قال تعالى : {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَو إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ } [البلد: 1 - 20]
{لا أقسم بهذا البلد} أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة وقد تقدم بيان قوله {لا أقسم} في سورة القيامة {وأنت حل بهذا البلد} أي وأنت يا محمد مقيم به وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حل به من الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته وبيان أن تعظيمه له وقسمه به لأجله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولكونه حالا فيه كما سميت المدينة طيبة لأنها طابت به حيا وميتا وقيل معناه وأنت محل بهذا البلد وهو ضد المحرم والمراد وأنت حلال لك قتل من رأيت به من الكفار وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلها الله له (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى قاتل وقتل وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) : ((لا يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد من بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار)) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء وهذا وعد من الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يحل له مكة حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ويكون بها حلا يصنع بها ما يريد القتل والأسر وقد فعل سبحانه ذلك فدخلها غلبة وكرها وقتل ابن أخطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن سبابة وغيرهما وقيل معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حل فيه منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلم يبن للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك عن أبي مسلم وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيه فقال {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} يريد أنهم استحلوك فيه فكذبوك وشتموك وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليدهم إياه فاستحلوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما لم يستحلوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم.
ثم عطف على القسم فقال {ووالد وما ولد} يعني آدم (عليه السلام) وذريته عن الحسن ومجاهد وقتادة وذلك أنهم خليقة أعجب من هذه الخليقة وهم عمار الدنيا وقيل آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل يريد إبراهيم (عليه السلام) وولده عن ابن أبي عمران الجوني لما أقسم بالبلد أقسم بإبراهيم فإنه بانيه وبأولاده العرب إذ هم المخصصون بالبلد وقيل يعني كل والد وولده عن ابن عباس والجبائي وقيل ووالد من يولد له وما ولد يعني العاقر عن ابن جبير فيكون ما نفيا وهو بعيد لأنه يكون تقديره وما ما ولد فحذف ما الأولى التي تكون موصولة أو موصوفة.
{لقد خلقنا الإنسان في كبد} أي في نصب وشدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن قال يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال ابن آدم لا يزال يكابد أمرا حتى يفارق الدنيا وقيل في شدة خلق من حمله وولادته ورضاعه وفطامه ومعاشه وحياته وموته ثم أنه سبحانه لم يخلق خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو أضعف الخلق وقيل في كبد أي قائما على قدميه منتصبا وكل شيء خلق فإنه يمسي مكبا إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا فالكبد الاستواء والاستقامة وهو رواية مقسم عن ابن عباس وهو قول مجاهد وأبي صالح وعكرمة وقيل يريد شدة الأمر والنهي أي خلقناه ليعبدنا بالعبادات الشاقة مثل الاغتسال من الجنابة في البرد والقيام إلى الصلاة من النوم فينبغي له أن يعلم أن الدنيا دار كبد ومشقة والجنة دار الراحة والنعمة.
{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} معناه أ يظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى وركب القبائح فبئس الظن ذلك وهذا استفهام إنكار أي لا يظن ذلك وقيل معناه أ يحسب هذا المغتر بماله أن لا يقدر عليه أحد يأخذ ماله عن الحسن وقيل أ يحسب أن لا يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وفي ما ذا أنفقه عن قتادة وقيل أنه يعني أبا الأسد بن كلدة وهو رجل من جمح كان قويا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه عن الكلبي.
ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال {يقول أهلكت مالا لبدا} أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يفتخر بذلك وقيل هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأمره أن يكفر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد عن مقاتل {أ يحسب أن لم يره أحد} فيطالبه من أين اكتسبه وفي ما ذا أنفقه عن قتادة وسعيد بن جبير وروي عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة عن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين جمعه وفيما ذا أنفقه وعن عمله ما ذا عمل به وعن حبنا أهل البيت)) وقيل أنه كان كاذبا لم ينفق ما قاله فقال الله سبحانه أ يظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أولم يفعل أنفق أولم ينفق عن الكلبي.
ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده فقال {أ لم نجعل له عينين} ليبصر بهما آثار حكمته {ولسانا وشفتين} لينطق بهما فيبين باللسان ويستعين بالشفتين على البيان قال قتادة : نعم الله عليك متظاهرة فقررك بها كيما تشكر وروى عبد الحميد المدائني عن أبي حازم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((إن الله تعالى يقول يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق)).
{وهديناه النجدين} أي سبيل الخير وسبيل الشر عن علي (عليه السلام) وابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقيل معناه أرشدناه للثديين عن سعيد بن المسيب والضحاك وفي رواية أخرى عن ابن عباس روي أنه قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) أن ناسا يقولون في قوله {وهديناه النجدين} أنهما الثديان فقال لا هما الخير والشر وقال الحسن بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((يا أيها الناس هما نجدان نجد الخير ونجد الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير)).
ولو قيل: كيف يكون نجد الشر مرتفعا كنجد الخير ومعلوم أنه لا رفعة في الشر؟ والجواب: أن الطريقين جميعا ظاهران باديان للمكلفين فسمى سبحانه كلاهما نجدا لظهوره وبروزه ويجوز أن يكون سمي طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه الرفعة والشرف كما يحصل ذلك في طريق الخير وقيل أيضا أنه على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا على بعض الوجوه فيجري لفظ أحدهما على الآخر كقولهم القمرين في الشمس والقمر قال الفرزدق :
أخذنا ب آفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع
ونظائره كثيرة {فلا اقتحم العقبة} فيه أقوال (أحدها) أن المعنى فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة ولا جاوزها وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة لا كما قال سبحانه فلا صدق ولا صلى أي لم يصدق ولم يصل وكما قال الحطيئة :
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها *** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وقد جاء من غير تكرار في نحو قوله :
إن تغفر اللهم تغفر جما*** وأي عبد لك لا ألما(2)
أي لم يلم بذنب (والآخر) أن يكون على وجه الدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة كما يقال لا غفر الله له ولا نجا ولا سلم والمعنى لا نجا من العقبة ولا جاوزها (والثالث) أن المعنى فهلا اقتحم العقبة أو أفلا اقتحم العقبة عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم قالوا ويدل على ذلك قوله تعالى {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} ولوكان أراد النفي لم يتصل الكلام قال المرتضى قدس الله روحه : هذا الوجه ضعيف جدا لأن الكلام خال من لفظ الاستفهام وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد الرمل والحصى والتراب(3)
وأما قولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام فليس بشيء لأن المعنى فلا اقتحم العقبة ثم كان من الذين آمنوا أي لم يقتحم ولم يؤمن وأما المراد بالعقبة ففيه وجوه (أحدها) أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبر فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود فكأنه قال لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام وهو قوله {وما أدراك ما العقبة} أي ما اقتحام العقبة.
ثم ذكره فقال {فك رقبة} وهو تخليصها من إسار الرق إلى آخره (وثانيها) أنها عقبة حقيقة قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عز وجل وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة)) وعن ابن عباس أنه قال : هي النار نفسها وروي عنه أيضا أنها عقبة في النار (وثالثها) ما روي عن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا وصعودا وهبوطا وإن في جنبيه كلاليب وخطاطيف(4) كأنها شوك السعدان فمن بين مسلم وناج ومخدوش في النار منكوس فمن الناس من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالريح العاصف ومنهم من يمر عليه كالفارس ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو ومنهم من يمر عليه كالرجل يسير ومنهم من يزحف زحفا ومنهم الزالون والزالات ومنهم من يكردس في النار(5) واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.
وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قاله سبحانه {وما أدراك} فإنه أخبره به وكل شيء قال فيه {وما يدريك} فإنه لم يخبره به وروي مرفوعا عن البراء بن عازب قال جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال ((إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة فقال أ وليسا واحدا قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وائمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير)) وقيل أن معنى فك رقبة أن يفك رقبة من الذنوب بالتوبة عن عكرمة وقيل أراد فك نفسه من العقاب بتحمل الطاعات عن الجبائي.
{أو إطعام في يوم ذي مسغبة} أي ذي مجاعة قال ابن عباس : يريد بالمسغبة الجوع وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من فعل)) مثل ما فعل وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان)) وروي عن محمد بن عمر بن يزيد قال قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) أن لي ابنا شديد العلة قال مرة يتصدق بالقبضة من الطعام بعد القبضة فإن الله تعالى يقول فلا اقتحم العقبة وقرأ الآيات.
{يتيما ذا مقربة} أي ذا قربى من قرابة النسب والرحم وهذا حث على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام والإنعام {أو مسكينا} أي فقيرا {ذا متربة} قد لصق بالتراب من شدة فقره وضره وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء وهذا مثل قولهم فقير مدقع مأخوذ من الدقعاء وهو التراب ثم بين سبحانه أن هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال {ثم كان من الذين آمنوا} أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم {وتواصوا بالصبر} على فرائض الله والصبر عن معصية الله أي وصى بعضهم بعضا بذلك {وتواصوا بالمرحمة} أي وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة على أهل الفقر وذوي المسكنة والفاقة وقيل تواصوا بالمرحمة فيما بينهم فرحموا الناس كلهم.
{أولئك أصحاب الميمنة} يؤخذ بهم ناحية اليمين ويأخذون كتبهم بأيمانهم عن الجبائي وقيل هم أصحاب اليمن والبركة على أنفسهم عن الحسن وأبي مسلم {والذين كفروا ب آياتنا} أي بحججنا ودلالاتنا وكذبوا أنبياءنا {هم أصحاب المشأمة} أي يأخذون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وقيل أنهم أصحاب الشؤم على أنفسهم {عليهم نار مؤصدة} أي مطبقة عن ابن عباس ومجاهد وقيل يعني أن أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج عنها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد عن مقاتل .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص361-366.
2- ألم : باشر اللمم اي : صغار الذنوب.
3- بهراً اي : بهرني بهراً بمعنى غلبني غلبة . بمعنى عجباً.
4- الخطاطيف جمع الخطاف : حديدة معوجة اختطف بها الشيء . والكلاليب جمع الكلوب وهو بمعناه ايضا.
5- رجل مكردس : جمعت يداه ورجلاه ، فشدت فالقي الى موضع.
{لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ} . المراد بالبلد مكة المكرمة بأشرف بيت وضع للناس مباركا ، وبأعظم نبي ولد فيها ، وأرسل رحمة للعالمين {وأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ} .
الخطاب لمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) وحل أي حال ومقيم ، والواو للحال ، وعليه يكون القسم بمكة مقيدا بإقامة الرسول فيها إشعارا بأن مكة زادت رفعة بمولده وإقامته . واختار الشيخ محمد عبده قول من قال : ان حلا هنا بمعنى الحلال لا بمعنى الحلول أي ان أهل مكة استحلوا إيذاء الرسول في البلد الأمين حتى اضطروه إلى الهجرة منه .
وهذا المعنى صحيح في نفسه ، ولكنه بعيد عن مدلول اللفظ ، فإن المتبادر إلى الافهام من {أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ} هو أنت مقيم فيه ، لا أنت حلال فيه .
{ووالِدٍ وما وَلَدَ} . هذا داخل في المقسم به ، وقال جماعة من المفسرين :
المراد بالوالد هنا آدم ، وبالولد ذريته ، وانما قال تعالى : وما ولد ولم يقل :
ومن ولد - ما زال الكلام للجماعة - ليشير سبحانه إلى ان المولود عظيم الشأن كما في قوله : {واللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} - 36 آل عمران . وقال آخرون :
منهم ابن عباس والطبري والشيخ محمد عبده : ان المراد كل والد ومولود إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا . . وهذا القول أقرب إلى ظاهر اللفظ من غيره ، أما الغرض من القسم بالوالد والمولود فهو التنبيه إلى إنشاء الكائنات الحية وتطورها من خلق إلى خلق ، من النطفة إلى الإنسان أو الحيوان ، ومن الحبة إلى الشجرة وغيرها من النبات .
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي كَبَدٍ} . هذا جواب القسم . وكبد التعب والمشقة ، والمعنى ان اللَّه سبحانه خلق الإنسان مجدا كادحا يتصارع مع ميوله ورغباته ، ومع أتعاب الحياة وشدائدها ، ثم بعد هذا يقاسي سكرات الموت ، وظلمة القبر ووحشته ، ثم أهوال القيامة والعرض على اللَّه لنقاش الحساب عما قال وفعل {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} . في يحسب ضمير يعود إلى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمعنى ان بعض الناس يظن انه قد بلغ من القوة والمنعة إلى حيث لا يقدر عليه أحد كائنا من كان ، وينسى انه خلق ضعيفا ، يقاسي الأهوال والشدائد ، وانه مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة كما قال الإمام على (عليه السلام) .
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً} أي كثيرا ، ويدل السياق ان في يقول ضميرا يعود إلى الغني الذي ينفق أمواله للشهرة وحسن الأحدوثة ، ويمسك عن الإنفاق في سبيل اللَّه والخير ، والمعنى إذا قيل لهذا المبذر : لما ذا لا تنفق في سبيل اللَّه ؟
قال : انا أنفق الكثير حتى أوشك مالي على النفاد والهلاك ، ولكني لا أنفقه في السبيل التي تدعونني إليها {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} . أيظن هذا المفتون بالشهرة والظهور ان اللَّه غافل عنه وعن أعماله وأهدافه . وفي الحديث : يسأل المرء غدا عن جسمه فيم أبلاه ؟ وعن عمره فيم أفناه ؟ وعن ماله مم اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ولِساناً وشَفَتَيْنِ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} . جاء في تفسير الرازي :
ان الذي قال : {أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً} قال أيضا بلسان المقال أو الحال : من الذي يحاسبني على مالي أمسكته أو أنفقته ؟ . فأجابه سبحانه : يحاسبك الذي جعل لك هذه الأعضاء . . وهذا قريب جدا إلى واقع الحال ، ومهما يكن فإن العينين إشارة إلى نعمة الرؤية والبصر ، واللسان إلى نعمة الكلام والبيان ، والهداية إلى نعمة العقل والإدراك ، والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر ، وبالعقل يحذر الإنسان من هذا ، ويسلك ذاك ، وفي نهج البلاغة : {كفاك من عقلك انه أوضح لك سبيل غيك من رشدك} . ويتفرع على هذا الإيضاح ان الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله ، وان للَّه الحجة عليه إذا أساء حيث وهبه القدرة والإدراك وأمره ونهاه .
ومثله {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً} - 3 الإنسان .
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ} . صيغة ما أدراك تستعمل للتفخيم والتعظيم ، واقتحم الشيء دخل فيه بشدة ، والعقبة في اللغة الطريق الصعب في الجبل ، والمراد بها هنا الأعمال الصالحة لأنها تحتاج إلى جهد وجهاد ، وصبر على المشاق ، والى كبح الميول والرغبات بخاصة بذل المال في سبيل الخير ، ومن الأعمال الصالحة أومن أهمها ما أشار إليه سبحانه بقوله : {فَكُّ رَقَبَةٍ أَو إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَو مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . فك الرقبة عتقها حيث كان في المجتمع آنذاك عبيد وإماء ، والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة في النسب ، والمتربة الفقر الشديد بحيث بلغ بصاحبه ان يفترش التراب ، والتواصي بالصبر ان يوصي المؤمنون بعضهم بعضا بالصبر على الجهاد لإحقاق الحق ، ورفض الاستسلام للباطل ، وأيضا ان يتواصوا بالرحمة ، وهي المواساة وحب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه ، ومجمل المعنى ان الذي أنفق أمواله حبا بالشهرة والظهور لم يتجاوز العقبة التي بينه وبين النجاة من العذاب والهلاك ، بل هو أخسر الناس صفقة ومن أكثرهم عذابا ، ولوانه أنفق في سبيل اللَّه وكان من الذين تواصوا بالصبر والرحمة - لتجاوز تلك العقبة ، وكان في أمن وأمان من غضب اللَّه وعذابه .
{أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} . أولئك إشارة إلى الذين آمنوا وأنفقوا وتواصوا بالصبر والمرحمة ، وأصحاب الميمنة هم الميامين الأخيار الذين يعطون غدا كتب الأمان والسعادة بإيمانهم {والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ} . أصحاب المشأمة هم المشئومون الأشرار الذين يعطون كتب الخزي والشقاء بشمائلهم ومن وراء ظهورهم ، ويساقون إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها ، فإذا دخلوها أطبقت عليهم إلى ما لا نهاية .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص566-568.
تذكر السورة أن خلقة الإنسان مبنية على التعب والمشقة فلا تجد شأنا من شئون الحياة إلا مقرونا بمرارة الكد والتعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب والمشقة ولا سعادة له خالصة من الشقاء والمشأمة إلا في الدار الآخرة عند الله.
فليتحمل ثقل التكاليف الإلهية بالصبر على الطاعة وعن المعصية وليجد في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم والفقر والمرض وأضرابها حتى يكون من أصحاب الميمنة وإلا فآخرته كأولاه وهومن أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.
وسياق آيات السورة، يشبه السياق المكي فيؤيد به كون السورة مكية وقد ادعى بعضهم عليه الإجماع، وقيل: السورة مدنية والسياق لا يساعد عليه، وقيل: مدنية إلا أربع آيات من أولها وسيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} ذكروا أن المراد بهذا البلد مكة وتؤيده مكية سياق السورة وقوله: {ووالد وما ولد} خاصة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيم (عليه السلام) على ما سيجيء.
قوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} حال من هذا البلد، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: {بهذا البلد} للدلالة على عظم شأنه والاعتناء بأمره وهو البلد الحرام، والحل مصدر كالحلول بمعنى الإقامة والاستقرار في مكان والمصدر بمعنى الفاعل.
والمعنى أقسم بهذا البلد والحال أنك حال به مقيم فيه وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها وكونها مولده ومقامه.
وقيل: الجملة معترضة بين القسم والمقسم به والمراد بالحل المستحل الذي لا حرمة له قال في الكشاف،: واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: {وأنت حل بهذا البلد} يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته انتهى.
ثم قال: أو سلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقسم ببلده أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: {وأنت حل بهذا البلد} يعني وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر إلى آخر ما قال، ومحصله تفسير الحل بمعنى المحل ضد المحرم، والمعنى وسنحل لك يوم فتح مكة حينا فنقاتل وتقتل فيه من شئت.
قوله تعالى: {ووالد وما ولد} لزوم نوع من التناسب والارتباط بين القسم والمقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد وما ولد من بينه وبين البلد المقسم به نسبة ظاهرة وينطبق على إبراهيم وولده إسماعيل (عليه السلام) وهما السببان الأصليان لبناء بلدة مكة والبانيان للبيت الحرام قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] وإبراهيم (عليه السلام) هو الذي سأل الله أن يجعل مكة بلدا آمنا قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } [إبراهيم: 35].
وتنكير {والد} للتعظيم والتفخيم، والتعبير بقوله {وما ولد} دون أن يقال: ومن ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحا كما في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36].
والمعنى وأقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم وما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره وهو إسماعيل ابنه وهما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكة المشرفة وبالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو حل فيها وبإبراهيم وإسماعيل اللذين بنياها.
وقيل: المراد بالوالد إبراهيم وبما ولد جميع أولاده من العرب.
وفيه أن من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإبراهيم (عليه السلام) وبين أمثال أبي لهب وأبي جهل وغيرهم من أئمة الكفر فيقسم بهم جميعا في سياق، وقد تبرأ إبراهيم (عليه السلام) ممن لم يتبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36].
فعلى من يفسر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصهم بالمسلمين من ذريته كما في دعاء إبراهيم وإسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } [البقرة: 128].
وقيل: المراد بوالد وما ولد، آدم (عليه السلام) وذريته جميعا بتقريب أن المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد وقد سن الله في خلق هذا النوع وإبقاء وجوده سنة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنة وهو الوالد وما ولد على أن الإنسان في كد وتعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.
وهذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكة وبين والد وكل مولود في الجمع بينهما في الأقسام.
وقيل: المراد بهما آدم والصالحون من ذريته، وكان الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة والمفسدين من الكفار والفساق.
وقيل: المراد بهما كل والد وكل مولود وقيل: من يلد ومن لا يلد منهم بأخذ {ما} في {ما ولد} نافية لا موصولة.
وقيل: المراد بوالد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما ولد أمته لأنه بمنزلة الأب لأمته وهي وجوه بعيدة.
قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} الكبد الكد والتعب، والجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان وإحاطة الكد والتعب به في جميع شئون حياته مما لا يخفى على ذي لب فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلا خالصة في طيبها محضة في هنائها ولا ينال شيئا منها إلا مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة مضافا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان.
قوله تعالى: {أ يحسب أن لن يقدر عليه أحد} بمنزلة النتيجة لحجة الآية السابقة تقريرها أن الإنسان لما كانت خلقته مبنية على كبد مظروفة له لا ينال قط شيئا مما يريد إلا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدر له من الأمر والذي يغلبه في إرادته ويقهره على التلبس بما قدر له وهو الله سبحانه يقدر عليه من كل جهة فله أن يتصرف فيه بما شاء ويأخذه إذا أراد.
فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله ويستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره ويمتن به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء وسمعة عملا لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالا لبدا.
قوله تعالى: {يقول أهلكت مالا لبدا} اللبد الكثير، سياق الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه فقد أنفق بعض ماله وامتن به مستكثرا له بقوله: {أهلكت مالا لبدا} فنزلت الآيات ورد الله عليه بأن الفوز بميمنة الحياة لا يتم إلا باقتحام عقبة الإنفاق في سبيل الله والدخول في زمرة الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة، ويتأيد به ما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {أ يحسب أن لم يره أحد} إنكار لما هو لازم قول الإنسان {أهلكت مالا لبدا} على طريق التكنية ومحصل المعنى أن لازم إخبار الإنسان بإهلاكه مالا لبدا أنه يحسب أنا في غفلة وجهل بما أنفق وقد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكن هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بد له من أن يتحمل ما هو أزيد من ذلك من مشاق العبودية فيقتحم العقبة ويكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه.
قوله تعالى: {أ لم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} النجد الطريق المرتفع، والمراد بالنجدين طريق الخير وطريق الشر وسميا النجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد والكدح، وفسرا بثديي الأم وهو بعيد.
وقوله: {أ لم نجعل له عينين} أي جهزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وقوله: {ولسانا وشفتين} أي أ ولم نجعل له لسانا وشفتين يستعين بها على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم ويهتدي بذلك غيره على العلم بالأمور الغائبة عن البصر.
وقوله: {وهديناه النجدين} أي علمناه طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر فالآية في معنى قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
وفي الآيات الثلاث حجة على قوله: {أ يحسب أن لم يره أحد} أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال ويميز الخير من الشر والحسنة من السيئة.
محصلها أن الله سبحانه هو الذي يعرف المرئيات للإنسان بوسيلة عينيه وكيف يتصور أن يعرفه أمرا وهولا يعرفه؟ وهو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام وهل يعقل أن يكشف له عما هو في حجاب عنه؟ وهو الذي يعلم الإنسان ويميز له الخير والشر بالإلهام وهل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه؟ فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان ويعلم ما ينويه بعمله ويميز كونه خيرا أوشرا وحسنة أو سيئة.
قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة، والعقبة الطريق الصعب الوعر الذي فيه صعود من الجبل، واقتحام العقبة إشارة إلى الإنفاق الذي يشق على منفقه كما سيصرح به.
وقيل: الجملة دعاء على الإنسان القائل: أهلكت مالا لبدا، وليس بشيء.
قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة} تفخيم لشأنها كما مر في نظائره.
قوله تعالى: {فك رقبة} أي عتقها وتحريرها أو التقدير هي أي العقبة فك رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفك الذي هو العمل واقتحامه الإتيان به، والإتيان بالعمل نفس العمل.
وبه يظهر فساد قول بعضهم إن فك رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير والتقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة هو- أي الاقتحام - فك رقبة.
وما ذكر في بيان العقبة من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خص بالذكر لمكان الأهمية، وقدم فك الرقبة وابتدىء به لكمال عناية الدين بفك الرقاب.
قوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة} المسغبة المجاعة، والمقربة القرابة بالنسب، والمتربة من التراب ومعناها الالتصاق بالتراب من شدة الفقر، والمعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيما من ذي القربى أو مسكينا شديد الفقر.
قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} المرحمة مصدر ميمي من الرحمة، والتواصي بالصبر وصية بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله والتواصي بالمرحمة وصية بعضهم بعضا بالرحمة على ذوي الفقر والفاقة والمسكنة.
والجملة أعني قوله: {ثم كان} إلخ معطوفة على قول: {اقتحم} والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا كان من الذين آمنوا {إلخ} وقيل فيها غير ذلك مما لا جدوى فيه.
قوله تعالى: {أولئك أصحاب الميمنة} بمعنى اليمن مقابل الشؤم، والإشارة بأولئك إلى ما يدل عليه السياق السابق أي الذين اقتحموا العقبة وكانوا من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة أصحاب اليمن لا يرون مما قدموه من الإيمان وعملهم الصالح إلا أمرا مباركا جميلا مرضيا.
وقيل: المراد بالميمنة جهة اليمين وأصحاب الميمنة هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم، ومقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه.
قوله تعالى: {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة} الآيات الآفاقية والأنفسية آيات وأدلة عليه تعالى تدل على توحده في الربوبية والألوهية وسائر ما يتفرع عليه وردها كفر بها والكفر بها كفر بالله وكذا القرآن الكريم وآياته، وكذا ما نزل وبلغ من طريق الرسالة.
والظاهر أن المراد بالآيات مطلقها، والمشأمة خلاف الميمنة.
قوله تعالى: {عليهم نار مؤصدة} أي مطبقة.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص261-266.
{لا اُقسم بهذا البلد}(2)
في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل.. بالقسم المرتبط ارتباطاً خاصّاً بالموضوع المطروح.
وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكّة: {لا اُقسم بهذا البلد} لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان، هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام.
{وأنت حلٌّ بهذا البلد}
لم يرد ذكر «مكّة» في الآية صريحاً، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكّة، فالسّورة مكّية، وأهميّة هذه المدينة المقدّسة لا تبلغها مدينة، والمفسّرون مجمعون على ذلك.
أرض مكّة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللّه العظام... ولذلك أقسم اللّه بها... ولكنّ السّورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: (وأنت حِلّ بهذا البلد)... فالبلد استحق أن يقسم به اللّه لوجودك أنت أيّها النّبي الكريم فيه!
فلا يتصورنَّ كفار مكّة أنّ القرآن يقسم ببلدهم تكريماً لهم ولأوثانهم، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية.. ولما يحتضنه من رسالة خاتمة، ونبي خاتم.
وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى: «لا اُقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد اُحلّت واُبيحت».
ويكون ذلك ـ على هذا التّفسير ـ توبيخاً وتقريعاً لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خَدَمَة الحرم وسدنته، ويكنّون له احتراماً يفوق كلّ احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له... بل حتى قيل إنّ الرجل يحمل معه شيئاً من لحاء أشجار مكّة فلا يتعرّض له أحد. فلماذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حقّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
لماذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟! وقد ورد هذا التّفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) أيضاً(3).
{ووالد وما ولد}
للمفسّرين آراء عديدة عن المقصود بالوالد والولد في الآية.
قيل: إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.
والتّفسير هذا يتناسب مع القسم بمكّة... ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.
وقيل: إنّ المقصود بالوالد والولد آدم وذرّيته.
وقيل: آدم والأنبياء من ذرّيته.
وقيل: كلّ والد وما ولد. متوالي الأجيال.
وتعاقبها بالولادة من أعجب بدائع الكون، ولذلك خصّها اللّه تعالى بالقسم ولا يُستبعد الجمع بين هذه التفاسير وإن كان الأوّل أنسب.
{لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
وهذا هو الهدف النهائي للقسم «الكبد» كما يقول الطبرسي في مجمع البيان في الأصل بمعنى «الشدّة» ولذا يقال للّبن إذا استغلظ «تكبّد اللّبن» ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ «كبد» ألم يصيب الكَبِد، ثمّ اُطلق على كلّ ألم ومشقّة.
نعم... الإنسان يمرّ في دورة حياته بمراحل كلّها مشوبة بالألم ومقرونة بالعناء. منذ أن يستقرّ نطفة في رحم اُمه حتى ولادته، ثمّ بعد ولادته في مراحل طفولته وشبابه وشيخوخته يعاني من ألوان والمشاق والآلام، هذه طبيعة الحياة، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأقذار ومكلّف الأيّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وهذه الحالة تشمل كلّ أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء اللّه وأولياؤه الصالحون.
وإذا خُيل إلينا أن ثمّة مجتمعات تبدو بعيدة عن الآلام والأتعاب وتعيش في دعة ورفاه، فذلك نتيجة نظرة سطحية، ولو تعمقنا في دراسة هذه المجتمعات، ونظرنا إليها عن كثب لتلمسنا ما تعانيه من عميق الألم وشدّة النصب.. ثمّ إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}.(4)
فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته، هذه الحقيقة تردّ على أُولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي أو أنّهم مانعتهم حصونهم ومناصبهم وثرواتهم، فيرتكبون الذنوب ويمارسون العدوان ويديرون ظهورهم لشريعة اللّه.
ويحتمل أنّ المقصود هم الأثرياء الذين يتصورون أنّ لا أحد بإمكانه سلب ثروتهم منهم... وقيل أنّ المراد من الآية الأشخاص الذين يتصورون بأنّه لا أحد يحاسبهم على أعمالهم.
ولكن مفهوم الآية عام بإمكانه أن يستوعب جميع هذه التّفاسير.
وقيل إنّ الآية أشارت إلى «أبي الأسد بن كلدة» وهو رجل من «جمح» كان قوياً شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجرّه عشرة رجال من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه(5).
غير أن إشارة الآية إلى فرد، أو أفراد مغرورين لا يمنع شمولية مفهومها.
{يقول أهلكت مالاً لبداً}.
إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور: إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.
وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرّسول والرسالة، وتباهوا بذلك، يؤيد ذلك قول «عمرو بن عبد ود» في حرب الخندق حين عرض عليه علي(عليه السلام) الإسلام قال: فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟(6) أي أنفقت مالاً كثيراً في عداوة النّبي.
وقيل إنّها نزلت في بعض رجال قريش وهو «الحرث بن عامر»، وذلك أنّه أذنب ذنباً، فستفتى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمره أن يكفّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخولي دين محمّد(7).
والجمع بين التّفاسير المذكورة جائز، وإن كان التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية:
والفعل «أهلكت» يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.
و«لبد»: تعني الشيء المتراكم، وهنا تعني المال الوفير.
{أيحسب أن لم يره أحد}.
إنّه غافل عن هذه الحقيقة... حقيقة اطلاع الباري تعالى على كلّ الاُمور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنّية... وهل من المعقول أن لا يحيط المطلق الحق بكلّ شيء؟! هؤلاء الغافلون دفعهم جهلهم لأن يروا أنفسهم بمعزل عن الرقابة الإلهية.
نعم، اللّه سبحانه يعلم مصدر حصولهم على هذه الأموال، ويعلم السبيل الذي انفقوها فيه.
وروي عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من اين جمعه، وفى ماذا أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن حبّنا أهل البيت»(8).
بعبارة موجزة: كيف يعتري الإنسان الغرور ويدعي القدرة وحياته ممزوجة بالآلام والأكدار؟! وكيف يدعي أنّه أنفق مالاً كثيراً في سبيل اللّه بينما الباري سبحانه عليم بنواياه، عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.
وقوله تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَينِ(8) وَلِسَانَاً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَهُ الْنَّجْدَيْنِ}
نعمة العين واللسان والهداية:
استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في الطاغين، تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم اللّه به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية... كي تكسر روح الغرور، وتدفع إلى التفكير في خالق هذه النعم، ولكي تحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثمّ تسوقه إلى معرفة الخالق:
(ألم نجعل له عينين؟ ولساناً وشفتين؟ وهديناه النجدين)
في هذه العبارات القصيرة إشارة إلى ثلاث نعم مادية هامّة ونعمة معنوية كبرى هي بمجموعها من أعظم النعم الإلهية: نعمة العين واللسان والشفة من جانب، ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشرّ من جانب آخر.
«النجد»: في الأصل يعني المكان المرتفع، ويقابلها «تهامة» وهي الأرض المنخفضة، وهنا كناية عن الخير والشرّ وعن سير السعادة والشقاء(9).
ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ:
«العين»: أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي، عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية، والمشيمية، والعنبية، والجلدية، والزلالية، والزجاجية، والشبكية، لكلّ منها تركيب عجيب دقيق مدهش، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.
لولم يكن في الكون سوى الإنسان، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم اللّه الواسع وقدرته الجبّارة جلّ وعلا.
و أمّآ «اللسان»، فهو أهم وسائل ارتباط الإنسان بغيره من ابناء جلدته، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة، وبدون هذه الوسيلة الهامّة من وسائل الإرتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقاً أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة.
و«الشفتان»: تلعبان أوّلاً دوراً هامّاً في النطق، إذ أن الشفتين مخرج لكثير من الحروف، والشفتان تقومان بدور أيضاً في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم، وشرب الماء، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!
إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلاً بالعين واللسان... ولذلك تقدم ذكرهما في السياق... ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية، الهداية العقلية والفطرية (وهديناه النجدين)، ويشمل التعبير أيضاً «الهداية التشريعية» التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء والأولياء.
نعم... لقد أنعم اللّه على الإنسان بالبصر والبصيرة، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الإنحراف عنه، كي تكتمل الحجّة على الإنسان.
ومع كلّ هذه النعم، نعم الهداية، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه.
عبارة (وهديناه النجدين) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأنّ «النجد» مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير.
مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير» أو «الشر».
وفي الحديث القدسي أن اللّه سبحانه يخاطب أبناء آدم يقول: «يا ابن آدم إنّ نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق...»(10).
فاللّه سبحانه منح هذه النعم، ومنح وسائل السيطرة عليها، وتلك من الألطاف الإلهية الكبرى.
والملفت للنظر أنّ الآيات التي نحن بصددها أشارت إلى الشفتين بعد اللسان، ولكن لم تشر إلى الجفنين بعد ذكر العين، ولعل ذلك يعود إلى أهمية الشفتين في الكلام والطعام وغيرها من الاُمور أهمية تفوق بكثير أهمية الجفنين، وقد يعود أيضاً إلى أن السيطرة على اللسان أهم وأخطر بكثير من السيطرة على العين.
وقوله تعالى :{فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَآ أَدْرَاكَ مَآ الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَة(13)أَو إِطْعَمٌ فِى يَوْم ذِى مَسْغَبَة(14) يَتِيمَاً ذَا مَقْرَبَة(15) أَو مِسْكِينَاً ذَا مَتْرَبَة(16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17) أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْمَيْمَنَةِ(18)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيَتِنَا هُم أَصْحَبُ الْمَشْئَمَةِ(19) عَلَيْهِم نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}
العقبة!
بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة، تنحي هذه الآيات باللائمة على اُولئك الذين يكفرون بهذه النعم، ولا يسخرونها على طريق النجاة، يقول سبحانه: {فلا اقتحم العقبة}(11)
وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسّرها:
{وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة}.
من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون بأنعم اللّه لإجتيازها هي: فك رقبة عبد من الرقبة أي تحريره أو إطعام في يوم الضائقة الإقتصادية والمجاعة، يتيماً ذا قربى أو فقيراً قد لصق بالتراب من شدّة فقره، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة النّاس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين، كما إنّها أيضاً مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية.
نعم، إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب النّاس من التصاق بالمال والثروة.
ليس الإسلام والإيمان بالقول والإدعاء، بل أمام كلّ إنسان مسلم ومؤمن عقبات يجب أن يجتازها الواحدة بعد الاُخرى، مستمداً العون من اللّه سبحانه ومن روح الإيمان والإخلاص.
بعضهم ذهب إلى أنّ «العقبة» هنا تعني أهواء النفس التي حثّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)على مقاومتها ومجاهدتها، ويسمى ذلك «الجهاد الأكبر»، واستناداً إلى هذا التّفسير يكون فك الرقبة وإطعام المسكين من المصاديق البارزة لإجتياز عقبة هوى النفس.
ومن المفسّرين من قال إنّ «العقبة» هي الصراط الصعب يوم القيامة، كما جاء في حديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون، وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة»(12)
وهذا الحديث طبعاً لا يمكن أن يكون تفسيراً للآية، غير أن بعض المفسّرين فهموا منه ذلك، وهذا الفهم لا يتناسب مع التّفسير الصريح لكلمة «العقبة» في الآيات التالية، إلاّ إذا اعتبرنا العقبة الكؤود يوم القيامة تجسيداً للطاعات الثقيلة الصعبة في هذا العالم، واجتياز تلك العقبات فرع لإجتياز هذه الطاعات «تأمل بدقّة».
تعبير «اقتحم» في الآية اصله من «الإقتحام» وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب)، أو الولوج والعبور بشدّة ومشقّة (تفسير الكشّاف) وهذا يعني أن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير، كما أنّه تأكيد على ما ورد في أوّل السّورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «إنّ الجنّة حفت بالمكاره وإنّ النّار حفت بالشهوات»(13).
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص320-337.
2 ـ (لا): زائد للتأكيد، وقيل إنّها نافية (لمزيد من التوضيح راجع مطلع سورة القيامة).
3 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.
4 ـ «أن» في الآية مخففة من الثقيلة والتقدير: أنّه لن يقدر عليه أحد.
5 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.
6 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص580، الحديث 10.
7 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.
8 ـ مجمع البيان، ج10، ص494; وبهذا المعنى أيضاً ورد في تفسير روح البيان ،ج10،
ص435.
9 ـ وري عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قيل له: إنّ اُناساً يقولون في قوله (وهديناه النجدين) أنّهما الثديان (أي ثديا الاُم) فقال: «لا، هما الخير والشرّ» مجمع البيان، ذيل الآيات المذكورة، وضمناً التعبير بـ «نجد» على الخير من أجل عظمته وفي مورد الشرّ من باب التغليب.
10 ـ نور الثقلين، ج5، ص581.
11 ـ الظاهر أن (لا) في الآية «نافية» و«خبرية» ونستبعد أن تكون على وجه الدعاء على ضمير الفعل أو أن تكون استفهامية، والإشكال الوحيد الذي يرد على أنّها خبرية هو عدم تكرارها لأنّ (لا) النافية حين تدخل على الفعل الماضي تكرر عادة كقوله سبحانه: (فلا صدق ولا صلى)، ولم تتكرر في الآية. ويذكر «الطبرسي» في «مجمع البيان» مواضع من أقوال العرب لم تتكرر فيها (لا) النافية مع دخولها على الفعل الماضي، وإلى ذلك ذهب أيضاً «الفخر الرازي» و«القرطبي»، وقيل إنّ (لا) إذا كانت بمعنى «لم» لا يلزم تكرارها وبعضهم احتمل التكرار في التقدير والمعنى: فلا اقتحم العقبة، ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذي مسغبة.
12 ـ مجمع البيان، ج10، ص 495.
13 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
جمعية العميد: 77 بحثًا قُدّمت للمشاركة في مؤتمر العميد العلمي السابع
|
|
|