أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2020
5212
التاريخ: 1-10-2020
11229
التاريخ: 2-10-2020
6203
التاريخ: 2-10-2020
17550
|
قال تعالى : {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوكَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت : 9 - 12] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
في الآية الاولى جاء التوبيخ الالهي ، حيث قال تعالى : {قل} يا محمد لهم على وجه الإنكار عليهم {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} وهذا استفهام تعجيب أي كيف تستجيزون أن تكفروا وتجحدوا نعمة من خلق الأرض {في يومين} أي في مقدار يومين {وتجعلون له أندادا} أي أمثالا وأشباها تعبدونهم وفي هذا دلالة على أنه سبحانه إنما يستدل على إثبات ذاته وصفاته بأفعاله فهي دالة على إثبات صفاته إما بنفسها كما يدل صحة الفعل على كونه قادرا وأحكامه على كونه عالما وإما بواسطة كما يدل كونه قادرا عالما على كونه حيا موجودا سميعا بصيرا .
{ذلك رب العالمين} أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين خالق العالمين ومالك التصرف فيهم {وجعل فيها} أي في الأرض {رواسي} أي جبالا راسيات ثابتات {من فوقها} أي من فوق الأرض {وبارك فيها} بما خلق فيها من المنافع وقيل بأن أنبت شجرها من غير غرس وأخرج نبتها من غير زرع وبذر وأودعها مما ينتفع به العباد عن السدي {وقدر فيها أقواتها} أي قدر في الأرض أرزاق أهلها على حسب الحاجة إليها في قوام أبدان الناس وسائر الحيوان وقيل قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في أخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد .
{في أربعة أيام} أي في تتمة أربعة أيام من حين ابتداء الخلق فاليومان الأولان داخلان فيها كما تقول خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي في تتمة خمسة عشر يوما {سواء للسائلين} أي مستوية كاملة من غير زيادة ولا نقصان للسائلين عن مدة خلق الأرض وقيل معناه للذين يسألون الله أرزاقهم ويطلبون أقواتهم فإن كلا يطلب القوت ويسأله عن قتادة والسدي .
واختلف في علة خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام فقيل إنما خلق ذلك شيئا بعد شيء في هذه الأيام الأربعة ليعلم الخلق أن من الصواب التأني في الأمور وترك الاستعجال فيها فإنه سبحانه كان قادرا على أن يخلق ذلك في لحظة واحدة عن الزجاج وقيل إنما خلق ذلك في هذه المدة ليعلم بذلك أنها صادرة عن قادر مختار عالم بالمصالح وبوجوه الأحكام إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((إن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء فتلك أربعة أيام وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم)) .
ثم ذكر سبحانه خلق السماوات فقال {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} أي ثم قصد إلى خلق السماء وكانت السماء دخانا وقال ابن عباس كانت بخار الأرض وأصل الاستواء الاستقامة والقصد للتدبير المستقيم تسوية له وقيل معناه ثم استوى أمره إلى السماء عن الحسن {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين} قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم وأتت الأرض بما فيها من الأنهار والأشجار والثمار وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة ولا جواب لذلك القول بل أخبر الله سبحانه عن اختراعه السماوات والأرض وإنشائه لهما من غير تعذر ولا كلفة ولا مشقة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير تلبث ولا توقف فعبر عن ذلك بالأمر والطاعة وهو كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وإنما قال {أتينا طائعين} ولم يقل أتينا طائعتين لأن المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء(2) ، فغلب حكم العقلاء عن قطرب وقيل أنه لما خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل كما قال وكل في فلك يسبحون ومثله كثير في كلامهم قال :
فأجهشت للبوباة (3) حين رأيته *** وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له أين الذين رأيتهم *** بجنبك في خفض وطيب زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم *** ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وقال آخر :
ألا أنعم صباحا أيها الرسم وأنطق *** وحدث حديث الحي إن شئت وأصدق
وقد ذكرنا فيما تقدم من أمثال ذلك ما فيه كفاية وقوله سبحانه {ثم استوى إلى السماء} يفيد أنه خلق السماء بعد الأرض وخلق الأقوات فيها وقال سبحانه في موضع آخر والأرض بعد ذلك دحاها وعلى هذا فتكون الفائدة فيه أن الأرض كانت مخلوقة غير مدحوة ، فلما خلق الله السماء دحا بعد ذلك الأرض وبسطها وإنما جعل الله السماء أولا دخانا ثم سموات أطباقا ثم زينها بالمصابيح ليدل ذلك على أنه سبحانه قادر لنفسه لا يعجزه شيء .
عالم لذاته لا يخفى عليه شيء ، غني لا يحتاج وكلما سواه محتاج إليه سبحانه وتعالى .
{فقضاهن} أي صنعهن وأحكمهن وفرغ من خلقهن {سبع سماوات في يومين} يوم الخميس والجمعة قال السدي إنما سمي جمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض {وأوحى في كل سماء أمرها} أي خلق فيها ما أراده من ملك وغيره عن السدي وقتادة وقيل معناه وأمر في كل سماء بما أراد عن مقاتل وقيل وأوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة عن علي بن عيسى .
{وزينا السماء الدنيا بمصابيح} سمي الكواكب مصابيح لأنه يقع الاهتداء بها كقوله {وبالنجم هم يهتدون} {وحفظا} أي وحفظناها من استماع الشياطين قيل (4) بالكواكب حفظا {ذلك} الذي ذكر {تقدير العزيز} في ملكه لا يمتنع عليه شيء {العليم} بمصالح خلقه لا يخفى عليه شيء .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص8-11 .
2- ((وغير العقلاء)) .
3- جهش وأجهش اليه : فزع اليها هاماً بالبكاء ، ومتهيئاً له ، كالطل يفزع الى امه . والبوباة : الفلاة ، والضمير في رأيته راجع الى مكان .
4- ليس في بعض النسخ لفظة (قيل) وهو الصواب .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ} . لا وقت ولا مكان قبل خلق الكون ، لا شيء على الإطلاق إلا الواحد القهار ، وعليه يكون المراد باليومين الدفعتان أو الطوران - كما قيل - وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية 53 من سورة الأعراف ج 3 ص 338 . . وبالمناسبة نذكر ما قاله بعض الأدباء حول بعض الآيات : (ان أسلوب القرآن يختلف عن كل الأساليب ، فهو حين يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها علماء الطبيعة بالمعادلات والتفاصيل ، بل يقدمها بالإشارة والرمز واللمحة الخاطفة بكلمة قد يفوت فهمها على معاصريها ، ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا) . وقد جاءت هذه الحقيقة على لسان ابن عباس منذ حوالي 14 قرنا حيث قال : لا تفسروا القرآن الزمان يفسره . أي لا تتعمقوا في تفسير الآيات الكونية فإن تقدم العلم كفيل بالكشف عن أسرارها .
{وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها} أي جبالا فوق الأرض ونحوه الآية 15 من سورة النحل : {وأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . {وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} . بارك سبحانه بما حوته من نبات ومعادن وبترول وغيره ، والمراد بقدر أقواتها ان ما في الأرض من خيرات هي على قدر ما فيها من الأحياء الذين يحتاجون إلى القوت مهما بلغ عددهم .
وقال جماعة من المفسرين : ان اليومين الأولين هما من جملة الأيام الأربعة أي ان خلق الأرض وتقدير الأقوات فيها ، كل ذلك تم في أربعة أيام من أيام اللَّه ، والمراد بالسائلين هنا كل من يحتاج إلى القوت ، وسواء تومئ إلى أن اللَّه ما جعل خير الأرض لجنس دون جنس أو فئة دون فئة ، بل الخلائق بكاملها سواء في رزقه وفضله ، وإذا وجد جائع فإنما هومن ظلم القوي للضعيف . انظر تفسير الآية 56 من سورة الأعراف ج 3 ص 340 فقرة اللَّه أصلح الأرض والإنسان أفسدها .
ما هو الحل لمشكلة الجوع ؟
ولمناسبة قوله تعالى عن الأرض : {وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها} نشير إلى الذين قالوا : ان السبب الأول لوجود الجوع في العالم هو تضخم سكان الأرض وتزايدهم يوما بعد يوم بينا أقوات الأرض وخيراتها لا تفي بحاجة السكان ، ولا تتناسب مع زيادة انتاج الأطفال ، ثم اختلف هؤلاء فيما بينهم على وجه الحل لهذه المشكلة ، فمن قائل : ان الحل هو حتمية الحروب الطاحنة ، وتقتيل الناس بالملايين حتى يحصل التوازن بين عدد السكان وانتاج الغذاء . . وقد روّج لهذا الرأي الذين يملكون الصناعة العسكرية ومعهم الذين يحتكرون موارد الأرض ومقدراتها ، ويكدسون الثروات على حساب الملايين وبؤسهم وشقائهم .
وقال آخرون : إذا لم تكن الحرب فلتكن الأمراض والأوبئة المهلكة ، وشاع رأي ثالث ، وهو تحديد النسل وتخطيطه . ولا ضرر في هذا الرأي فإن تحديد النسل حق طبيعي وشرعي لكل إنسان ، شريطة أن يكون التحديد قبل وجود النسل ، بل وقبل استقرار النطفة في الرحم واستعدادها لتكوين الجنين ، أما الرأي القائل بضرورة انتشار الأوبئة فهو موبوء . وكفى القول الأول وهنا ان القائلين به هم تجار الحروب الاستعمارية ، وأصحاب الشركات الاحتكارية والسيطرة الاقتصادية على البلاد الفقيرة النامية .
ان السبب الأول لمشكلة الجوع يكمن في صراع قوى الشر على خيرات الأرض واحتكار مقدراتها ، وفي رفاهية الفئة القليلة على حساب شقاء الفئة الكثيرة ، وفي إحراق المحاصيل الزراعية للمحافظة على الغلاء وارتفاع الأسعار ، وفي إلقاء ألوف الأطنان من المواد الكيماوية السامة على القرى والمزارع في مناطق واسعة شاسعة بفيتنام وغيرها ، وفي توجيه العلم إلى الانتاج الحربي والصناعة العسكرية .
ولو اتجه العلم إلى الانتاج السلمي فقط لزادت خيرات الأرض عن حاجة أهلها وكانت الأرزاق كالتراب . فقد نشرت {مجلة اليونسكو} بحثا جاء فيه : ان تكاليف قذيفة كبيرة واحدة تكفي لبناء 75 مستشفى ، بكل واحد منها مائة سرير بكامل المعدات ، أو شراء خمسين ألفا من الجرارات الزراعية التي يمكن أن تحرث ملايين الأفدنة بدلا من حرثها بمن عليها بقنابل الدمار . . وقد أنفقت الولايات المتحدة على حرب فيتنام وحدها 400 بليون دولار دون أن تنهي الحرب . . أليست هذه البلايين من بعض خيرات الأرض وبركاتها ؟ ولو أنفقت في سبيل الزراعة لكانت كافية وافية بزرع جميع الصحاري والبحار وبعض الكواكب أيضا ، ولعاش أهل الأرض ومعهم أمثالهم في هناء ورخاء .
وأيضا لو صح الرأي القائل : ان خيرات الأرض وأقواتها لا تفي بحاجة أهلها لكان معنى هذا ان اللَّه لم يحسن التقدير والتدبير ، وانه أخطأ في إحصاء سكان الأرض على مدى الأزمان ، أوانه أخطأ في تقدير ما يحتاجونه من الأقوات . .
تعالى اللَّه عما يقول الجاهلون . . ان الحل لمشكلة الجوع لا يكون بالحروب ، ولا بانتشار الأوبئة ، ولا بتحديد النسل ، وأية جدوى من هذا التحديد ما دام في الناس ظالم ومظلوم ، وآكل ومأكول ، وإنما الحل لهذه المشكلة هو إزالة الموانع التي تحول بين الإنسان وأسباب معيشته ، هو استغلال خيرات الأرض لإنتاج الغذاء والكساء ، ولسد كل ما يحتاجه الإنسان الحاضر والآتي .
{ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوكَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} . استوى قصد ، وقالتا أتينا طائعين كناية عن قدرة اللَّه وانقياد الكون لأمره ، وتومئ الآية إلى أن الفضاء قبل خلق الكواكب كان فيه شيء كالدخان {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . والسماوات السبع هي الأكوان الفضائية العلوية السبعة ، وليس الكواكب السبعة . انظر تفسير الآية 17 من سورة المؤمنون ج 5 ص 362 فقرة (معنى السماوات السبع) أما اليومان فهما الدفعتان أو الطوارن كما قيل .
{وأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها} أي خلق في كل سماء ما فيها من الكواكب وغيرها مما علمه عند ربي {وزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ} وهي الكواكب التي تضيء كالمصابيح ( وحفظا ) يحفظ اللَّه الكواكب في استمرارها على نهج واحد {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . ذلك إشارة إلى كل ما تقدم من خلق الأرض وأقواتها ، وخلق السماء وزينتها وحفظها ، ولا يكون ذلك إلا من قادر حكيم ، ومدبر عليم .
هذا كل ما نملك من الفهم والعلم في تفسير هذه الآيات ، نذكره بتحفظ مؤمنين باللَّه وقدرته ، وبكل غيب أشار إليه في كتابه بكلمة لا نعرف معناها على وجهه ولا ندرك سرها على حقيقته . . ولو ألححنا في طلب المزيد من المعرفة لا نجد أمامنا إلا النقل من كتب أهل الاختصاص ، على أنهم لا يقيمون البراهين القاطعة على ما يثبتون وينفون إلا قليلا . ومن أراد الاطلاع على أقوالهم فليرجع إلى كتاب (الكون العجيب) لقدري حافظ طوقان وكتاب (مع اللَّه في السماء) لأحمد زكي وغيره .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص478-481 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {قل أ إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا} الآية .
أمره ثانيا أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانية في خلق السماوات والأرض وتدبير أمرهما بعد ما أمره أولا بدفع قولهم : {قلوبنا في أكنة} إلخ .
والاستفهام للتعجيب ولذا أكد المستفهم عنه بأن واللام كأن المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله وقولهم بالأنداد مع ظهور المحجة واستقامة الحجة .
وقوله : {وتجعلون له أندادا} تفسير لقوله : {لتكفرون بالذي خلق الأرض} إلخ ، والأنداد جمع ند وهو المثل ، والمراد بجعل الأنداد له اتخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبية والألوهية .
وقوله : {ذلك رب العالمين} في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى وتنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهورب العالمين المدبر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوغ لأن يتوهم ربا آخر سواه وإلها آخر غيره .
والمراد باليوم في قوله : {خلق الأرض في يومين} برهة من الزمان دون مصداق اليوم الذي نعهده ونحن على بسيط أرضنا هذه وهو مقدار حركة الكرة الأرضية حول نفسها مرة واحدة فإنه ظاهر الفساد ، وإطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال ، ومن ذلك قوله تعالى : {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران : 140] ، وقوله : {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس : 102] ، وغير ذلك .
فاليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تم فيهما تكون الأرض أرضا تامة ، وفي عدهما يومين لا يوما واحدا دليل على أن الأرض لاقت زمان تكونها الأولي مرحلتين متغايرتين كمرحلة النيء والنضج أو الذوبان والانعقاد أو نحو ذلك .
قوله تعالى : {وجعل فيها رواسي من فوقها} إلى آخر الآية .
معطوف على قوله : {خلق الأرض في يومين} ولا ضير في تخلل الجملتين : {وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} بين المعطوف والمعطوف عليه لأن الأولى تفسير لقوله : {لتكفرون} والثانية تقرير للتعجيب الذي يفيده الاستفهام .
والرواسي صفة لموصوف محذوف والتقدير جبالا رواسي أي ثابتات على الأرض وضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض .
وقوله : {وبارك فيها} أي جعل فيها الخير الكثير الذي ينتفع به ما على الأرض من نبات وحيوان وإنسان في حياته أنواع الانتفاعات .
وقوله : {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} قيل : الظرف أعني قوله : {في أربعة أيام} بتقدير مضاف وهو متعلق بقدر ، والتقدير قدر الأقوات في تتمة أربعة أيام من حين بدء الخلق - فيومان لخلق الأرض ويومان - وهما تتمة أربعة أيام - لتقدير الأقوات .
وقيل : متعلق بحصول الأقوات وتقدير المضاف على حاله ، والتقدير قدر حصول أقواتها في تتمة أربعة أيام - فيها خلق الأرض وأقواتها جميعا - .
وقيل : متعلق بحصول جميع الأمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها والتقدير وحصول ذلك كله في تتمة أربعة أيام وفيه حذف وتقدير كثير .
وجعل الزمخشري في الكشاف ، الظرف متعلقا بخبر مبتدأ محذوفين من غير تقدير مضاف والتقدير كل ذلك كائن في أربعة أيام فيكون قوله : {في أربعة أيام} من قبيل الفذلكة كأنه قيل : خلق الأرض في يومين وأقواتها وغير ذلك في يومين فكل ذلك في أربعة أيام .
قالوا : وإنما لم يجز حمل الآية على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأن لازمه كون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام وقد تكرر في كلامه تعالى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف والتقدير .
والإنصاف أن الآية أعني قوله : {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} ظاهرة في غير ما ذكروه والقرائن الحافة بها تؤيد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة التي يكونها ميل الشمس الشمالي والجنوبي بحسب ظاهر الحس فالأيام الأربعة هي الفصول الأربعة .
والذي ذكر في هذه الآيات من أيام خلق السماوات والأرض أربعة أيام يومان لخلق الأرض ويومان لتسوية السماوات سبعا بعد كونها دخانا وأما أيام الأقوات فقد ذكرت أياما لتقديرها لا لخلقها ، وما تكرر في كلامه تعالى هو خلق السماوات والأرض في ستة أيام لا مجموع خلقها وتقدير أمرها فالحق أن الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط ولا حذف ولا تقدير في الآية والمراد بيان تقدير أقوات الأرض وأرزاقها في الفصول الأربعة من السنة .
وقوله : {سواء للسائلين} مفعول مطلق لفعل مقدر أي استوت الأقوات المقدرة استواء للسائلين أوحال من الأقوات أي قدرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا وتكفيهم من دون زيادة أو نقيصة .
والسائلون هم أنواع النبات والحيوان والإنسان فإنهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق والأقوات فهم سائلون ربهم (2) قال تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن : 29] ، وقال : {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم : 34] .
قوله تعالى : {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين} الاستواء - على ما ذكره الراغب - إذا عدي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو الرحمن على العرش استوى ، وإذا عدي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه .
وأيضا في المفردات ، أن الكره بفتح الكاف المشتقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه ، والكره بضم الكاف ما تناله من ذاته وهو يعافه .
فقوله : {ثم استوى إلى السماء} أي توجه إليها وقصدها بالخلق دون القصد المكاني الذي لا يتم إلا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان ومن جهة إلى جهة لتنزهه تعالى على ذلك .
وظاهر العطف بثم تأخر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل : إن {ثم} لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود والتحقق ويؤيده قوله تعالى : {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات : 27 - 32] فإنه يفيد تأخر الأرض عن السماء خلقا .
والاعتراض عليه بأن مفاده تأخر دحو الأرض عن بناء السماء ودحوها غير خلقها مدفوع بأن الأرض كروية فليس دحوها وبسطها غير تسويتها كرة وهو خلقها على أنه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها ومرعاها وإرساء جبالها وهذه بعينها جعل الرواسي من فوقها والمباركة فيها وتقدير أقواتها التي ذكرها في الآيات التي نحن فيها مع خلق الأرض وعطف عليها خلق السماء بثم فلا مناص عن حمل ثم على غير التراخي الزماني فإن قوله في آية النازعات : {بعد ذلك} أظهر في التراخي الزماني من لفظة {ثم} فيه في آية حم السجدة والله أعلم .
وقوله : {وهي دخان} حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئا سماه الله دخانا وهو مادتها التي ألبسها الصورة وقضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميزا بعضها من بعض ، ولذا أفرد السماء فقال : {استوى إلى السماء} .
وقوله : {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها} تفريع على استوائه إلى السماء والمورد مورد التكوين بلا شك فقوله لها وللأرض : {ائتيا طوعا أوكرها} كلمة إيجاد وأمر تكويني كقوله لشيء أراد وجوده : كن ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ } [يس : 82] .
ومجموع قوله لهما : {ائتيا} إلخ وقولهما له : {أتينا} إلخ تمثيل لصفة الإيجاد والتكوين على الفهم الساذج العرفي وحقيقة تحليلية بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات وكون تكليم كل شيء بحسب ما يناسب حاله ، وقد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدم من المباحث ، وسيجيء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله : {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت : 21] من السورة إن شاء الله .
وقول بعضهم : إن المراد بقوله : {ائتيا} إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار والمنافع دون الأمر بأن توجدا وتكونا مدفوع بأن تكون السماء مذكور فيما بعد ولا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار والمنافع قبل ذكر التكون .
وفي قوله : {ائتيا طوعا أوكرها} إيجاب الإتيان عليهما وتخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أوكره ، ولعل المراد بالطوع والكره - وهما بوجه قبول الفعل ونوع ملاءمة وعدمه – هو الاستعداد السابق للكون وعدمه فيكون قوله : {ائتيا طوعا أوكرها} كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص وأنه أمر لا يتخلف البتة أرادتا أو كرهتا سألتاه أولم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق وقبول ذاتي وسؤال فطري إذ قالتا : أتينا طائعين .
وقول بعضهم : إن قوله : {طوعا أوكرها} تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما .
مدفوع بقوله بعد : {قالتا أتينا طائعين} إذ لوكان الترديد المذكور تمثيلا فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه .
وقوله : {قالتا أتينا طائعين} جواب السماء والأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع ، والتعبير باللفظ الخاص بأولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة والجواب وهما من خواص أولي العقل ، والتعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا : أتينا طائعتين لعله تواضع منهما بعد أنفسهما غير متميزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع ، نظير ما قيل في قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة : 5] .
ثم إن تشريك الأرض مع السماء في خطاب {ائتيا} إلخ مع ذكر خلقها وتدبير أمرها قبلا لا يخلو من إشعار بأن بينهما نوع ارتباط في الوجود واتصال في النظام الجاري فيهما وهو كذلك فإن الفعل والانفعال والتأثير والتأثر دائر بين أجزاء العالم المشهود .
وفي قوله : {فقال لها وللأرض} تلويح على أي حال إلى كون {ثم} في قوله : {ثم استوى} للتراخي بحسب رتبة الكلام .
قوله تعالى : {فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها} الأصل في معنى القضاء فصل الأمر ، وضمير {هن} للسماء على المعنى ، و{سبع سموات} حال من الضمير و{في يومين} متعلق بقضاهن فتفيد الجملة أن السماء لما استوى سبحانه إليها وهي دخان كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث فعلية الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين .
وقيل : إن القضاء في الآية مضمن معنى التصيير و{سبع سموات} مفعوله الثاني ، وقيل فيها وجوه أخر لا يهمنا إيرادها .
والآية وما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما أجمل في قوله : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء : 30] .
وقوله : {وأوحى في كل سماء أمرها} قيل : المراد بأمر السماء ما تستعد له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب وما أشبه ذلك ، والوحي هو الخلق والإيجاد ، والجملة معطوفة على قوله : {قضاهن} مقيدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه ، والمعنى وخلق في كل سماء ما فيها من الملائكة والكواكب وغيرها .
وأنت خبير بأن إرادة الخلق من الوحي وأمثال الملك والكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلا بدليل بين ، وكذا تقيد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها .
وقيل : المراد بالأمر التكليف الإلهي المتوجه إلى أهل كل سماء من الملائكة والوحي بمعناه المعروف والمعنى وأوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة .
وفيه أن ظاهر الآية وقد قال تعالى : {في كل سماء} ولم يقل : إلى كل سماء لا يوافقه تلك الموافقة .
وقيل : المراد بأمرها ما أراده الله منها ، وهذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق والإيجاد رجع إلى أول الوجهين وإن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما .
والذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى : {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [السجدة : 5] ، وقال : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق : 12] ، وقال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون : 17] .
دلت الآية الأولى على أن السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه والثانية على أن الأمر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الأرض ، والثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر : 4] ، وقوله : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان : 4] .
ولوكان المراد بالأمر أمره تعالى التكويني وهو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس : 82] ، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أن الأمر الإلهي الذي مضيه في العالم الأرضي هو خلق الأشياء وحدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى وتسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض .
وإنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله : {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ : 23] وقد تقدم الكلام فيه والسماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} [النجم : 26] ، وقوله {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات : 8] .
فللأمر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها ، ونسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم وهو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ } [النحل : 40] .
فتحصل بما مر أن معنى قوله : {وأوحى في كل سماء أمرها} أوحى في كل سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهي .
المنسوب إلى تلك السماء المتعلق بها ، وأما كون اليومين المذكورين في الآية ظرفا لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعا فلا دليل عليه من لفظ الآية .
قوله تعالى : {وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنها أقرب السماوات من الأرض وهي طباق بعضها فوق بعض كما قال : {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك : 3] .
والظاهر من معنى تزيينها بمصابيح وهي الكواكب كما قال : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات : 6] أن الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلقة ولو كانت متفرقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفافة كما قيل كانت زينة لجميعها ولم تختص الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل : إنها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدت زينة لها .
وأما قوله : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح : 15 ، 16] فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل والنهار كقوله : {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ : 13] .
وقوله : {وحفظا} أي وحفظناها من الشياطين حفظا كما قال : {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر : 17 ، 18] .
وقوله : {ذلك تقدير العزيز العليم} إشارة إلى ما تقدم من النظم والترتيب .
كلام فيه تتميم
قد تحصل مما تقدم : أولا : أن المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست بنص - أن السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم والكواكب فوقنا .
وثانيا : أن هذه السماوات السبع المذكورة جميعا من الخلق الجسماني فكأنها طبقات سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منا عالم النجوم والكواكب ، ولم يصف القرآن شيئا من السماوات الست الباقية دون أن ذكر أنها طباق .
وثالثا : أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلوية أو خصوص بعضها كالشمس والقمر أو غيرهما .
ورابعا : أن ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة وأنهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له ويعرجون إليها بكتب الأعمال ، وأن للسماء أبوابا لا تفتح للكفار وأن الأشياء والأرزاق تنزل منها وغير ذلك مما تشير إليه متفرقات الآيات والروايات يكشف عن أن لهذه الأمور نوع تعلق بهذه السماوات لا كتعلق ما نراه من الأجسام بمحالها وأماكنها الجسمانية الموجبة لحكومة النظام المادي فيها وتسرب التغير والتبدل والدثور والفتور إليها .
وذلك أن من الضروري اليوم أن لهذه الأجرام العلوية كائنة ما كانت كينونة عنصرية جسمانية تجري فيها نظائر الأحكام والآثار الجارية في عالمنا الأرضي العنصري والنظام الذي يثبت للسماء وأهلها والأمور الجارية فيها مما أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصري المشهود .
أضف إلى ذلك ما ورد أن الملائكة خلقوا من نور ، وأن غذاءهم التسبيح ، وما ورد من توصيف خلقهم ، وما ورد في توصيف خلق السماوات وما خلق فيها إلى غير ذلك .
فللملائكة عوالم ملكوتية سبعة مترتبة سميت سماوات سبعا ونسبت ما لها من الخواص والآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلو والإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلا للفهم الساذج .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص294-301 .
2- ظاهر الآيتين وان كان اختصاصهما بذوي العقول لكنهما وخاصة الثانية تفيدان ان المراد بالسؤال هو الحاجة والاستعداد وعليه فالآية تعم للنيات والاتيان بضمير أولي العقل للتغليب .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
مراحل خلق السماوات والأرض :
الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية ، وعلائم العظمة ، وقدرة الخلق جلّو علا في خلق الأرض والسماء ، وبداية خلق الكائنات ، حيث يأمر تعالى النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بمخاطبة الكافرين والمشركين وسؤالهم : هل يمكن إنكار خالق هذه العوالم الواسعة العظيمة؟
لعلّ هذا الأسلوب يوقظ فيهم إحساسهم ووجدانهم فيحتكمون للحق .
يقول تعالى : {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} . وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر : (وتجعلون له أنداداً) .
إنّه لخطأ كبير ، وكلام يفتقد إلى الدليل . {ذلك ربّ العالمين} .
إنّ الذي يدبّر أُمور هذا العالم ، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق ، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته ؟!
إنّ الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير ، ويملك هذا العالم ويحكمه .
الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية ، حيث تقول : {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيّام} وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين : {سواء للسائلين} (2) .
وبهذا الترتيب فإنّ تبارك وتعالى قد دبّر لكلّ شيء قدره وحاجته ، وليس ثمّة في الوجود من نقص أو عوز ، كما في الآية (50) من سورة «طه» حيث قوله تعالى : {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] .
المقصود من «السائلين» هنا هم الناس ، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات
[وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقل فهي من باب التغليب] .
ووفق هذا التّفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب ، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً .
وهنا يثار هذا السؤال : تذكر الآيات القرآنية ـ أعلاه ـ أنّ خلق الأرض تمّ في يومين ، وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيّام . وبعد ذلك خلق السماوات في يومين ، وبذا يكون المجموع ثمانية أيّام ، في حين أن أكثر من آية في كتاب الله تذكر أنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيّام ، أو بعبارة اُخرى : في ستة مراحل (3) ؟
سلك المفسّرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال :
الطريق الأوّل : وهو المشهور المعروف ، ومفاده أنّ المقصود بأربعة أيّام هو تتمة الأربعة أيّام ، بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض ، وفي اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض . مضافاً إلى ذلك اليومين لخلق السماوات ، فيكون المجموع ستة أيّام أوست مراحل .
وشبيه ذلك ما يرد في اللغة العربية من القول مثلا بأنّ المسافة من هنا إلى مكّة يستغرق قطعها عشرة أيّام ، وإلى المدينة المنورة (15) يوماً ، أي إنّ المسافة بن مكّة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكّة عشرة أيّام(4) .
وهذا التّفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في ستة أيّام ، وإلاّ ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له ، من هنا تتبين أهمية ما يقال من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً .
الطريق الآخر الذي اعتمده المفسّرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم : إنّ أربعة أيّام لا تختص ببداية الخلق ، بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة ، والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان والحيوان(5) .
لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه ، فإنّه أيضاً يقصر «اليوم» فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب ، لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط ، بينما لاحظنا أن «يوم» في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة!
مضافاً لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض ، ويومين آخرين لخلق السماوات ، أمّا اليومان الباقيان اللذان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما» فليس هناك إشارة إليهما!
من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود .
وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم» في الآيات أعلاه هو حتماً غير اليوم العادي ، لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض ، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحياناً ملايين بل وبلايين السنين . (6)
_____________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص152-154 .
2 ـ هناك احتمالات متعدّدة حول محل (سواء) و(للسائلين) من الأعراب وبما تختص .
الأوّل : أنّ (سواء) حال بـ (أقوات) و(للسائلين) متعلق بـ (سواء) وتكون النتيجة هي التّفسير الذي أوردناه أعلاه .
الثّاني : أنّ (سواء) صفة للأيام ، يعني أنّ هذه المراحل الأربع تتساوى فيما بينها . وأما (للسائلين) فإما أن تتعلق بـ (قدر) أو بمحذوف ويكون التقدير (كائنة للسائلين) يعني أنّ الأيّام الأربع هذه تعتبر جواباً للسائلين . لكن التّفسير الأوّل أوضح .
3 ـ يمكن مراجعة الآيات (54) من سورة الأعراف و(3) من سورة هود و(59) من سورة الفرقان و(4) من سورة السجدة و(38) سورة ق و(4) من سورة الحديد .
4 ـ في ضوء هذا التفسير يكون للآية تقديرها بالصيغة الآتية . . . وقدّر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيّام أو يكون التقدير كما جاء في تفسير «الكشاف» : «كل ذلك في أربعة أيّام» .
5 ـ ثمّة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم .
6 ـ راجع الآية (54) من سورة الأعراف .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|