كان الليلُ ساكنًا، والنجوم تومض كعيونٍ شاخصةٍ نحو سرّ الغيب.
في صمت الوجود، ارتفع صوتُ أمير المؤمنين عليه السلام، كأنه صوت الحقّ يُنذر النائمين في غفلتهم.
لم يكن صوته صدى بشر، بل رجعَ آخرةٍ يتردّد في أسماع الدنيا، يقول:
وبادروا بالأعمالِ عُمُرًا ناكِسًا، أو مرضًا حابسًا، أو موتًا خالسًا... فإنّ الموتَ هادمُ لذّاتِكم، ومكدّرُ شهواتِكم...
عندها توقّف الزمن.
ارتجفت القلوبُ كأوراقٍ في ريحٍ باردةٍ من المجهول.
تسلّل ذكرُ الموت إلى النفوس، لا كفكرةٍ بعيدةٍ تُخيف، بل كحقيقةٍ تطرق البابَ دون استئذان، وتجلس حيث لا يُنتظر الجلوس.
رأى السامعون في خيالهم الموتَ يقتربُ خُطوةً بعد أخرى؛ لا يحمل سيفًا، بل يحمل مرآةً يرى فيها كلُّ إنسانٍ وجهه الحقيقي.
وجهٌ تهاوت عنه الأقنعة، وذابت منه الألوان، فلا يبقى إلا الصدقُ مجرّدًا من الزينة.
قال الإمام عليه السلام كمن يُحدّث الوجدان نفسه: الْمَوْتُ زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوب، وَقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوب، وَوَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوب...
الموت ليس عدوًّا يفرّ، ولا صديقًا يُستدعى، بل هو قرينٌ صامت يمشي إلى جوارك كلّ يوم، لا يتعب، ولا ينسى.
أنت تُدير وجهك عنه، وهو لا يُدير وجهه عنك.
تفرّ إلى اللذّة، فيتبعك.
تغفو على وسادة الأمان، فيسهر على مقربةٍ منك، يعدّ أنفاسك عدًّا.
ثمّ مضى الإمام في بيانه كمن يفتح باب الغيب على مصراعيه: فيوشك أن تغشاكم دواجِي ظُلَلِه، واحتدامُ عِلَلِه، وحنادِسُ غمراته، وغواشي سكراته...
فإذا المشهدُ يشتعل في الخيال:
أنفاسٌ تتقطّع كخيوطٍ تتلاشى في الظلمة، وعينٌ تبحث عن نورٍ لا تراه، وصوتُ الجسدِ يخفتُ شيئًا فشيئًا حتى يصير الوجودُ سكونًا عميقًا.
هنالك تُسدل الستائر، وتبدأ رحلة الصمت الأبديّ.
يتلاشى البيتُ الذي كان مأهولًا بالضحك، وتغدو الدار صامتةً إلا من أصداء الماضين.
السرير الذي كان ينام عليه الإنسان يصبح منبرًا للغياب،
والوجوهُ التي كانت تبتسم تبكي، ثمّ تملّ، ثمّ تنسى...
فكأن قد أتاكم بغتةً، فأسكتَ نجيَّكم، وفرّقَ نديَّكم، وعفّى آثارَكم، وعطّلَ ديارَكم...
يا لله أيّ بيانٍ يُعرّي الوجود هذا
كلمةٌ من الإمام تهزّ صرحَ الغفلة حتى يتهاوى.
كلّ شيءٍ يُسلب، حتى الاسم الذي كان يُنادى به، يُصبح بعد حينٍ مجرّدَ ذكرى في لسانٍ لا يعرف لمن يتحدّث.
لكنّ الإمام لا يُرعب ليرهب، بل يُنذر ليرشد.
إنّه يُريك الموت لا ليخنق الأمل، بل ليوقظ المعنى.
فالموتُ عنده ليس فناءً، بل عتبةُ لقاءٍ وعدٍ صادق.
هو المرآةُ التي يرى فيها المؤمنُ ثمرةَ عمله، والزاهدُ طمأنينةَ قلبه، والغافلُ حسرتَه الأخيرة.
فيا من تسمع الآن صدى تلك الخطبة،
اعمل قبل أن يُطوى كتابُك،
وابكِ قبل أن تُبكى،
وسِرْ في طريقك خفيفًا، فالموت لا يحملُ أثقالَ المتكاسلين.
"تزودوا في منزل الزاد" هكذا ختمها الإمام،
كأنّه يُشير بيده إلى نهاية الطريق حيث لا مالٌ ولا جاه، بل عملٌ خالصٌ يضيء الظلمة.
فمن جعل التقوى زاده، نجا.
ومن ركن إلى الدنيا، تاه.
ومن ظنّ أن الموت بعيد، فقد نام على فوهة الأبدية.







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN