بحقيقة الإنسان ومعنى وجوده العبادي في الأرض .

ومنها : أنّ إنكار حقيقة السماء لا يستند إلى أيّة حُجّة حتى لو كانت واهية ، لأنّ هذه الحقيقة واضحة كلّ الوضوح ، يُضطرّ المنكر لها إلى أن يصمت في نهاية المطاف .

ومنها : أنّ كلاّ من الإحياء والإماتة وسائر الظواهر تظل مرتبطةً بالسماء مهما دقّ تصوّرها في هذا الصدد .

ولعلّ هذه الظاهرة الأخيرة ، تكفّلت بتحديدها اُقصوصتان أعقبتا قضية إبراهيم (عليه السلام)مع نمرود ، وألقتا على الموقف إنارة جديدة فيما يتصل ببعض أسرار التركيبة البشرية ، وطريقة معرفتها بحقائق السماء ، ومنها حقيقة الإحياء والإماتة بخاصة . واُولى هاتين الاُقصوصتين اُقصوصة المارّ على القرية ، أو القرية الخاوية على عروشها .

فلنقف عندها ، مفصلا . . .

تقول الاُقصوصة :

﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَة وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

﴿قالَ : أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها

﴿فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عام ثُمَّ بَعَثَهُ

﴿قالَ : كَمْ لَبِثْتَ

﴿قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم

﴿قالَ : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عام

﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ

﴿وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ

﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً

﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ : أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ

إنّ هذه الاُقصوصة الممتعة فكريّاً وفنّياً ، تظل حائمةً على نفس ظاهرة الإماتةِ والإحياء ، لكنّها تصبّ في رافد آخر .

إنّها تتحدث عن واقعة حدثت فعليّاً ، هي إماتة القرية ، ثمّ إماتة شخصيّة وإحيائها من جديد . . .

الاُقصوصة السابقة إبراهيم (عليه السلام) مع نمرود ، تحدّثت عن الإحياء والإماتة على نحو الإجمال ، وكانت الواقعة المُستشهد بها حقيقة كونية ثابتةً هي طلوع الشمس من المشرق ، وكان المنكر لحقيقة الإماتة والإحياء ، شخصية هزيلة ، اضطرّت إلى الاقرار بحقيقة الأمر عندما واجهت قضية الشمس .

أمّا هنا في اُقصوصة المارّ على القرية ، فإنّ الأمر مختلف كلّ الاختلاف .

فالشخصية ـ بَطلةُ القصة ـ مؤمنة بالسماء وبالإحياء وبالإماتة ، وبكلّ شيء . . . إنّها إحدى الشخصيات النبويّة قد تكون إرميا ، وقد تكون عُزيراً ، . . . لكنّها على أيّة حال ذات سمة ليست مثل البشر العاديين ، بل من الشخصيات المتميّزة التي تتلقّى تعاليمها من السماء وَحْيَاً .

والتجربة التي واجهت هذه الشخصية من نمط آخر أيضاً . إنّها تتصل بقرية ميّتة باد أهلُها وعمرانُها ، وتتصل بالشخصية المارّة على هذه القرية ، حيث أماتها اللّه وبعثها بعد مائة عام ، ومثل ذلك قضية الدابّة والطعام اللذين شكّلا راحلةَ المُسافر وزاده .

إذن الأحداث ، والمواقف ، والشخصيات في الاُقصوصتين تتمايز من واحدة لاُخرى . . . كلّ ما في الأمر أنّ قضية واحدة هي ، الإماتة والإحياء تظل مادّةً مشتركةً بينهما .

والسؤال : ما هي دلالة هذه الاُقصوصة ، القرية الخاوية ، فكريّاً وفنّياً ؟

من حيث البيئة ، فإنّ القرية قد رُسمت خاويةٌ على أبنيتها . وهذا المظهر الخارجي للمدينة ، يشيع الرهبة والوحشة في النفوس ، حيث نحسّ أرضاً خاليةً من دبيب البشر ، خاليةً من العمارة ، خاليةً من كلّ مظهر حضاري ، إلاّ أنقاض الأبنية .

وتقول النصوص المفسّرة : إنّ بختنصّر زحف عليها وأبادها ، وكان أهلها كما نتوقّع دائماً من اليهود الذين عملوا بالمعاصي ، فانتقم اللّه منهم بطاغية من طرازهم أبادهم من المدينة تماماً . وتضيف النصوص المفسّرة : إنّ سباع البر والبحر والجو كانت تأكل من الجيف المتمزّقة هنا وهناك .

المهم ، أنّ هذه المدينة خرج إليها ذات يوم ، أو مرّ عليها إرميا ، ومعه دابته وزاده .

ويعنينا من هذه البيئة ردّ الفعل الذي أحدثته في نفس المسافر إرميا ، عندما وجدها بهذه الوحشة ، ممّا جعلته يتساءل :

﴿أَنـّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ؟ ﴾

طبيعيّاً ، أنّ هذا التساؤل ، لا يحمل عنصر تشكيك بالسماء وقدراتها اللامحدودة بقدر ما يحمل شحنةً انفعاليةً فجّرتها تلك اللحظة التي تركت في نفس إرميا مشاعر الرهبة والوحشة والاختناق ، حتى جعلته يتحاور مع نفسه قائلا بما معناه لقد بادت هذه المدينة ، ومُسحت من خارطة العمران ، ولا أمل بأن يُحييها اللّه من جديد .

نقول هذا ونحن لا يخامرنا شكّ في أنّ الشخصيّات النبويّة من الممتنع أن يصدر عنها أىّ تشكيك بقدرات السماء ، كلّ ما في الأمر أنّ موقف إرميا يُشبه موقف من يُشاهد إحدى المدن التي أبادتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض ، ممّا يجعله ـ في مثل هذه الحالة ـ مستبعداً عودتها جديداً بعد هذا الخراب .

وبكلمة اُخرى ، يمكننا أن نقول : إنّ الشخصيّة المذكورة نظرت إلى الأسباب التي جعلها اللّه موقوفةً على هذه الظاهرة أو تلك ، دون أن تتجاوزها الشخصيّة المذكورة إلى التماس ما هو خارج عن نطاق المألوف . . .

من هنا جاء ردّ السماء سريعاً على التساؤل المذكور ، فعرّض هذه الشخصيّة ذاتها إلى ظاهرة غير مألوفة فيما يتصل بالإحياء بعد الموت ، فأمات هذه الشخصية مائة عام ، ثمّ بعثها من جديد حتى تطمئن تماماً إلى أنّ اللّه قادر على كلّ شيء .

وقد رافق إحياء هذه الشخصية أكثر من ظاهرة تشكّل بمجموعها إجابةً واضحة على التساؤل المذكور .

ويعنينا الآن أن نفصّل الحديث من الزاوية الفنّية في ظاهرة الإماتة والإحياء في نطاق هذه الشخصية ، وما عكسته من آثار في استجابتها لهذه الظاهرة وما نفيد منه ـ نحن القراء ـ في هذا الصدد .

* * *

قلنا : إنّ المارّ على المدينة الخاوية ، وهو إرميا قد تساءل :

﴿ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ؟ ﴾

وقد أماته اللّه مائة عام منذ تلك اللحظة التي تساءل فيها ، ثمّ بعثه من جديد .

هنا بعد الانبعاث ، ماذا نتوقّع من ردود الفعل لدى هذه الشخصيّة الميّتة ، المنبعّثة ؟

تقول القصة : إنّه سُئل : كم لبثت في نومك ؟ فأجاب : لبثتُ يوماً أو بعض يوم .

﴿ قالَ : كَمْ لَبِثْتَ ؟ ﴾

﴿قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم

المارّ على القرية كان فيما يبدو مسافر وحده .

ونحن نتوقّع أن يكون وحده أيضاً في لحظة انبعاثه . . .

فمن الذي سأله وقال له : كم لبثت ؟

ولمن وجّه المسافرُ جوابه حين قال : لبثتُ يوماً أو بعض يوم ؟

القصة ساكتة عن كلّ هذا .

لكننا ونحن حيال قصة فنّية يمكننا أن نستكشف من خلال لغة الفنّ ، أنّ السائل لابدّ أن يكون خارجاً عن نطاق المألوف ، فكما أنّ إماتة شخص وإحياءه بعد مائة عام خارجٌ عن نطاق المألوف ، فكذلك يلوح لنا أنّ السائل أيضاً غير مألوف .

النصوص المفسّرةُ تقول : إنّ السؤال كان نداء من السماء ، أو شخصيةً ملائكية ، أو شخصيةً نبويّة ، أو شخصية معمّرة ، وكلّ ذلك من الممكن أن يكون صحيحاً .

فنحن أمام شخصية أحد الأنبياء ، ونتوقع ـ فنّياً ـ أن تتعامل مثل هذه الشخصيات مع السماء من خلال شخوص الملائكة الذين هم رسل السماء إلى الأرض .

كما أ نّه من الممكن أن تكون السماء قد أحضرت في لحظة الانبعاث إحدى شخصيات الأرض ، ليُطلع إرميا على حقيقة الأمر .

والمهمّ ـ من الزاوية الفنّية ـ أنّ القصة لم تكشف عن السائل ، بل تركتنا ـ نحن القراء ـ نستخلص بأنفسنا ذلك ما دام الهدف هو إخبار إرميا بحقيقة الأمر .

والأهم من ذلك كلّه ، أنّ عمليّة السؤال نفسه ، ظاهرة إعجازية تضاف إلى الظاهرة الإعجازية التي سبقتها ، وهي إماتة إرميا مائة عام وإحياءه بعد ذلك ، حتّى لكأنّ القصة تريد أن تقول لنا : ها هو المسافر إرميا يواجهه بُعدٌ إعجازي حتى يطمئن إلى أنّ اللّه قادر على كلّ شيء ، وإلى أ نّه لا ينبغي أن يخامرنا أدنى شكّ ، أو تأمّل ، أو تساؤل عن كيفية إحياء المدينة بعد تحوّلها إلى أنقاض .

* * *

هنا ينبغي أن نقف وقفة قصيرة عند عنصر الزمن في هذه الاُقصوصة .

فالزمن المعجز طابع هذه الاُقصوصة كما لحظنا .

إنّ إرميا قد افتقد الإحساس بالزمن ، حتى خُيّل إليه أنّ نومه كان يوماً أو بعض يوم ، على نحو ما سنلحظه عند أصحاب الكهف الذين لبثوا ثلاثمأة وتسعة أعوام ، فخيّل إليهم أنـّهم لبثوا في الكهف يوماً أو بعض يوم .

ونتساءل هنا : لماذا خُيّل للمارّ على القرية أ نّه لبث يوماً أو بعض يوم ؟

القصةُ ساكتة عن ذلك ، لأسباب فنّية لا تحتاج إلى توضيح .

لكنّ النصوص المفسّرة تُلقي نوراً على مصدر الإحساس المذكور ، قائلةً : إنّ هذه الشخصية نظرت إلى الشمس فوجدتها قد ارتفعت ، وحينئذ خامرها الإحساس بأنـّه يومٌ أو بعض يوم .

بيد أنّ القصة وهي تستهدف ترسيخ اليقين بقدرات السماء سرعان ما صحّحت الإحساس الواهم بالزمن لدى هذه الشخصية ، فأوضحت لها على لسان الملك أو النداء أو النبيّ الآخر أو المعمّر ، قائلة له :

﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عام . . .﴾

هنا لابدّ أن تصيب الصعقةُ أو الدهشةُ شخصيّة المنبعث حينما يُصحّح إحساسه بالزمن الحقيقي ، فيجد نفسه أمام مفاجأة إعجازية جاءت جواباً على تساؤله :

﴿ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ؟ ﴾

لكن السماء لم تكتف بهذا الملمح الإعجازي ، بل تقدّمت بملامح اُخرى ، ألفتت إنتباه هذه الشخصية إليها حتى تعمّق يقينه بقدرات السماء . . .

فما هي هذه الملامح ؟

* * *

لكلّ مسافر راحلةٌ وزاد . . .

لقد قالت القصة عن شخصية إرميا ما يلي :

﴿كالذي مر على قرية

وهذا يعني أنّ المار على القرية ، هو مسافر يتنقّل من مكان إلى آخر .

والمسافر عصرئذ وحتّى إلى عهد قريب ، كانت راحلته أو وسيلة ركوبه هي الدابة ، وطبيعيّ فإنّ سير الدابة يظلّ بالقياس إلى سير الحافلة أو القاطرة أو الطائرة مثلا بطيئاً ونتيجة لهذا البُطء ، فإنّ قطع عشرات الكيلومترات أو المئآت أو الآلاف يظل مستغرقاً أياماً أو أسابيع أو شهوراً . . . وهذا ما يتطلّب أن يهيّئ المسافر طعاماً بقدر ما تستغرقه رحلتُه .

وهكذا كان من أمر بطل الاُقصوصة إرميا .

القصةُ لم تقل لنا : إنّ إرميا ركب حماره واصطحب معه طعامه ، وسافر إلى هذه المدينة أو تلك . إنّما قالت لنا :

﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَة وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

﴿قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها

إنّ هذه السمة «كالذي مرّ على قرية» تعني أنّ إرميا كان مسافراً ، بدليل أ نّه مرّ على قرية ، والمارّ على المدينة يحتاج إلى زاد وراحلة . . .

ولكن كيف استخلصنا ذلك ؟

الفنّ العظيم هو الذي يتكفّل بتوضيح ذلك من خلال لغة الفنّ القصصي .

فلنستمع إذن إلى الحوار الدائر بين إرميا وبين السائل الذي قال له بأنّك قد لبثت مائة عام ، وليس يوماً أو بعض يوم .

قال السائل ، وهو ينبّه بطل الاُقصوصة إلى خطأ تصوّره من أ نّه لبث يوماً أو بعض يوم ، قال له :

﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانْظُرْ إِلى حِمارِكَ

قد يتساءل القارئ ، ما هي علاقة الطعام والشراب والدابة بالاُقصوصة ؟ ولماذا تعرّضت للطعام والشراب والدابة ، ولم تتعرّض لظواهر اُخرى من البيئة ؟

كان من الممكن أن تنبّه الاُقصوصة بطلها إرميا إلى هيكله الجسمي مثلا من طول أظافره وشعره ، وبِلى ملابسه ، كما سبق أن نبّهت قصةُ أصحاب الكهف إلى ذلك عندما قالت لنا :

﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ولَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً

حيث كانت أشكالهم تثير الرعب والهول في نفوس المُشاهدين ، نظراً للبثهم عدة قرون في الكهف .

هنا تنبثق أهمية الفنّ في القصص القرآني العظيم .

إنّ إرميا بطل الاُقصوصة كان مسافراً ، والمسافر لابدّ له من زاد وراحلة ، وبما أ نّه كان مسافراً يركب دابته ويصطحب معه طعامه وشرابه ، فحينئذ تعرّضت القصةُ لهذا الجانب دون سواه من الظواهر المحيطة به ، فألفتت انتباهه إلى طعامه وشرابة ودابته ، وقالت له :

﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانْظُرْ إِلى حِمارِكَ

إذن ، أدركنا السرّ الفنّي المُمتع لهذه الأوصاف المتصلة ببيئة الطعام والشراب والدابة دون سواها من الأوصاف التي كان من الممكن أن تنبّه بطل الاُقصوصة إلى ذلك .

ولكن لا تزال هناك أسرار فنّية جديدة في هذا النطاق ، يتعيّن علينا متابعتها .

* * *

قلنا : إنّ القصة عندما تعرّضت للطعام والشراب والدابة وطالبت البطل إرميابأن ينتبه إليها ، إنّما كان ذلك بسبب فنّي مُحكم ، هو كون البطل المسافر كان يصطحب معه طعاماً وشراباً يقتات منه في رحلته ، ويستخدم الدابة في ركوبه ، حيث انتهى الأمر بالبطل إلى أن يميته اللّه مائة عام ويبعثه بعد ذلك وينبّهه إلى أ نّه لم يلبث يوماً أو بعض يوم ، بل لبث مائة عام ، ثم يُنبّهه إلى الطعام والشراب والدابة وإلى ما رافق هذه العناصر الثلاثة من ظاهر ، سنتعرّض لها بعد قليل .

لكننا قبل ذلك ينبغي أن نتعرف على سمة فنّية اُخرى في هذا القسم من الاُقصوصة .

الاُقصوصة لم تقل لنا : إنّ بطلها إرميا كان قد اصطحب معه طعاماً وشراباً ، وإنّه ركب دابّته عند مروره على المدينة الخاوية ، واستفساره :

﴿أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها

بل تعرّضت لبيئة السفر من طعام وشراب ودابة من خلال تنبيه البطل إلى خطأ إحساسه بالزمن ، وإلى عدم إحساسه بأنّه قد تعرّض لاختبار إلهيّ هو ، إماتته مائة عام ، وإحياؤه بعد ذلك خلال هذا الاختبار ، أو الحادثة الإعجازية فحسب ، نبّهت الاُقصوصةُ بطلها إلى أن ينظر إلى طعامه وشرابه ودابته وحينئذ أدركنا ـ نحن القراء ـ من خلال هذه الوسيلة الفنّية ، أنّ إرميا قد صحب معه ما يصحبه المسافر عادة من الزاد ، وما يستخدمه عادة من الراحلة ، وإلى أنّ كلاّ من الزاد والراحلة يفسّران لنا أسرار الفن الذي جعلنا نتساءل عن تعرّض الاُقصوصة لهما ، دون سواهما من عناصر البيئة التي أحاطت بالبطل ، وجعلته يفتقد عنصر الإحساس بالزمن ، حتى خيّل إليه أ نّه لبث يوماً أو بعض يوم .

والآن ، بعد أن أدركنا ذلك كلّه يحسن بنا أن نقف عند كلّ من الزاد والراحلة ، أيّ الطعام والشراب والدابة ، ونتعرف أسباب التنبيه إليها من حيث صلة ذلك بالاعجاز ، وبقدرات اللّه التي لا تُحدّ ، وبسائر الدلالات الفكرية التي تستهدفها السماء في هذه الاُقصوصة ، وما يمكننا ـ نحن القرّاء ـ من الإفادة منه في تصويب سلوكنا وطريقة تعاملنا مع اللّه عزّ وجلّ ، وصلة ذلك بدرجات اليقين ومستوياته التي ينبغي أن نكون عليها خلال مهمّتنا الخلافية في الأرض .

* * *

قلنا : إنّ عنصر الزمن المعجز يمثّل الملمح الرئيسي في هذه الاُقصوصة .

إنّ بطل الاُقصوصة حينما فقد إحساسه بالزمن ، وخُيّل إليه أ نّه لبث يوماً أو بعض يوم ، فلأنّ الأعوام لم تغيّر ـ في تصوّره ـ شيئاً من ملامح البيئة التي واجَهها .

وقد نبّهت القصةُ بطلها إلى أن ينظر إلى طعامه وشرابه ودابّته ، ثمّ طالبته بأن ينظر إلى العظام كيف تُنشزُ ، وإلى اللحم كيف يكسوها . . .

والسؤال هو : لماذا طُولب البطل بأن ينظر إلى طعامه وشرابه ودابّته قبل النظر إلى العظام واللحم ؟ وهل العظام واللحم عائدان إلى البطل أم إلى الدابة ؟

وإذا كان البطل واعياً بأنّ عظامه قد انتثرت ، فلماذا التبس الأمر عليه ، فقال بأنـّه لبث يوماً أو بعض يوم ؟

إنّ الإجابة على هذين السؤالين ، ينطويان على جملة من أسرار الفنّ العظيم في القصص القرآني .

ولكي نتبيّن بوضوح أسرار الفنّ في هذا الصدد ، يحسن بنا أن نتبسّط في تحليل الظاهرة .

لقد بُعث البطل بعد مرور مائة عام على موته . . . قيل له : كم لبثت في النوم؟

قال : يوماً ، أو أقلّ منه .

قيل له : لا إنّك قد اخطأت ، لقد لبثت مائة عام في نومك . هنا تعجّب البطل ، ولكن طُولبَ بأن ينظر إلى طعامه وشرابه ، وقد كان عصيراً وتيناً وعنباً . قيل له :

انظر إلى العصير والتين والعنب ، إنّها لم تتغيّر خلال المائة عام ، ثم قيل له : انظر إلى العظام واللحم ، كيف يُحييها اللّه وكيف يكسوها .

إلى هنا نفهم أنّ تنبيه البطل إلى عدم تغيّر الطعام والشراب خلال مائة عام ، يعني أن الإعجاز وراء هذه الظاهرة .

كما نفهم أنّ مطالبته بالعظام المنتثرة وكيفية إعادتها واكتسائها باللحم ، ينطوي على الإعجاز ذاته .

ولكن ، هل أنّ هذه العظام عظامه هو ، أم عظام دابّته ؟

إذا كانت العظامُ عظامَ دابّته ، فلماذا شوهدت متفسّخة ، ثم اُعيدت إلى الحياة ؟

في حين أنّ العصير والتين والعنب لم تخضع للتغيّر .

إذن ، لابدّ هناك من سرّ فنّي في إبقاء بعض الظواهر محتفطةً بحيويّتها ، كالطعام والشراب ، وفي إخضاع البعض الآخر إلى التغيّر ثم إلى إعادتها ، كما هي مثل العظام واللحم .

وإذا كانت العظام عظام البطل نفسه وليس عظام الدابّة !!

فكيف استطاع أن ينظر إليها وهو نفسه متفسّخ العظام واللحم ؟

أيضاً لابدّ هناك من سرّ فنّي وراء هذا . ثم يُثار سؤال آخر ، سواء أكانت العظامُ المتفسّخةُ التي عادت إلى الحياة ، عظامه هو أو عظامُ دابته ، لماذا طُولب بالنظر إليها بعد النظر إلى الطعام والشراب ؟

للمرّة الجديدة ، الإجابة على هذه الأسئلة تكشف عن خطورة الفنّ القرآني العظيم ، وما يواكب ذلك من دلالات لها فاعليُتها في تصويب سلوكنا الفكري حيال قُدرات اللّه عزّ وجلّ . . .

* * *

في تصوّرنا الفنّي الخالص أنّ هدف القصة ، هو إراءة البطل بأنّ اللّه قادر على كلّ شيء بما في ذلك تغيير السنن الكونية التي رسمها اللّه موسومةً بطابعِ الثبات ، ولكي يتمّ تحقيق ذلك ، كان لابدّ أن تجعل القصةُ بطلها غير منتبه إلى تركيبته البدنية ، بل تصرفه إلى قضية الطعام والشراب أوّلا . . .

والسبب في ذلك ـ من الزاوية الفنّية ـ أنّ القصة لو جعلت البطل ينتبه إلى نفسه أوّلا ، لما التبس الأمر عليه حينئذ ، ولما قُدّر له أن يتخيّل بأنّ لبثه كان يوماً أو بعض يوم ، إذ لو شاهد أجزاء جسمه أو دابّته متقطعة ، لتيقّن حينئذ بأنـّه مكث أعواماً ، في حين أنّ القصة تُريد أن تنبّهه إلى خطأ تصوّره ، فكان لابدّ من أن تنبّهه أولا إلى الطعام والشراب حتى يغفل عن حقيقة الأمر ، وبعد ذلك تنبّهه إلى العظام واللحم ، وكيفية إعادته إليها ، وعندها يتيقّن تماماً ويطمئن إلى الإعجاز الذي رافق هذه العملية .

بكلمة اُخرى ، كان لابدّ من أن تجعل القصة بطلها على الأقل في لحظة توجيه السؤال إليه ، أو لحظة انبعاثه ، ذا هيئة بدنية طبيعية ، حتى يلتبس عليه الأمر ، فيتصوّر بأنـّه لبث يوماً أو بعض يوم ، وبعد انتهاء هذه المرحلة تنبّهه إلى أشياء جديدة يبدأ معها في تعرّف حقيقة الأمر .

وبهذه الوسيلة أو الطريقة النفسية يتحقق هدف الاُقصوصة في تحسيس بطلها ، بأنّ اللّه قادر على كلّ شيء ، قادرٌ على إحياء القرية الخاوية بمثل قدرته على إحياء ميّت مرّت عليه مائة عام .

وهذا كلّه إذا تصوّرنا أنّ العظام واللحم عائدة إلى البطل . والأمر نفسه إذا تصوّرناها عائدة إلى الدابّة ، لكننا نستبعد هذا التصوّر الأخير لأسباب فنّية نشرحها فيما بعد ، وحتى مع افتراض صحة هذا التصوّر ، فإنّ مشاهدة أجزاء الدابّة متفسّخةٌ ، تجعل البطل منتبهاً إلى الحقيقة منذ البدء ، فلا يُخيّل إليه أ نّه لبث يوماً أو بعض يوم .

إذن أدركنا أهمية السرّ الفنّي الذي جعل القصة تنبّه البطل أولا إلى قضية الطعام والشراب ، ثم تنبّهه إلى العظام واللحم بعد ذلك .

لكن هناك أسرار فنّية عظيمة اُخرى تتصل بنفس الطعام والشراب والدابة ، ينبغي أن نقف عندها .

* * *

منذ اللحظة الاُولى من إحياء البطل بعد موته مائة عام . . . طالبته الاُقصوصة بأن ينظر إلى طعامه وشرابه . . .

إنّ هدف هذه المطالبة بالنظر إلى الطعام والشراب ، هو لفت انتباه بطلها إلى أنّ عام من الزمن ، لم تغيّر شيئاً من الزاد الذي كان البطل قد اصطحبه في سفره .

تقول القصة : ﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ .

أيّ : لم تغيّره الأعوام .

وتذهب النصوص المفسّرة إلى أنّ الطعام والشراب كان من النوع الذي يفسد سريعاً مثل : العنب والتين والعصير .

وهذا يعني أنّ الاُقصوصة قدّمت للبطل دليلا إعجازياً يتمثل في قدرة السماء على كلّ شيء ، ومنه احتفاظ الطعام والشراب بحيويتهما رغم مرور مائة عام عليهما ، مع أنـّهما من النوع الذي يتغيّر ويفسد خلال أيام معدودة ، ولازم هذا فنّياً أنّ اللّه قادرٌ على إحياء القرية الخاوية أيضاً .

هكذا سلكت القصة فنّياً في حمل بطلها على القناعة بقدرة اللّه عزّ وجلّ . . .لكن السؤال هو ، بعد أن نبّهت القصةُ بطلها بأنـّه قد مرّت عليه مائة عام ، وبأنّ طعامه وشرابه لم يتغيرا خلال هذه المدة ، هل اكتفت بذلك ، أم قدّمت دليلا آخر ؟

قد يخامر القارئ والسامع بعض التساؤل ، وهو أنّ مشاهدة البطل لطعامه وشرابه لم يتغيّرا ، من الممكن أن يزيده قناعةً بأنـّه لبث يوماً أو بعض يوم ، وإلاّ تلف الطعام والشراب ، ولم يبق لهما أيّ أثر .

إنّ مثل هذا التساؤل يُحلّ سريعاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، أنّ مجرّد لفت انتباهه عن طريق النداء أو الملك إلى أ نّه لبث مائة عام كاف في تعرّفه على حقيقة الأمر .

لكنّ الملاحظ ، أنّ القصة لم تكتف بهذا الدليل الإعجازي ، بل نبّهت البطل إلى دليلين إعجازيين آخرين ، هما : النظر إلى الدابّة ، ثمّ النظر إلى العظام واللحم قد التمّا من جديد وأعادا الحياة إلى البطل أو الدابة .

إنّ هذين الدليلين يقفان على العكس من الدليل السابق .

الدليل السابق ، هو إبقاء الشيء على ما هو عليه طوال مائة عام ، وهو الطعام والشراب . أمّا الدليلان الأخيران فهما على العكس من ذلك ، إنّه تلاشي الشيء ، ثمّ إعادتُه إلى الحياة من جديد . والفرق كبيرٌ كما هو واضح بينهما ، فما هو السرّ الفنّي في ذلك ؟

في تصوّرنا الفنّي لهذه الظاهرة أنّ الاُقصوصة تستهدف تقديم كافة الوجوه المعبّرة عن قدرات اللّه عزّ وجلّ ، ذات الصلة بالإماتة والإحياء .

إنّ السماء كما تستطيع أن تُبقي الشيء محتفظاً بحيويّته ، قادرةٌ أن تعيد حيويّة الشيء أيضاً بعد تلاشيه ، . الطعامُ بقي محتفظاً بحيّويته رغم إنـّه ينبغي أن يتلاشى .

وها هي الدابة قد تلاشت حيويتها ، أو ها هو البطل قد تلاشت حيويّتُه ، ولكن عادت الحيويّة إليهما من جديد ، رغم أنّهما ينبغي ألاّ يعودا .

إذن ، هناك ظاهرتان تضاد إحداهما الاُخرى ، لكنهما خاضعتان لطابع واحد هو ، قدرات اللّه عزّ وجلّ بشكلها غير المحدود .

ومن البيّن ، أنّ تقديم دليلين لعمليتين متضادّتين يزيد من قناعة البطل بقدرات السماء . . .

لكننا خارجاً عن ذلك ، نجد أنّ الاُقصوصة تلفّع الموقف بضباب فنّي مُمتع غاية الإمتاع ، حينما تسرد لنا قضية الدابة وقضية عودة العظام واللحم .

ففيما يتصل بالدابة قالت الاُقصوصة موجهةً الخطاب إلى بطلها :

﴿وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ . . .﴾

والسؤال هو ، هل أنّ الدابة ظلّت محتفظةً بحياتها طيلة مائة عام على نحو ما لحظناه في الطعام والشراب؟ أم أنّ الدابة قد تلاشت واُعيدت الحياةُ إليها في لحظة انبعاث البطل؟

القصةُ ساكتةٌ عن توضيح ذلك تماماً ، إنّها طالبت البطل بأن ينظر إلى الدابة دون

أن تشير إلى استمرارية حياتها أو عودة الحياة إليها . نعم ، طالبت البطل بعد ذلك بما يلي :

﴿وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً

ولكن ، هل هذه العظام وهذا اللحم عائدان إلى البطل أم إلى الدابة ؟

القصةُ أيضاً ساكتةٌ عن ذلك ، والقارئ لا يستطيع أن يجزم بشيء ، بل يبقى في نشاط ذهني متواصل لمعرفة الحقيقة ، القارئ لا يستطيع أن يجزم قبل الرجوع إلى النصوص المفسّرة بأنّ العظام واللحم قد التمّت من جديد وعادت إلى البطل ، لأنّ البطل لو كان فاقداً لبدنه ، كيف يستطيع أن يشاهد عظامه وقد التُئِمت واكتُسيت باللحم؟ . . . مضافاً لذلك ، إذا كان البطل قد شاهد عظامه ولحمه قد عادا إليه ، فلماذا التبس الأمر عليه وقال : لبثتُ يوماً أو بعض يوم؟ وبكلمة اُخرى : إنّ البطل كان غير واع أبداً بحقيقة العظام واللحم ، وإلاّ لانتبه إلى حقيقة الإعجاز ، وانتبه إلى أ نّه قد لبث مدة مجهولة لا يعرف مداها ، لا أنّها يومٌ أو بعض يوم .

وبالمقابل ، لا يستطيع القارئ أيضاً أن يجزم بأنّ العظام واللحم عائدان إلى الدابة ، لأنـّه لو شاهد مثل هذه الحادثة لما التبس عليه الأمر ، وتخيّل أنـّه لبث يوماً أو بعض يوم ، بل لانتبه إلى ذلك ، وبكلمة اُخرى أيضاً ، لو شاهد البطلُ عظامَ الدابة ولحمها قد اُعيدا ، حينئذ لأجاب السائل الذي سأله : كم لبثت؟ لأجابه بعدم العلم .

إذن يظل القارئ والسامعُ في حيرة من أمره قبال الجزم بهذا الشيء أو ذاك . . .

لكنّ الفنّ العظيم هو الذي يُثري ذهن القارئ ويعمّقه بهذا النمط من الاستجابة حيال القصة ، إذ أنّ كلاّ من الاحتمالين يعبّر عن الإعجاز ذاته ، سواء أكانت العظام واللحم عائدة إلى البطل أم إلى الدابة . . . المهم ، هو لفت انتباهنا إلى الإعجاز وقد تحقّق ذلك .

أمّا التفصيلات فأمر آخر يستطيع القارئ أن يتعرّفها في نصوص التفسير ، أو يتعرّفها من خلال لغة الفنّ إذا كان القارئ خبيراً بفنّ القصة ، وهذا ما نحاول الوقوف عليه ، فنقدّم أوّلا النصوص المفسّرة ، ثمّ نعرض وجهة نظرنا الفنّية في هذا الصدد .

فيما يتصل بالنصوص المفسّرة ، فإنّها متردّدة بين الذهاب إلى أنّ العظام واللحم عائدان إلى البطل ، وبين الذهاب إلى أنّهما عائدان إلى الدابّة .

لكنّ نصّاً مأثوراً عن أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّد بأنّ العظام واللحم عائدان إلى البطل ، ويقول هذا النص : إنّ أوّل ما خلق من تركيبة البطل ، عيناه ، حيث شاهد بهما بعد مطالبته بالنظر إلى الطعام والشراب والدابة ، شاهد بهما عظامه يلتئم بعضها بالآخر ، وعروقه تجري فيه .

وفي تصوّرنا الفنّي الخالص ، أنّ هذا التفسير أقرب إلى الواقع ، لا لأنـّه مأثورٌ عن أهل البيت (عليهم السلام) فحسب ، بل لأنّ الادلّة الفنّية أيضاً تسعفنا في ذلك .

كما ينبغي لفت الانتباه إلى أنّ إدراك هذه الحقيقة الفنّية أو تلك ، إنّما يكتسب أهميته بقدر ما تنطوي عليه الحقيقة الفنّية من دلالة فكرية تستهدفها القصة في تطبيع سلوكنا حيال السماء وقدراتها التي ينبغي ألاّ يتسلّل الشك إليها حتّى في نطاق تغيير القواعد التي طبعتها السماء بسمة الثبات .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .