المسؤولية الجنائية - الاتهام الجنائي في النظام الدستوري البريطاني
المؤلف:
محمد عبد الكاظم عوفي
المصدر:
مسؤولية الحكومة السياسية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005
الجزء والصفحة:
ص31-33
2025-12-07
46
الاتهام الجنائي : عبارة عن نظام ذو صفة مختلطة (جنائية وسياسية) ، يستطيع مجلس العموم بمقتضاه أن يضع الوزراء ومستشاري الملك موضع الاتهام ، إذا ارتأى إنهم قد ارتكبوا جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات ، تمهيدا لإحالتهم إلى مجلس اللوردات ليتولى الأخير محاكمتهم عن تلك الجرائم وفرض العقوبات بحقهم ، والتي تبدأ بالغرامة والمصادرة وصولا إلى السجن والنفي بل وقد تصل هذه العقوبة إلى الإعدام ، وظهر هذا النظام خـلال القرن الرابع عشر كأداة لفرض رقابة عــلى أعضاء المجلس الخـــاص – الذي يمثل النواة الأولى للوزارة البريطانية – ورجال التاج بصفة عامة(1). وأساس سلطة مجلس العموم في اتهام الوزراء يكمن في وجود هيئة المحلفين (Jury) وهي هيئة قائمة في كل مقاطعة من المقاطعات الإدارية التي تتألف منها المملكة البريطانية يتم اختيار أعضائها من بين شعب المقاطعة لتتولى الاتهام الجنائي للأفراد العاديين، ولما كان مجلس العموم يمثل مقاطعات المملكة كافة، فقد عهد إليه بمهام هيئة المحلفين على مستوى المملكة بأكملها ، ومن ثم فأصبح هو المختص باتهام الوزراء . وأما بالنسبة لأساس سلطة مجلس اللوردات في محاكمة الوزراء بعد اتهامهم من قبل مجلس العموم فيرجع إلى إن المجلس الكبير – قبل تطوره وتحوله إلى مجلس اللوردات - كان هو الهيئة المختصة بمحاكمة رجال الدولة سابقا(2). وكان أول اتهام بهذه الطريقة هو اتهام اللورد لاتمير (Lord Latimer) مستشار الملك سنة 1376 بسبب عدائه لفكرة الإصلاح الديني وقد حكم عليه بالغرامة والعزل ، واستمر تطبيق هذا الاتهام لمدة طويلة حتى توقف البرلمان عن استخدامه سنة 1479 خلال فترة حكم أسرة آل تيودور (1485-1603)(3). وتكمن الأسباب وراء هذا التوقف إلى عدة عوامل ، منها التوافق ما بين هذه الأسرة وبين البرلمان من جهة ، ومن جهة أخرى ظهور إجراء آخر إلى جانب الاتهام الجنائي وهو ما يسمى الإعدام المدني (Act of attainder) وهو أجراء أكثر فاعلية من الاتهام ، يمكن بمقتضاه إعدام أي شخص أو نفيه أو مصادرة أمواله ، نتيجة ارتكابه أفعالا معينة دون محاكمة ، حتى ولو لم تكن القوانين تعاقب على تلك الأفعال ، فالإعدام المدني ليس حكما وإنما هو بمثابة قانون خاص وشخصي يصدره البرلمان بأثر رجعي ضد شخص معين لتجريم واقعة غير معاقب عليها في قانون الـعقوبات وقت ارتكابها(4). ولكن الاتهام الجنائي ما لبث ان عاد للظهور مرة أخرى خلال فترة حكم أسرة آل ستيوارت (1603-1688) ، إذ شهد عهد هذه الأسرة العديد من الاتهامات الجنائية وذلك بسبب شدة النزاع بينها وبين البرلمان ، حتى أطلق على الفترة من (1621 - 1702) (عصر الاتهام) ، إذ بلغ مجموع حالات الاتهام الجنائي التي حدثت في التاريخ البريطاني حوالي (70) حالة قد شهدت الفترة ما بين (1640 و1642) لوحدها ربع تلك الحالات(5). وكان سبب ذلك النزاع هو قيام الملك بتشكيل لجنة خاصة من بين أعضاء المجلس الخاص لاستشارتهم في الأمور المهمة التي تخص شؤون الدولة ، وسميت هذه اللجنة باسم (لجنة الدولة) (The committee of state) ، ولم تكن هذه اللجنة وأعضاؤها محل ثقة البرلمان ، لأنه كان يجب على الملك اختيار وزرائه ممن يثق فيهم البرلمان ، وإلا تعذر على البرلمان تأييد سياسته(6). ولذلك فقد وجد مجلس العموم في طريقة الاتهام الجنائي وسيلة فعالة للتأثير على الملك والوزراء ، وإكراههم على السير في سياسة معينة ، إذ انه كان يكتفي بتوجيه الاتهام إليهم لإحالتهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات . ورغم أهمية هذا النظام إلا انه كان يشوبه بعض العيوب التي أثرت في مدى فاعليته ومنها :-
1- إنه لا يستعمل إلا إذا كان الفعل الذي ارتكبه الوزير يشكل جريمة ينص عليها قانون العقوبات ، في حين إن أخطاء الوزير لم تكن تشكل جريمة يعاقب عليها القانون ، لذلك لم يكن بالإمكان تطبيق نظام الاتهام الجنائي بحقه(7).
2- إن الملك كان كثيرا ما يحول دون اتهام ومحاكمة الوزراء الذين كانوا محل ثقته ، وذلك من خلال عدة وسائل منها ، اللجوء إلى حل مجلس العموم أو تأجيل دورات انعقاده ، فضلا عن لجوئه إلى استخدام حق العفو عن الوزير بعد الحكم عليه من قبل مجلس اللوردات ، مما كان يعرقل إجراءات اتهام ومحاكمة الوزراء ، لذلك سعى البرلمان إلى توسيع سلطاته وتضييق سلطات الملك ، وكان لهذا السعي أثره في تطور المسؤولية السياسية(8).
3- كانت المسؤولية وفق هذا النظام ذات طبيعة فردية تقتصر فقط على الوزير الذي يرتكب الجريمة ، ولا تؤدي بالتالي إلى المسؤولية التضامنية للوزارة بكامل هيئتها ، فلم تكن الوزارة في ذلك الوقت مسؤولة كوحدة متضامنة ومتجانسة ، بل كان الوزراء لوحدهم هم الذين يتحملون هذه المسؤولية باعتبارهم من موظفي التاج(9).
4- تنصل مجلس اللوردات في اغلب الأحيان من ممارسة اختصاصه بمحاكمة الوزراء بعد اتهامهم من قبل مجلس العموم ، إذ كان هذا المجلس يتذرع بان تلك المسائل لا تدخل في اختصاصه وأنما تكون من ولاية المحاكم العادية ، فضلا عن أن جسامة العقوبة التي كان من الممكن إن يحكم بها على الوزير ، كانت عاملا أساسيا في حذر المجلس المذكور من محاكمة الوزراء ، الأمر الذي كان ينتهي في النهاية إلى عدم محاكمة هؤلاء وإدانتهم(10).
_____________
1- د. عفيفي كامل عفيفي ، الأنظمة النيابية الرئيسية نشأتها-تطورها- تطبيقاتها (دراسة تحليلية مقارنة) ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، 2002 ، ص 174.
2- د. ادمون رباط ، الوسيط في القانون الدستوري العام ، الطبعة (3) ، الجزء الأول ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، 1983 ، ص 141 وما بعدها ، وكذلك د. وحيد رأفت و د. وايت إبراهيم ، الــــقـــــانون الــــــــــدستوري ، المطبعة العـــــصرية ، الـــــــــــــقاهرة ، 1937. ص 373.
3- H . W . Bradley : Constitutional And Administrative Law , 10 thed , London , 1985 , p. 105.
4- د. السيد صبري ، حكومة الوزارة ( بحث تحليلي لنشأة النظام البرلماني في انجلترا) ، المطبعة العالمية ، القاهرة ، 1953 ، ص 108.
5- د. ادمون رباط ، الوسيط في القانون الدستوري العام ، الجزء الأول (الدول و انظمتها)، الطبعة (3) ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ,1983 ، ص 144.
6- د. عفيفي كامل عفيفي ، مصدر سابق ، ص 174.
7- د. السيد صبري ، مبادئ القانون الدستوري ، مكتبة عبد الله وهبة ، القاهرة ، 1944، ص 194.
8- د. محسن خليل ، النظم السياسية والدستور اللبناني ، دار النهضة العربية ، بيروت ، لبنان ، 1979 ، ص 306.
9- د. محمد عبد الحميد أبو زيد ، توازن السلطات ورقابتها (دراسة مقارنة) ، دار النهضة العربية ، القاهرة ،2003. ص 132.
10- د. خالد عباس مسلم ، حق الحل في النظام النيابي البرلماني ( دراسة مقارنة) ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، 1997 ، ص 29.
الاكثر قراءة في القانون الدستوري و النظم السياسية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة